21 يونيو 2009 01:21
شريحة إلكترونية بحجم أصغر أصابع اليد، هي كل ما أحتاجه في رحلتي الصيفية السنوية من الوطن إلى الوطن، شريحة لا يتجاوز وزنها عدة جرامات تحمل، بمقاييس الطباعة الورقية، طنا من الكتب، تحمل مؤلفات ليوسف السباعي ونجيب محفوظ ونزار قباني وجابرييل جارسيا ماركيز وأحمد ديدات وجبران خليل جبران والعشرات غيرهم، تحمل إبداعات روائية ودواوين شعر وكتبا سياسية واجتماعية ودراسات نقدية، مؤلفات في الاقتصاد والاجتماع، كتبا تراثية وإصدارات معاصرة.. حوالى ألف كتاب، أو يزيد، تسكن بعضا من «فضاء» الشريحة الواسع جدا.
عالم «الشرائح» أصبح حافلا بكل غريب وعجيب، أصبحت تفاصيله تتفوق على كل ما جادت به قرائح مبدعي الخيال العلمي، أصبح هو صفة العصر وأهم سماته وأخطر مكوناته. ذاكرة الـ «فلاش» الصغيرة الرفيعة الخفيفة، التي وصلت سعة بعضها إلى أكثر من مئة «جيجا بايت»، أي مئة ألف مليون حرف رقمي، ليست سوى قطرة في فضاء كوني شاسع، وشريحة «الموبايل» التي تختصر أبعاد العالم في جهاز بحجم قبضة اليد، مثال آخر، وشريحة بطاقة الائتمان التي تفتح خزائن البنوك، مثال ثالث، وتلك التي تشغل الكاميرات الرقمية وتتحكم في التصوير الإشعاعي والتخطيط القلبي وأفران الميكروويف والاستقبال الفضائي والطائرات والسيارات، نماذج أخرى في قائمة لا تستثني شيئا في عالمنا المعاصر. الحقيقة المؤكدة هي أن «الشرائح» أصبحت تدير حياتنا وتتحكم فيها، وأن المستقبل القريب، سوف يشهد عصر الشرائح العاطفية، أو الشرائح التي تتحكم في مشاعرنا وعواطفنا وأحاسيسنا، وسوف يشهد عصر الحواس الإلكترونية التي تتحكم فيها شرائح مجهرية تنهي إلى غير رجعة كل أشكال الإعاقة الحسية. عندما تستعد الطائرة للإقلاع، يتملكني إحساس غامض، هو مزيج من الرهبة والدهشة والاستسلام، فأرواح كل من على متن الطائرة، تتحكم فيها مجموعة شرائح صماء جامدة، بلا مشاعر ولا أحاسيس، أما الطيار فلم يعد سوى قارئ عدادات وضاغط زر ومنفذ تعليمات. يبدو أنني مضطر ــ إلى أن تهبط الطائرة في مطار الوصول ــ إلى احترام «الشرائح» وتوقيرها، رغم شعور داخلي بأنها أفسدت حياتنا وحرمتنا بهجة «التواصل الحقيقي»عندما جعلتنا نعيش في عالم أغلب ما فيه افتراضي.
صلاح الحفناوي