بقلم: فرانسوا كسافيي
ترجمة: أحمد حميدة
«الشعر الذي يتسنم قمة علاماتنا، هو بالنهاية العلامة الوحيدة التي لا تقبل التبعيض والتجزئة، وأعني بذلك أن غموضه غالباً ما ينكفئ لفائدة كمال آخر جديد، كما أعني أن العلامة بوصفها ذات طبيعة مزدوجة إذ تكون متلكئة بين الثقالة واللطافة سرعان ما تمّحي متى أطل الشعر، بعد أن تكون قد تخففت سراً من حمولتها لفائدة حضور مجنهح.. مجنح بصورة قاسية (...).
فكيف يتأتى للألْطفِ دَحْرَ الأثقل؟ (...). أريد أن أقول هنا: إن الشعر يقيم سلطته المطلقة انطلاقاً من كل ما هو مبهم، بما في ذلك الزمان والمكان، ومن تلك الصيحة المشهودة:«أنا لا أعرف..»
إن الاستشهاد السابق الذي يختزل رؤية ستيتية إلى الشعر، يكشف إلى حد ما عن جانب من تصوره المتفرد لأدوات التعبير عن فنه. فلئن كان ستيتية شاعراً قبل أن يكون مفكراً وكاتباً ومترجماً، ويكون قد عانق العمل الدبلوماسي، فإن ذلك يعني أنه كان بحاجة ماسة إلى الكلمات للتعبير والإفصاح. لذا نراه قد تخيّر الشعر، تلك الموسيقى الروحانية الأثيرة والأقرب إلى آذان القلب، إذ كان يتعذر عليه في الحقيقة إبداع شيء آخر، وهو الذي كان دوماً يعلم أن الفكر كما أشار إلى ذلك شيلر «ينبغي له المرور بالكلمات كيما يعود إلى الفكر».
بستان الخرافات
صلاح ستيتية هو ذلك الساحر المدهش والبحّاثة البصير الذي، وهو يقودنا إلى بستان الخرافات، يخبرنا عن الجانب الآخر الأكثر صفاء فينا، ذلك الجزء الضئيل الذي يظل متمنعاً علينا، لأننا لا نعرف كيف نتخاطب معه، أو حتى الإنصات إليه. ويسري ذلك السحر فينا بفضل ما استكن في سرّ هذا الإنسان من فراسة وتبصّر، جعلته يعمل، بكتابة محكمة مستجمعة وبليغة، على الجمع بين عالمين مختلفين ودمجهما حد الانصهار، عالمي الشرق والغرب. هكذا، كان باستطاعته كشاعر بث الحياة في العفاريت والجن التي تسكن شعره، وشدِ انتباهنا إلى روعة الحلم، الذي يتجاور فيه الروحاني والحسي، وتحاذي فيه طهارة الجسد العاري نقاء مشاعر المحبة.
لو كان بوسع ستيتية أن يكون محض فكرة، أو دخاناً رمادياً متصاعداً في الهواء، أو ريح صبا ولطافة، لكان دون شك أسعد الناس، ولكن الأمر في عالم الكثافة ليس كذلك، وهو ليس كذلك أيضا بالنسبة لنا نحن، القراء البسطاء، القادرون على قراءة وإعادة قراءة أبياته الحالمة والمدندنة، وتلك الصيغ الخيميائية لكلماته المزهرة، التي متى جُمِعتْ، شكلت، لا جملةً وإنما صورة رشيقة عن الرؤية الفذة التي كانت لهذا الراوي المدهش. بلى، إن لشعر ستيتية تلك الطاقة الإيحائية التي تميز الأعمال الأدبية الكبرى، فمتى استوقفتنا كلماته، سرعان ما ستندمغ تلك الكلمات في أعماق كياناتنا لتستنفر مشاعرنا وانفعالاتنا. فهل ينبغي أن نرى في ذلك علامة سحر يمتلك ستيتية أسراره؟ أم تراه يريد أن يبين لنا أن وراء كل المشاعر المبثوثة في الشعر أمراً آخر مدهشاً ومثيراً؟
في البدء، كان ثمة إنسان شرقي، لبناني أي حتماً فينيقي، دفعته لغته الأم العربية، ودينه الإسلام إلى الكتابة باللغة الفرنسية، في ظرفية شهدت تنامي فكرة النهضة العربية، وأصبح يُنظَر من خلالها إلى كل تنازل عن اللغة الأم تفريطاً في الهوية.
