«إن الغجري الإسباني على العموم، يشعر بالفضول تجاه جذوره العرقية. وعندما تسأله عن ذلك، عادة ما تكون الإجابات متنوعة جداً: جئنا من مصر» (1)
وليس الغجري وحده من يشعر بالفضول اتجاه جذور الغجر، بل يمتد ذلك إلينا أيضاً، فلطالما أدهشتنا المزايا السحرية الانخطافية في شخصية الإنسان الغجري، وبأبدية الترحال والتنقل التي نهجوا عليها منذ أزمنة بعيدة، وهذا ما يحملنا إلى السؤال دائماً عن الموطن الأصلي لهؤلاء الناس المتّصفين بالعناد الجذّاب والتعصّب لعاداتهم واعتقاداتهم والتشبث بحياة الترحّل.
عودة إلى الاقتباس الذي أوردته في الأعلى والذي ينفتح على تساؤل كبير عبر استعادة فكرة كانت معززة قبل قراءتي لهذا الكتاب، كنتُ أظن أن أصول الغجر عائدة حسب الفرضيات السالفة إلى الهند وما وراء النهر وإيران، أو إلى الصين ودول شرق آسيا، أو إلى منغوليا، فالملامح الغجرية إضافة إلى عادات العيش والسمات المغايرة لتواصلهم مع الآخرين والروحية التجوالية، والاستزادة من مباهج الحياة بالطرق العجائبية، والانطلاق إلى الفضول والمجهول، وحفظهم للحكايا، وإتقانهم للرقص والغناء والتنبؤ، والتحرر من التبعية الدينية، والتسليم بمشيئة الرّب، والإيمان بأن نهاية الطريق في هذه الحياة حسب معتقدهم يودي إلى مرج كبير، مراعي وضفاف على جانبي نهر، لا إلى الجنّة ولا إلى الجحيم.. كل هذا المزيج التركيبي الساحر في كينونة الإنسان الغجري يدعونا إلى البحث الذي يضفّر السؤال: من أين أتى الغجر؟، وعدم التسليم بأي تأكيد أو اقتراح جزميّ، فالحديث عن أصول الأعراق من الموضوعات الشائكة التي تستوجب تحرير العقل من التعصب، وعدم المجازفة في طرح المطلق والقطعي. ولعل ما لفت انتباهي في مقدمة كتاب «حكايات غجر إسبانيا الشعبية» هو أن المؤلف فتح إدراكاً جديداً عبر ما تناقله الغجر من الفم إلى الأذن حول أصولهم الأولى، وأنهم يعتقدون، بل يجزمون بأن مصر السفلى كانت الموطن الأول لهم، ومنها خرجوا إلى العالم وفق عذر ديني متوارث عبر الزمن حسب ما أطلعنا عليه المؤرخ البافاري خ. آفنتينو في القرن السادس عشر: «يقولون إنهم جاؤوا من مصر، وأنهم كانوا مجبَرين بإرادة الرّب على العيش منفيين، ويتظاهرون بأن نفيهم لسبع سنين ليدفعوا فيها ثمن آثام أجدادهم الذين لم يرغبوا في استضافة العذراء مريم والمسيح». (2)
أعذار وخيالات
وهكذا وضع الغجر لأنفسهم عذر الانتساب إلى مصر القديمة بتوليف حكاية الطرد والنفي والعقوبة بالتشرّد والبطالة المحكومة بالأبدية، وكان ذلك ذريعة يحتمون بها ضد من ينسب إليهم البطالة والتيه والتسوّل، وكأنها لعنة لن يخرجوا منها مهما ابتدعوا من مكفرات الآثام وحكايات الغفران.
في حين أنهم لم ييأسوا من شحذ حكايات قصيرة جداً يبتدعون فيها عبر مخيالهم وثقافتهم البسيطة بالدين المسيحي أحداثاً تربطهم بالمسيح وتحررهم من عبء تاريخهم الثقيل والملتبس بالخطيئة المزعومة حين كانوا في مصر السّفلى.
