الخميس 21 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بصرى الشام حاضنة التاريخ وقبلة المصطافين

بصرى الشام حاضنة التاريخ وقبلة المصطافين
16 ابريل 2010 20:30
مع بداية فصل الربيع من كل عام، تبدأ الرحلات السياحية الداخلية والخارجية بالتوافد إلى مدينة بصرى الأثرية السورية، لتشهد إقبالاً كثيفاً من السياح في هذه الفترة من السنة يستمر حتى نهاية الصيف. ولعل أبرز ما تشتهر به بصرى هو مسرحها الضخم، الذي يعد من أجمل المسارح التي بنيت في بداية العهد الروماني وأكملها على الإطلاق، فقد صمد أمام عاديات الزمن والحروب والزلازل، وحافظ على روعة بنائه وبهائه طوال أكثر من ألف وثمانمئة عام. تقع مدينة بصرى على هضبة حوران، وتبعد مسافة 140 كم إلى الجنوب من دمشق، ومسافة 40 كم إلى الشرق من مدينة درعة، وهي عاصمة العرب الأنباط، وعاصمة المقاطعة العربية التي تشمل بلاد الشام والجزيرة العربية في الإمبراطورية الرومانية. وتعد واحدة من أقدم المدن في بلاد الشام. وكثيراً ما يخطئ البعض فينسب مدرج بصرى إلى الرومان، لكن الحقيقة أن مصمم هذا الصرح المعماري العظيم هو المهندس البارع أبولودورو الدمشقي، الذي وظف علوم الفيزياء في إبداعه المعماري، فوضع للمسرح تصميماً فريداً من نوعه في ذلك الزمن، بحيث يصل صوت الممثل إلى آخر مشاهد في الصفوف الأخيرة من المدرج، من خلال استخدامه لرفاريف حجرية، تقوم بوظيفة تضخيم الصوت.بني مسرح بصرى على أنقاض قلعة نبطية خلال حكم الإمبراطور الروماني تراجان الذي احتل بصرى عام 106 ميلادي، عندما كانت عاصمة للعرب الأنباط في عهد آخر ملوكهم رعبيل الثاني، وأذهل هذا التصميم الفريد الرومان، فقاموا باستدعاء أبولودورو إلى روما، وهناك صمم الكثير من الصروح المعمارية المعروفة، فبنى أول جسر على نهر الدانوب وهندس عمود تراجان في روما، وغيرها الكثير. أقسام المسرح ونحت مسرح بصرى من الحجر البازلتي الأسود، وهو يتسع لأكثر من خمسة عشر ألف متفرج، ويبلغ ارتفاع جدرانه نحو 22 متراً وعرضه 54 متراً وقطره حوالي المائة متر. ويتألف من ثلاثة أقسام هي منصة التمثيل المزينة بمحاريب وأبواب كبيرة، والمدرج الذي يتألف من سبعة وثلاثين درجة، وساحة تتوسطهما على شكل نصف دائرة، كانت مخصصة لجلوس العازفين وإقامة الشعائر الدينية، ويتميز بكثرة مداخله، بحيث يمكن للجمهور أن يخلي المسرح خلال عشر دقائق فقط. وحافظ مسرح بصرى على معظم أجزائه، حتى أنه يعد اليوم المسرح الأكمل من نوعه في العالم. ويُرجع عدد من المختصين ذلك إلى إنشاء القلعة من حوله، بجدرانها وأبراجها الأيوبية الأحد عشر، والتي أسهمت إلى حد بعيد بالحفاظ عليه، ولاسيما أن المسرح جرى إلغاء دوره في بعض المراحل التاريخية وأقيمت في تجويفه أبنية أخرى، ظلت موجودة حتى خمسينيات القرن الماضي، حيث جرت إزالتها في عملية ترميم واسعة وعلى عدة مراحل، لكشف المسرح المتواري تحتها. تراث عالمي تعد مدينة بصرى متحفاً تاريخياً مفتوحاً، وتصنفها منظمة اليونيسكو ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، حيث تتجاور فيها الآثار العائدة إلى حضارات وعصور مختلفة، فهناك الأبنية والمعابد الوثنية والحمّامات والمدارس والقصور الملكية، مثل القصر الإمبراطوري، والمعبد النبطي، وسرير بنت الملك، ومعبد حوريات الماء، وحوض الألعاب المائية، وقوس النصر الروماني الذي