ولم تخامر هذه الفكرة الاختزالية المتزمتة أبداً خيال الشاعر، بل إن ستيتية عمل على العكس من ذلك من أجل أن تنفتح كلا الثقافتين، الغربية والشرقية، الواحدة على الأخرى. وحين تولى إدارة مجلة «الشرق الأدبي» في بيروت خلال الستينيات، كان قد شرع في أداء دور الوسيط بين هاتين الثقافتين، فبادر بكتابة البحوث وإلقاء المحاضرات لإطلاع الجمهور الفرنسي على خصوصية الخيال العربي. ومن ناحية ثانية سعى في لبنان إلى حفظ الجسر المترنح الذي كان يصل الغرب بالشرق من التداعي، وإرساء أسس خطاب «متوسطي» بالغ الوجاهة وقائم على القيم الإنسانية الأصيلة.
مقارعة الظلامية
بعد استكماله دراسته الثانوية بالمعهد الفرنسي في بيروت، تابع الشاعر دراسته الجامعية بلبنان ثم بفرنسا، حيث احتك بالأوساط الأدبية، قبل أن يعانق الحياة الدبلوماسية، إذ عين على التوالي ممثلاً دائماً في منظمة «اليونيسكو»، ثم كاتباً عاماً بوزارة الخارجية بلبنان، ليعين بعد ذلك سفيراً بالمغرب، ثم بهولندا، ولن ينفك أثناء هذه المسيرة عن مقارعة الظلامية الحمقاء، التي كان اتباعها، بذريعة الدفاع عن نقاوة الدين يحاولون استثمارها لإثارة الفتنة العرقية والطائفية ودفع الشعوب باتجاه تطاحن مدمر. وكان يتساءل بخصوص ذلك التعصب: وأي عقيدة خرقاء قد تجعل المرء يتنازل عن حقه في الاختلاف، ويعزف عن علاقة تكاملية مخصبة لعلاقته بالآخر، والتي متى غابت نمت بذور التعصب والفرقة والتنافر؟
وقد أمسك هذا السفير الشاعر بعصا الترحال، مقتفياً آثار من سبقوه من الشعراء، أمثال بول كلوديل وسان جون بيرس وبابلو نيرودا، فكتب عن الدين محاولاً تخليصه من الأوهام، وتوضيح أبعاده للعوام من الناس، وبيان حقيقة مكانة الإنسان في هذا الكون ودوافع بحثه الدائب عن المطلق. كما تعلقت همته بإثارة المسائل الميتافيزيقية، وإطلاع قارئه على الأساطير الشرقية وتعاليم الفلسفة الصوفية وقيم الغرب الروحانية.
لقد كان ستيتية دبلوماسياً سياسياً، ولكنه كان أيضاً دبلوماسي القلوب، إذ كان من القلائل الذين عملوا على تطويع فتنة الشرق، بما انطوى عليه هذا الشرق من إرث ثقافي وهاج، وإشاعتها في الغرب، وهو المثقف العربي الوحيد الذي توفق في الكتابة بالفرنسية عن العروبة، التي وجد المترجمون عناء كبيرا في الكشف عن حقيقتها لغير العرب. وإن كان لا شيء يعدل الأصل، فإن ستيتيه كتب لنا العربية بلسان فرنسي وارف البيان، وبمثل ذلك الزاد فحسب غدا بإمكاننا الاقتراب من«الجانب الآخر المحترق والبالغ الصفاء»: ذلك هو عنوان ديوانه الصادر سنة 1992، والذي رسّخ مكانته الرفيعة كعلم شامخ من أعلام الشعر الحديث.