تقول الحكاية الغجرية: عندما صعد المسيح درب الآلام وعلى كتفه الصليب، راح يطلب الماء ولم يمن عليه أحد بشربه. وعلى هضبة كانت تقف مجموعة من الغجر، ولما سمعوا المسيح يتألم راحوا وبسرعة يبحثون عن الماء، وقدموه له. ارتاح يسوع وتوقف لشرب الماء، وللتعبير عن امتنانه للمسة الإنسانية التي تعاملوا بها معه، قال لهم: «أنتم أيها الغجر، لتحل عليكم بركاتي، ستأكلون ولكنكم لن تعملوا، وذريتكم ستأكل، ولكن لن تعمل أبداً».
تتضح علة التلفيق في هذه الرواية الغجرية ذات السطوة الدينية، فقد اعتقدوا بها أن الرّب قد منحهم البركة والمال والطعام دون حاجتهم إلى العمل، وهذا مناقض للواقع، فأغلبنا يعلم بالمعاناة التي يرزح تحت وطأتها غجر العالم من بطالة وفقر وتشرّد ومرض جرّاء ركونهم إلى الرّاحة والتسوّل.
ولعل عقد النقص في أي شعب من الشعوب قد تجسّر المسافة بين ضفتين: ضفة مثالية يتحوّل فيها النقص إلى إبداع وتحدٍ لإثبات النفس وذلك عبر سبل إيجابية كثيرة، منها ابتداع موروث ممتد من الحكايات الخارقة أو الولوج في عالم الفن والجمال والموسيقى والترحال بغية التحرر والانتشاء الرّوحي.
والضفة الثانية متمثلة بتحوّل عقدة النقص إلى عدوان وارتكاب النصب والسرقة والشعوذة، وقد تفنن الغجر في هذا أيضاً، إلا أننا قد نرى المرأة الغجرية متمكنة في تحويل العدوان إلى عدوان إبداعي مثير ومغري وصارخ وصاخب، سواءً في شعرها الغجري الطويل الذي تتعمّد استرساله وإضفاء شيء من التوحّش المثير على ملامحها أو عبر لبسها المزركش المنتشر في الرّيح بألوانه المبتهجة، أو عن طريق رقصها الجامح برقصة الفلامنكو، معتمدة على قوتها الجسدية إضافة إلى ضرب كعبها العالي في الأرض أثناء الرقصة، مترجمة كبرياءها ومشاعرها إلى ثورة على القيود.
عودة إلى موضوع النسب الغجري والحكايات، فإذا كان الغجر ينسبون أنفسهم إلى موطن الفراعنة، فهذا مدعاة للبحث حول مدى وجود مشتركات حكائية ووحدة تعبيرية ومضمون ثنائي ما بين حكايا الغجر وحكايا الفراعنة، هل ثمة ملامح فرعونية في حكايات الغجر؟ وهل تتقاطع الأسطورة الغجرية بشيء من أساطير العالم؟
عالمية الحكاية
لماذا نحن نتشارك؟ حاول سكان أستراليا الأصليين الإجابة على ذلك، فاعتقدوا: أن الأساطير هي أحلام البشر، خُلِقت في الزمن الذي خُلِق فيه العالم، وشكّل الأجداد الأرض.
وذلك مدعاة للتصوّر بأننا تشاركنا الحكاية قبل البداية، قبل أغنية الدّروب، حين كنا في الأعماق شعباً واحداً، في العراء الزمنيّ، زمن الحُلم، وذلك الحلم ليس حدثاً في الماضي البعيد، بل حاضر خالد متجوّل بيننا، جزء من «السرد» الذي يشكل رباطاً حيّاً بين الناس والأجداد الخالدين والأرض، إن الحكاية هي صوت الأعماق، صوت الأرواح حين كانت خارج القفص الأرضي.