يخلد ذكرى انتصار جوليوس جوليانوس أحد قادة الإمبراطور فيليب العربي، وكذلك الكنائس والمساجد، ولاسيما دير الراهب بحيرا والكاتدرائية التي يشكل أسلوب بنائها نقطة تحول تاريخية وجذرية في أساليب العمارة الكنسية في العالم، باعتبارها أول كنيسة تظهر فيه القبة، وانتقل هذا التطور في العمارة إلى الأبنية الإسلامية فيما بعد. ومثلت بصرى منذ القرن الرابع وحتى السابع الميلادي مركزاً مسيحياً مهماً، وفيها التقى رسول الله محمد صلى الله وسلم بالراهب النسطوري بحيرا الذي تنبأ بنبوته، خلال إحدى رحلاته التجارية بين دمشق ومكة، ومازال دير الراهب بحيرا شاهداً على هذا الحدث الديني والتاريخي الهام، كما بني في المكان الذي بركت فيه ناقة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مسجداً جامعاً يسمى “مبرك الناقة” وإلى جانبه مدرسة، وهناك أيضاً جامع “العروس” أو الجامع العمري الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أول مسجد يبنى في بلاد الشام، وواحد من ثلاثة مساجد مازالت تحتفظ بالطراز الإسلامي القديم، إلى جانب مسجد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ومسجد عمرو بن العاص في مصر. وتضم بصرى أيضاً الكثير من الأبنية والمواقع الأثرية التي تشهد على أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة في تاريخ المنطقة والعالم. خفايا وأسرار نظراً لما تحتله مدينة بصرى من مكانة تاريخية، وما تضمه من صروح أثرية عظيمة، يقام فيها في العصر الحديث مهرجان سنوي دولي خلال الصيف، يشارك فيه مطربون عرب وفرق فنية وفولكلورية عربية وأجنبية، ويتضمن عروضاً مسرحية، ومعرضاً للخيول العربية الأصيلة، ومهرجاناً للشعر النبطي، وعروض سيرك عالمية، ومعارض للكتب والحرف اليدوية التقليدية، وقد أصبح لهذا المهرجان سمعة عالمية، حيث شاركت فيه حتى الآن فرق عربية وأجنبية من الإمارات ومصر والأردن ولبنان والهند وإيطاليا واليونان وفرنسا وإسبانيا وبلجيكا وروسيا وهولندا وغيرها الكثير. وبالتوازي مع ذلك تجد المدينة التاريخية إقبالاً كبيراً من السياح وعشاق الآثار الباحثين في خفايا الأساطير القديمة، فبصرى منجم حقيقي للمنقبين في التاريخ، ويتفق الآثاريون على أنها مازالت تخفي في سراديبها وثراها الكثير من الحكايات والأسرار. بصرى في التاريخ يعني اسم بصرى الحصن أو المدينة المحصنة، ولا يعرف بالضبط متى استوطن الإنسان فيها، فتاريخها يعود إلى عصور موغلة في القدم، ويشير بعض الباحثين إلى أنها كانت مسكونة في العصور الحجرية، لكن أقدم ذكر لها ورد في ألواح فراعنة مصر تحوتمس الثالث وأخناتون، وفي رسائل تل العمارنة، وكذلك على قاعدة تمثال للفرعون أمينوفس الثالث، وتعاقبت عليها حضارات كثيرة، كالكنعانيين والأكاديين والعموريين والآراميين والآشوريين والكلدانيين والأنباط، حيث كانت مدينة العرب الأنباط الأولى منذ القرن الثاني قبل الميلاد، وعرفت في ذلك الزمن باسم “بوحورا” وبلغت شأواً عظيماً في القرن الأول الميلادي، فيما حملت في زمن اليونان اسم “بوسورا”، وفي زمن الرومان “بوسترا”. وبلغت بصرى ذروة من ذرا مجدها خلال القرن الثالث الميلادي في عهد إمبراطور روما العربي الأصل فيليب الأول ابن بلدة شهبا القريبة من بصرى، والذي أعطاها درجة عاصمة.
المصدر: دمشق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©