وقد أقرت الأكاديمية الفرنسية ذلك الاعتراف الدولي حين منحته سنة 1995«الجائزة الكبرى للفرنكوفونية». كما خصصت له ندوتين سنة 1996، ولكن بعيداً عن كل تلك الضجة، سوف يظل ستيتية شاعراً بالغ التواضع، شديد التعلق بالقيم الشرقية، إنسانياً إلى أبعد الحدود، وحلو المعاشرة، وسوف يظل بشكل ثابت، رجل الحوار الذي يكون قد فهم الشعر على أنه بارقة أمل.
كتابة فاتنة
يكتب صلاح ستيتية حينئذ بلغة مفردة، تلك«الفرنسي/ العربية» التي أبدعها لتظل موسيقى كلماتها نابضة بكل ما استكن فيها من صور وأحاسيس ومشاعر. وفضلاً عن ذلك أبدع ستيتية أسلوباً خاصاً من الكتابة قادر على توليد إيقاعاتِ وأصواتِ السرد الشرقي البالغ الخصوصية، كما أمكنه ترويض فن التكرار دون الوقوع في الإسهاب والإفاضة، فجاء شعره تبعاً لذلك بالغ الإزهار ومتخففاً من الاستعارات المجانية.
وهذه الكتابة الجديدة التي كانت في آن فاتنة، ثابتة ومتفردة، أفادت من كل إمكانات قواعد اللغة لتوليد زخارف عربية ساحرة دونما تقيد بأوزان الشعر المألوفة. فمن الصمت إلى الصرخة، ومن الاستعارة إلى الصور الغناءة، جبلت البلاغة بريشة هذا الشاعر، وعُجِنت حد الاكتمال، حتى غدت لغة ستيتية مطواعة وقابلة للتشكيل والقولبة الشعرية.
ويتساءل إيف بونفوا بخصوص مغامرة ستيتية في شعاب اللغة: «هل بالإمكان تصور عالمين أشد تبايناً، من عالمي اللغتين الفرنسية والعربية؟ ومع ذلك فعلى الجسر غير الآمن الذي يقود من هذه إلى تلك، أراد ستيتية المجازفة بنفسه». غير أنه وراء كل ترجمة أو صيغة أسلوبية، غدا بإمكان الالتباس الشعري الذي ينجم عن تعدد المعاني، والذي يتعاطى معه ستيتية بمهارة عالية، أن ينيرنا حول الكلمة الأحادية المعنى. هكذا وحتى وإن كانت الكلمة تحمل معنى مزدوجاً، فلن يكون لها معنى موحد، لتنسكب فيها بكل رشاقة الصورة التي تكون قد أثارتها. وفي السطوة الشعرية الناجمة عن التشبيه تكمن إحدى وجوه الوجاهة الشعرية لخطاب ستيتية، وكان حسبه كلمات مفردات كيما يلامس ما هو جوهري.
ثم إن سطوة الصورة عامة ما تجعل قصائد ستيتية أقرب إلى اللوحات التشكيلية. فعلى غرار رسام من القرن التاسع عشر، بين صالح ستيتية أن وراء الصورة التي نلمحها، يعيش لا المعنى الآخر، وإنما معنى«آخر». هكذا يغدو المرئي معه ملعباً أو ميدان مواجهة، تنبثق منه الصور وهياكلها وأشكالها، على هيئة أخرى، لتكون حسب القصيد، إما أكثر إشراقاً أو أشد قتامة، غير أن القارئ لن يرى فيها غير صورة واحدة.