وقف آخر قائد من الإنويت، يُدعى أنارو لانجواك، على ناطحة سحاب في نيويورك، وصرّح بهذه العبارة التي وكأنها تحتمل تفسيراً آخر، تفسير أزلي ما ورائي لعلة لتشاركنا في الحكاية: «الطريقة الوحيدة ليحمي الإنسان نفسه من الجنون، هي أن يفترض أننا متنا جميعاً فجأة قبل أن ندري، وأن هذا جزء من حياة أخرى» (3)
تكاد الحكايات الشعبية للغجر أن تتداخل كثيراً مع حكايات معروفة عند شعوب العالم، ولاشك أن الشعوب تتشارك في أشكال التعبير الشعبي وتتشابه في المضمون، وقد يرجع البعض أسباب ذلك التماثل والتداخل الكبير إلى حركة انتقال التعبير الشفاهي من شعب لآخر، بحكم أن الإنسان محكوم بالرّحلة والهجرة، وبالتالي فإنه ينقل ويستورد ويصدّر الحكايات، ويقتبس ويضمّن ويحوّر حسب ما يتناسب مع بيئته وعقيدته وتاريخه وثقافة مجتمعه بشكل عام.
حقيقةً.. إن مفهوم عالمية التعبير الأدبي الشعبي يتعدّى مفهوم انتقال وترحل الشعوب إلى أسباب ومفهومات أكثر خصوصية وعمقاً وخفاءً، نحتاج في البحث عنها إلى أبحاث نظرية وتطبيقية، فإدراك القريب والمحليّ لا يمكن أن يتم إلا في إطار البعيد والغريب والمضمر ومعرفة القوانين التي تتحكم بعالمية التراث الشعبي.
أُجريت أبحاث كثيرة وطرحت في الثقافة الشعبية نظريات عميقة تنبش في السر الجامع بين تراث الشعوب، وتلتمس العلل والأسباب التي تعزز فكرة تشابه القص الخرافي، منها ما يتعصّب إلى الأصل المحلي والموطن الحقيقي للحكاية، التي تنتقل فيما بعد إلى العالمية، مثل نظرية الأخوين الألمانيين (غريم) التي تُرجع الحكايات الخرافية إلى شكلها البالغ في القدم والذي يعود إلى العصر (الهندو جرماني) المتكون من قبائل أسمتها الرّومان بالبرابرة، وذهب الأخوين (غريم) إلى اعتبار أن كل حكاية شعبية عالمية محوّرة هي في الأصل حكاية هندو جرمانية (بربرية).
ونظريات أخرى تخطو بخطوة أبعد من المحلية والتعصب حول الموطن الأول للحكايات، وتتجه منذ البدء إلى الروح العالمية في الحكايات، واللاوعي الجمعي، أو إلى الوحدة الفكرية في العقل الجمعي الواحد عند العالم السويسري (أندريه يولس)، إضافة إلى وحدة التصورات الدينية وتضافر القوانين الكونية والعلل الوجودية الخفية الجامعة لوعي الشعوب.
ومنها أيضاً نظرية العالم الفرنسي (بيدييه) الذي ارتأى أن التشابه أساسه اشتراك شعوب العالم القديم في أفكار إنسانية وظروف فكرية واحدة، مسقطاً فكرته تلك على عالم النبات، «وهي أنه كما ينمو النبات الواحد، مع اختلاف يسير في شكله، في الأمكنة المتماثلة جغرافياً ومناخياً على خريطة العالم، كذلك تظهر في الظروف الروحية والفكرية المتماثلة عند شعوب العالم نماذج متماثلة في التعبير، وبناء على ذلك فإنه من الممكن أن تظهر الحكايات الخرافية التي تتشابه في كثير أو قليل في جميع أنحاء العالم». (4)
3 قوانين
وفي الفكرة ذاتها نبش العالم الألماني (هانز ناومن) وسعى إلى طرح مسألة التشابه على الرغم من الاستقلال، ومرجعية ذلك حسب رؤيته هي نشأة التصورات المتشابهة في المجالين المادي والروحي على السواء، ووفقاً للقوانين الطبيعية التي توحّد الأجناس المختلفة والشعوب المستقلة عن بعضها البعض، فليس تشابه الحكايات قائم فقط على التأثر والتأثير بين الشعوب، وإنما هناك قوة تكوينية غريزية خفيّة من شأنها أن تعيد دمج العالم في خيال موحّد وفي بوتقة قصصية سردية واحدة.
