8 مايو 2008 03:35
كانت السيرة الذاتية مادة وملعباً وغاية للأدب العربي الحديث، الرواية والسرد خصوصاً منذ بداياته الأولى، فراوايات مثل ''عصفور من الشرق''، و''الأيام''، و''ابراهيم الكاتب'' وحتى ''زينب'' التي تعتبر أول رواية عربية كانت نتاج تجارب شخصية ذاتية لتوفيق الحكيم والدكتور طه حسين وابراهيم المازني والدكتور محمد حسين هيكل، غير أن السيرة الذاتية في نفس الوقت كانت متوارية، بل وتدعو للخجل ولا تليق بكاتب المفروض أنه عظيم، هذا طبعاً غير تقاليد المجتمع وقيوده وما يوجبه وما يمنعه ويثور عليه·
ربما لذلك توارى الشاب القلق الحائر نجيب محفوظ خلف اسم ''كمال عبد الجواد'' في ''الثلاثية''، واستعذب فتحي غانب اسم ''يوسف'' في معظم رواياته، وتقمص وأبدع روائيو الأجيال المتلاحقة أسماء شخصيات شتى أجود ما فيها أنها كانت أشبه بستائر شفافة للتمويه على ذواتهم، تجاربهم الذاتية، الشخصية·
الروائيون الشباب في مصر نزعوا هذه الستارة، ولم يعد هناك ذلك الفاصل القديم بين ذواتهم وتجاربهم الشخصية، وما يكتبون، بل إن أعمال ابرزهم نتاج مباشر لتجاربهم ولحركتهم في الحياة، كتبوا تجاربهم بكل صدق، وتعاملوا مع انفسهم باعتبارهم أبطالاً لرواياتهم، وصرحوا باسمائهم الحقيقية، والامر يبدو اشبه بظاهرة، نهج غالب وفي اتساع مستمر·
ترى هل هي مدرسة فنية جديدة أو واقعية جديدة، أم نقلة في الكتابة الروائية العربية؟ أم أنها مجرد ظاهرة، سرعان ما ستختفي؟ هنا إجابات عدد من الكتاب· الروائي الكبير محمد البساطي رفض بداية اعتبار ظاهرة أدب السيرة الذاتية مدرسة او تياراً جديداً·
وقال إنها مجرد مرحلة في مسيرة الكاتب، وهي مرحلة البدايات، فعادة ما تكون أول رواية للكاتب مرتبطة بسيرته الذاتية، وحينما يكبر وينضج تضيق في عينيه سيرته الذاتية وتتسع رؤيته للعالم· وأضاف: اتذكر بداياتي، حيث كنت مهتماً بالأشياء القريبة من الذات، من التجربة الشخصية المباشرة، ثم اتسعت رؤيتي للعالم، والاعتماد على السيرة الذاتية فقط في الكتابة الروائية لا يمكن أن يصنع تياراً او مدرسة وإنما هو موضة مرتبطة باندفاعة البدايات وسرعان ما ستنتهي ليفصح هذا الجيل عن مشروعه الحقيقي·
عطية: بلا خيال
الروائية هناء عطية اعتبرت ''رواية السيرة الذاتية'' ومجمل إنتاجها الحديث في الساحة الثقافية المصرية مجرد ''قصر ديل''، أي افتقاد الكاتب الشاب للرؤية والخيال الكفيلين بانتاج عوالم روائية أصيلة فيلجأ الى اجترار سيرته الذاتية، وتساءلت ساخرة: هل نعتبر كل ترهات طفل عن حياته وتجربته الشخصية المقززة في أحيان كثيرة رواية حداثية؟ ومعروف في الرواية عبر أجيالها المتعاقبة صعوبة الفصل بين ما يخص السيرة الذاتية الحقيقية للكاتب أو الكاتبة وما يخص الخيال والصنع في العمل الروائي، لكن المشكلة الأعمق أن الكتاب الجدد ليس لديهم ما يخفي محدودية وعيهم ومواهبهم إلا فضح تجاربهم الشخصية، وأغلب ما ينتجونه ليس له علاقة بفن الرواية وتاريخه الطويل، وإنما بالاعترافات الخفيفة الساذجة في أحيان كثيرة!