وتكمن كل المفارقة في قصيد ستيتية في قدرته على بلورة السطح الملون للكلمات وسطحها النافر في آن، كما هو شريط الفيلم، الذي نراه في ذات الوقت في شكله الأصلي وفي صورته السالبة. فهل يعني ذلك أنه ليس ثمة من صور نتفكر فيها بشكل جذري غير تلك التي تكون وراء المرئي؟
إننا لنلمس في شعر ستيتية حرصاً دائماً على الجمع بين الجسدي والروحاني، كما لو أن كل منهما يرتهن في وجوده بصورة ثابتة، لوجود الآخر. غير أن ذلك الجسدي الذي يكون متحركاً، يبدو دائماً وكأنه لا يتوقف عن الانفتاح ومحاولة الاقتراب من الروحاني ليكون أدنى منه، حتى أنه ليخيل إلينا أن الشاعر يتوق إلى القبض على الوجود الذي يحيط به.
طرقات مدلهمة
كما تحضر بقوة صورة المرأة، تلك الملهمة التي تسكن شعر ستيتية، والتي تتجلى وهي مجردة من علاماتها حتى تكون أكثر انصهارا في دورها كرسولة. كخيال أيروسي وتوهم صوفي.. فإن جسد المرأة يتبدى في شعر ستيتية مصقولاً وفاتنا (مستفزاً لأنه يدفع إلى الإثم، رقيقاً مطمئناً ومواسياً للمغامر الذي يعود إلى البيت)، ومثيراً لثنائية أبدية ألا وهي الصراع الدائم بين الخير والشر، ذلك الصراع الذي لا يستثنى منه أحد من البشر. وتضطرم الأيروسية والجنسانية اضطرام الرغبة في أبيات شعره لتغذي الخيال بأشكال تميمية، عسى تلك التمائم تجعله أقدر على منازلة المبهم والتحكم في أسراره على نحو أفضل.
هكذا يمضي الشاعر على الطرقات المدلهمة بمفارقات الحياة. وفيما هو يكدح سعياً على تلك الطرقات، لن ينفك عن مساءلة الموت الذي كانت له بصدده رؤى مبهرجة. ففي حالات شروده نتحسس حضوره وهو يتسكع مع الموت على أرضية الاتحاد الجوهري الذي يجمع الإنسان بالوجود، كما لو كان الموت في ذات الوقت أصلا لهذا الوجود وغايته، وأن الزمان الذي يعبره الإنسان هو لا شيء آخر غير رابط يصل بين العدم والفراغ. ويجد هذا التصور ترجمته في تمثل ستيتية للصحراء، تلك الأرض اليباب، التي تولد السراب والواحات في هوة عميقة من الرياح والرمال الحارقة. وكل هذه التصورات التي تكشف في آن عن هشاشة الكائن وعن أبديته نعثر عليها في عالم شِيدَ حول الموت وحده. ويقيم الموت، الذي يشكل الخط الأحمر لبنية قصة الوجود، والعمود الفقري للقصيد، جداراً ضئيلاً بين الحقيقة والحلم. وذلك الحضور المطلق هو الذي يدفع الطفل الغافي بداخله، إلى البحث عن هويته في ما وراء العالم الظاهر، فيحمله ذلك على اقتفاء آثار المتصوفة.
ونلامس هنا أحد المواضيع الأساسية في أعمال ستيتية: ذلك المطلق الذي يتشوّف إليه الصوفي وينشده بمجامع كيانه، والذي حاول الكاتب كشفه لنا وتثمينه. وفي هذا السياق، أمعن ستيتية في محاولة إحاطتنا بأسرار هذه الفلسفة، متمثلاً في ذلك البعد الرمزي لمرآة السيمورغ، ذلك الطائر الأسطوري. وكانت السنّة النبوية قد أكدت من قبل أن الموت هو بداية اليقظة الحقيقية، وذلك هو ما يجعل الصوفي يتطلع إلى تلك اللحظة الإكسيرية.. لحظة الفناء التي تتوارى فيها ثنائية الوجود، ويمحي حاجز المبهم.. الفاصل بين المرئي واللامرئي، بين الظاهر والباطن، بين الظلمة والنور.