في عام 1909 نشر (أكسل أولريك) بحثاً في المجلة الألمانية للدراسات الألمانية القديمة تحت عنوان: «القوانين الملحمية للقص الشعبي» وقد قصد القصة الشعبية بشكل عالمي، ولم يتقصّد التخصيص. وتلخص الباحثة د. نبيلة إبراهيم، في كتابها «الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق»، تلك القوانين، أذكر منها ثلاثة على سبيل المثال ولعدم اتساع المجال:
1) قانون البداية والنهاية: البدء من السكون ومن ثم التوتر والإثارة، وانتهاءً بالعودة إلى حالة السكون الأولى.
2) قانون التكرار: كأن يقوم البطل بفعل ما أكثر من مرة حتى ينجح فيه، أو يقوم أكثر من شخص بالفعل نفسه ولكن لا ينجح فيه سوى البطل.
3) قانون الثلاثة: الفعل في الحكاية يتكرر على الأغلب ثلاث مرات، أو أن الأخوة الثلاثة يقومون بفعل واحد ولا ينجح فيه إلا الأخ الأصغر.
المزيد من الأبحاث التي ظهرت في هذا المجال وناقشت العلل المفترضة وراء عالمية التعبير الشعبي، وما تزال مكثفة ومستطردة، نشأ أكثرها في العصر الحديث متأثراً بتقدم الدراسات اللغوية الحديثة، ومسايراً لتطور الفكر الفلسفي، وأصبحت مرجعاً لدارسي الأدب واللغة، لا على مستوى الأدب الشفاهي ولغة الكلام فحسب، بل أيضاً على المستوى التعبيري الأدبي الذاتي.
تقاطعات قصصية
1) الحكايات الملحمية والرجال الشجعان:
تنطبق على قصص أبطال الغجر تلك الوحدة الملحمية التي تسري في أغلب الحكايات الشعبية التي تمجّد الشجعان إلى حد القداسة، وأعني بالوحدة الملحمية هي أن تبدأ مثلاً الحكاية بتصوير الشر الذي يهدد الأبطال، ثم تتصاعد الأحداث وتتضافر الشخوص في نسج انتصار عظيم ونجاة مؤكدة ونهاية سعيدة للبطل.
في قصص الملاحم الغجرية هنالك تقاطع مع بطولات جلجامش، البطل الأسطوري في الحضارات السومرية القديمة لبلاد الرافدين، من حيث تمجيد البطل ومنحه قدرات خارقة يقاتل بها الوحوش الضارية في الغابات، كما أن قصص أبطال الغجر تكاد أن تتصل بأبطال الإلياذة والأوديسة في أساطير أبطال الإغريق في تفاصيل كثيرة، ولعل أهمها هو الاندفاع إلى المجد والخواء الإنساني في روح الأبطال، والاستهتار بالقتل العشوائي في محاولة نيل الشجاعة المرعبة والتوحش والتعطش لسفك الدّماء، هناك مغالاة في القتل واللامبالاة بالدّمار الروحي الذي تخلفه مشاعر التمتع في الخراب والقتل ولذة مشاهدة الموت، ففي حكاية «تحدي الجمجمة» على سبيل المثال يطلب الرجل من صاحبه في الحانة أن يذهب إلى المقبرة ويأتي إليه بجمجمة بشعرها، استعداداً لأن يشرب النبيذ فيها، ووفق تكثيف عالٍ للحكاية يدور الحوار في أعلى مراتب الرّعب: «سأذهب إلى المقبرة وسأجلب لك جمجمة بشعرها، ولكنك ستشرب فيها النبيذ، وإن لم تفعل، سأكون أنا من يشرب النبيذ في جمجمتك» (4).
كان هذا التحدي الأكبر والأكثر خطورة من المبارزة بالسلاح، وهذا ما حدث، ذهب الصاحب إلى المقبرة، وبحث عن جمجمة وحصل على واحدة بشعرها وحملها معه إلى الحانة، نفّذ الرجل اتفاقه، صبّ النبيذ في الجمجمة وراح يشربه، ويُحكى أنه مات من الرّعب.
وقد برز في هذه القصة حجم الخارق المُرعب المقترن بأبطال الغجر، وكأن الاستهتار الكبير بالحياة والموت إضافة إلى درجة التعدّي على جثث الموتى وأعضائهم، هي من بواعث البطولة والشجاعة والتحدي في تحقيق النصر على الآخر.
2) الحكايات العجيبة المدهشة (صندوق العجائب)
إن أغلب الحكايات الغجرية العجيبة هي أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، من حيث النسيج السحريّ وتقنية التجسيد الدرامي والإيماءات والأحجيات، فهي ذات نمط عجائبي أقرب إلى الحضارات العربية والفارسية والهندية والمصرية.
* في حكاية «الأفعى ذات الرؤوس السبعة» ثمة تقاطع واشتراك مع أسطورة الهندوراس والميثيولوجيا البوذية، حيث تُنسب في كلا العقيدتين أفعى برؤوس سبعة تتصف بقدرات سحرية، وتمتثل في المعابد البوذية الكمبودية كرمز للحماية.
كما أن الأفعى ذات الرؤوس السبعة نجدها في الكتاب المقدّس عند المسيحيين، وظهورها مرتبط بنهاية الأزمنة وظهور المسيخ الدّجال.
في هذه الحكاية أيضاً يتضح أمران: الأول، الأفعى ذات الرؤوس السبعة كرمز بديل عن الموت البشع المُرعب القادم من الغابة.
والثاني، أبناء الأسد كرمز للحماية والذود، إضافة إلى الرّفق الإنساني والقيم النبيلة في حوارية البطل والملك على السّواء، وهذه الحوارية المكتنزة بالنّبل والمشاعر الصوفية والتسامح هي من شيم متصوفة الهند، وكأن الحكاية تكشف عن انتمائها إلى حضارة الهندوراس، بحمولتها الصوفية وقيم الشعور والتسامح والمحبة والغفران عند شعوب الهند.
* حكاية الشجاع مع أصحابه: حيث يفقد الملك إحدى بناته، وحسب ما يقول العامة بأن الملك يظن بأن أحد الشياطين الذين يعيشون في أعماق الأرض، قد قام باختطافها.
قال الملك: «لقد هرمت ولا أجد فارساً من فرسان مملكتي قادراً على النزول إلى بئر الموت».
نلاحظ في هذه الحكاية التقاطع مع فكرة بئر الموت وإمكانية النزول إلى العالم السفلي في ميثيولوجيا بلاد الرافدين حيث نزول إنانا ملكة السماء وإلهة الحب والحرب والطموح، التي تودد لها الراعي تموزي وفاز بها زوجة، تقرر أن تنزل إلى العالم السفلي عالم الموت.
* حكاية (نصائح الأب): وكأنها مستوحاة من القصص الديني المتمثل في حكاية النبيّ يوسف مع أخوته، والنزول في البئر الذي دائماً ما يكون رمز التحوّل والنبوءات والنجاة.
* حكاية خوانيو الصيّاد: القصة بدأت بداية مألوفة ولها اشتراك مع القصة المتعارف عليها (الصيّاد والسمكة الذهبية) أو (الصيّاد وزوجته)، لكنها بعد ذلك تدخل في مسارات عجائبية ملتوية، وبعد الإطار الأصلي للحكاية راحت الحكايات الأخرى الداخلية تتوالد، كل حكاية تُنتج حكاية أخرى، أشبه بالنسق السردي في حكايات ألف ليلة وليلة.
* حكاية سندريلا: وهي قصة متعارف عليها ومشتركة عند الشعوب، ويقال إن مجموعة حكايات سندريلا التي بلغت المائتي حكاية، تعد فرعاً عن الحكاية المصرية القديمة التي تُحكى، نقلاً عن سترابو، أن رودوبيس المصرية الجميلة كانت ذات يوم تستحم في الخلاء، فحط نسر وخطف حذاءها وأسقطه في حجر فرعون، وعندئذ أصرّ فرعون على أن يتزوج من صاحبة هذا الحذاء.
يقال إن هذه الرواية فرع من سلسلة حكايات سندريلا، وترى الباحثة نبيلة إبراهيم أنه محض افتراض: «فكيف يمكننا أن نفسر التغيير الذي طرأ على الرواية الأولى من أن رودوبيس تحولت إلى فتاة مسكينة حُرمت من الأم، ووقعت تحت سطوة زوجة الأب القاسية التي كانت تكلّفها أعمالاً عسيرة؟ وكيف نفسّر تلك الإضافة السحرية عندما نجد أن القوى السحرية تتدخل لتنجز الفتاة تلك الأعمال العسيرة، بل لتجعلها تبدو غاية في الجمال والبهاء، حتى يعشقها الأمير، ويصر على الزواج منها؟» (5)
سندريلا في حكايا الغجر أشبه ما تكون هي نفسها سندريلا في الرواية المصرية السابقة، غير أن هنالك تطورات طرأت على هذه الحكاية التي ولدت أحداثاً مغايرة توافقاً مع البنيات الاجتماعية المتغيرة عند الشعوب، وفقاً للباحث الألماني «هانز هاومن» فإن القديم يتسرب إلى الجديد، فالحضارة تتكون من تراكمات معرفية لها ثقل في ضمير كل شعب، والرصيد القديم يمثل العلة الأولى في تشابه أنماط التعبير الشعبي على مستوى العالم، فهو لا يبقى وحده مستقراً ثابتاً في الأعماق، وإنما يتفاعل مع الرصيد الجديد من المعارف بحكم أنه الجوهر والأصل.
3) حكايات ليل الغجر الطويل:
حكاية الساحرة التي تنكشف في صورة عنز، أتساءل: ما قصة المشترك العالمي في تحوّل السحرة إلى عنز أو إلى قدم عنز؟
نلاحظ هنا مشتركاً تصويرياً مع التراث الشعبي الخليجي أو التأثر بحكاية ألف ليلة وليلة، حيث الساحر العجوز المصاحب للسندباد يتحوّل إلى شيطان في صورة عنزة بشعة ومرعبة.
4) حكايات نور الإيمان:
وقريباً من حالات الاستلهام التي أثرتْ الحياة الفنية في أوروبا، حيث تأتي الحكايات الشعبية كمرجعية أساسية للفنانين في إثراء أعمالهم، وبالفن تعبّر الشعوب عن عراقتها وأصالة حكاياتها، ونجد في الفن الغجري كان أكثرها تأثيراً هي لوحة حكاية البنت التي تُرضع أبيها: اشتهرت هذه الحكاية عند شعوب أوروبا، وكان وصولها إلينا باللوحة أسرع من وصولها كحكاية، رسمها عشرات الفنانين باسم (الفتاة بيرو وأبيها سيمون)، رسم الحكاية روبنز عام 1912، كما أعاد رسمها للمرة الثانية في عام 1630.
ثم رسمها ماكس ساوكو عام 2013، في أمستردام.
الحكاية هنا عند الغجر تضفي شيئاً من الخارق والعجيب، إذ إن الفتاة ترضع والدها السجين والذي حُكم عليه بالموت جوعاً، وتجِبُ معاقبة كل من يشفق عليه ويأتيه بالطعام، فراحت ابنته تدخل عليه السجن وترويه سراً من حليبها. وتكمن المفارقة في حكاية الغجر كونها عذراء، وبمجرد أن ألقمت ثديها للأب صارت مُرضِعة!
إن المشهد المروي والمتحوّل إلى لوحة يحوي طاقة عظيمة من الدهشة والألم، وفي اعتقادي لو تُركت الحكاية طبيعية دون الخارق، لبقيت محافظة على تأثيرها الإنساني الكامن في الألم، ولكانت فرصة لإنتاج البحث والسؤال عن حقيقة الحدث، فحتى لو افترضنا أن الابنة هي أم ومُرضعة في الأساس، ستحتمل القصة أكثر من تأويل وتأثير في وعي ووجدان المتلقي، وسيكون السؤال النابت في بحثه: هل حدثت فعلاً هذه الحكاية؟
في أرجاء الأرض
تنقسم شعوب الغجر أو شعب الرّوما بشكل أساسي إلى الرومن (في أوروبا) والنوار والكاولية والدومر (في الشرق الأوسط)، بعضهم يتكلم لغة مشتركة قد تكون من أصل هندي، وبعضهم لهم ثقافة وتقاليد متشابهة، وحتى أواخر القرن العشرين ظلت شعوب الغجر تعيش حياة التنقل والترحال، وللغجر أسماء مختلفة باختلاف اللغات والأماكن التي يتواجدون فيها، وهم من بين الشعوب التي تعرضت للاضطهاد من قبل الحكم النازي.
التعداد الكلي للغجر يقدر بنحو 10 ملايين، ثلاثة أرباعهم رومن والباقي دومر.
يبلغ تعداد الرّوما الكلي 7,590,000 نصفهم في أوروبا الشرقية. منهم 90.4% مسيحيون و4.4% مسلمون و5.1% بلا دين. وينقسمون إلى عدة مجموعات.
أما تعداد الدومر فهو الكلي 2,563,000، ثلثاهم في الشرق الأوسط (خصوصاً في مصر) والثلث الآخر في آسيا الوسطى (خصوصاً في إيران). الأغلبية الساحقة منهم مسلمون سنّة (هناك نحو 800 مسيحي من نَوَر الأردن والأراضي الفلسطينية). وينقسمون إلى عدة مجموعات.
الملامح العامة للحكايات الشعبية عند الغجر
لاشك أن الحكايات الشعبية العالمية تتشابه في ملامح بنائها وتركيبة القص بما أنها منذ البدء محكومة بالشفوية والتداول اللساني، فربما يحكيها من سمعها، وربما يضيف من عنده، وبوسعي أن ألخص بعض الملامح العامة للحكايات الغجرية، فمنها ما اشترك مع العالمية، ومنها ما كانت له خصوصية متفردة وبصمة غجرية:
* حكايات معززة بالإيمان وتندحر نحو المجال الديني والاعتقاد والسّحر، ثم ترتقي إلى مشاغل واهتمامات روحية طقوسية متعددة.
* وفرة الرّموز، وتحويل الشيء المستحيل ممكناً، والانتقاء من الأشياء الحسية الدقيقة وتحويلها إلى شكل فني مثالي متكامل وملغز.
* ترجمة أغلب الصفات إلى أفعال، فلا يتم الاكتفاء بوصف الشخصية بالكرم أو الجود أو الظلم والبخل مثلاً، بل تتحول هذه الصفات إلى حركة مشهدية في الحكايات، وتصوير الأحداث إلى لوحات ذات طابع تشكيلي، فكأننا نرى المشهد يتحرك أمامنا ونتفاعل معه بالقراءة.
* التنكير: مجمل عناصر الحكاية مجهولة الهوية، المؤلف مجهول، ولا ندري هل الحكايات هي من تأليف فرد من الغجر أم جماعة الغجر، وينطبق الأمر على شخصيات الحكاية، فهم غير معروفين، إذ تغيب أسماء الأعلام، ولا ترد إلا في حالات نادرة، كما يخضع الزمان والمكان لسلطة التنكير.
* الحيلة: فأغلب أبطال الحكايات يستعملون الحيلة لقضاء مآربهم والخروج من المأزق.
وخلاصة القول إن الحكايات الشعبية على الأرجح لا تموت، وتأبى الاندثار، تستمد قوة تدفقها من السيرورات التحديثية للمجتمعات، تتداخل وتنصهر أركانها مع حكايات أخرى، تنمو وتتوالد وتتحوّل شخوصها حالها حال الأساطير، ودوماً ستبقى هناك أشياء ليس بمقدورنا فهمها أو تقديرها، فهي إما قد تشوهت بالترجمة أو بإعادة الرواية الشفوية، ولا شك أننا نتشارك في الأبعاد الخفيّة، حين كانت العين لا تلتقط إلا اللمعان، حيث العالم ألأثيري، عالم المثال، ذلك السطر المجهول، حين كنّا مجتمعين في وعي واحد، هو وعي الله.
...................................................
هوامش
(1) خابيير آسينسيو غاريثيا، حكايات غجر إسبانيا الشعبية، ص: 9، دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، مشروع كلمة للترجمة، 2019
(2) بانابو (فليكس مانثانو): تاريخ وعادات الغجر، برشلونة، مانتانير وسيمون، 1915، ص: 11.
(3) نيل فيليب، حكايات وأساطير العالم، ترجمة: صلاح صلاح، ص: 9، منشورات المجمع الثقافي، الطبعة الأولى 1999م
(4) د. نبيلة إبراهيم، الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق، ص: 151، المكتبة الأكاديمية، 1994
(5) حكايات غجر إسبانيا الشعبية، ص: 112
(6) الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق، ص: 155