طه: ظاهرة إلى انحسار
الشاعر أحمد طه يعد دراسة نقدية موسعة عن ''السيرة الذاتية في الرواية المصرية الحديثة''، من واقع اطلاعه على معظم الأعمال الروائية الحديثة التي تندرج تحت مصطلح ''رواية السيرة الذاتية'' وأعرب عن قلقه من تحول ''رواية السيرة الذاتية'' الى ظاهرة سرعان ما تنحسر وتختفي مثل ظواهر سينما المخدرات والكوميديا التي هبت وسرعان ما انطفأت دون أن تترك قيمة أو تأثيراً·
وأضاف أن هناك ظواهر إيجابية لهذه الظاهرة فقد أصبحت من العلامات البارزة لأدب هذا العصر، فهي تؤكد فردية الإنسان مقابل كتابة الجماعة التي هيمنت على الادب العربي على مدى تاريخه الطويل، ثم إن أدب السيرة الذاتية الناجح سيؤدي دوره في كشف المجتمع ورؤيته وتحليله وربما تطويره أيضاً، و''ادب السيرة الذاتية'' كان موجوداً عبر تاريخ الكتابة الروائية والادبية عموماً، بل إن الكاتب في كل العصور لم يكتب الا ذاته وتجربته، غير أن السيرة الذاتية في نفس الوقت لا تنتج ادباً رفيعاً اذا انحصر الكاتب في اطارها الضيق ولم يعمق تجربته وينطلق الى العالم الاوسع، لأن المفترض ان الكاتب يكتب فترة انقضت من حياته، وبالتالي فإن اعادة كتابتها لابد أن تضيف اليها الكثير من الابعاد والظلال التي تخرجها من النطاق الذاتي الضيق الى معان انسانية كبيرة، وبدون هذا العمق وهذه الظلال تصبح السيرة الذاتية مجرد عبء ثقيل وفج في أحيان كثيرة على الرواية وقرائها·
بكر: نقلة نوعية
وعلى النقيض من البساطي اعتبرت الروائية سلوى بكر ''رواية السيرة الذاتية'' تياراً ونقلة نوعية في تاريخ الرواية العربية، وأرجعت سيادة مفهوم ''رواية السيرة الذاتية'' بين كتابات الاجيال الروائية الاحدث في مصر الى تغير منظومة القيم المجتمعية، فما كان مرفوضاً ومستهجناً ويدعو للخجل والخزي في الماضي أصبح مقبولاً ومستحسناً الآن، فمثلاً الكتابة في الجنس التي كانت محرمة ومجرمة أصبحت متاحة بكثرة، وهذا دفع نحو الصدق في كتابة السيرة الذاتية·
وفي الماضي كان الناس يخجلون ويخافون من الاعتراف بالفقر خصوصاً الذين انتقلوا طبقياً في وقت قصير، والآن المجتمع تجاوز هذا، واصبح متقبلاً لأقصى درجات الصدق والبوح، ولم يعد القارئ يخضع للمنظومة القديمة من المحظورات التي كانت تدفع الكاتب للتواري خلف كتاباته وشخصياته، وهذا انتج رواية ووعياً جديدين·
وأضافت سلوى بكر: المشكلة ليست في السيرة الذاتية باعتبارها مادة للكتابة الروائية، فهي صالحة بكل تأكيد، ومعين لا ينضب، ولكن السؤال وايضاً التحدي الأهم في الكيفية والقدرة على دفع القارئ الى تصديقك·
وكتابة رواية السيرة الذاتية تعتبر نقلة في تاريخ الرواية، وخطوة مهمة في سبيل تطويرها وقراءتها للمجتمع على النحو الامثل، والمفترض أن تساهم في تغيير المنظومة القيمية في المجتمع، وفي كشف، بل فضح الناموس الأخلاقي والسعي الى تغييره، وهذا من صميم هموم الكتابة وغاياتها، فعندما أكتب رواية مثلاً عن تجربة صادقة حقيقية تصور مأساة ترقيع غشاء البكارة فأنا أساهم في تطوير وتغيير المجتمع وأنا مع كتابة الكشف والتعرية ورؤية الذات بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات·
علي: تعرية النفس
الروائي إدريس علي صاحب باع وأعمال كثيرة في مجال ''رواية السيرة الذاتية''، فكل أعماله مستمدة من تجربته الشخصية، وهذا كبده صدامات وعداوات مع المجتمع النوبي الذي يكتب عنه بل مع أسرته وذويه، وعندما صور في احدى رواياته معاناة صبي تضطره الظروف الى ممارسة الشذوذ اتهمه البعض بأنه هو نفسه مارس الشذوذ في بداية انتقاله صبياً الى القاهرة، غير أنه بدا مصراً على التمسك بمواصلة كتابة سيرته الذاتية وقال: أصدق وأمتع كتابة روائية هي كتابة السيرة الذاتية بكل صدق وموضوعية والسيرة الذاتية تمنح الكتابة الروائية حميمية ووهجاً يصل القارئ ويجعله يكتشف مشتركات بينه وبين شخصيات الرواية والقارئ يرى نفسه بالفعل في رواية السيرة الذاتية، لأن الكاتب الذي يعري نفسه بصدق سيعري المجتمع برمته، وهذه الدرجة من الصدق ستجر مصادمات ومعارك طاحنة مع اقرب المقربين، لأن الناس لا يحبون أن يروا انفسهم بصدق، ولكني متفائل بقدرة رواية السيرة الذاتية على تغيير منظومة المجتمع وجعل ما كان محرماً ومجرماً مقبولاً وممتعاً·
عبد الحميد: عوالم متداخلة
الروائي الشاب إيهاب عبد الحميد قال: أهم ما يلفت النظر للرواية الحديثة في مصر أن السيرة الذاتية للكتّاب متداخلة في عوالم كل أعمالهم، وكثيرون يكتبون سيرهم الذاتية بلا تغيير او تبديل خصوصاً في الأعمال الاولى، وهناك نوعان من ''رواية السيرة الذاتية''، الاول يكتبه الروائي في بداية حياته وهو خفيف وسهل وغير ناضج وسطحي في أحيان كثيرة مثل العديد من الروايات التي ينتجها الكتاب الشباب الآن، والثاني يكتبه الروائي وهو كبير وناضج مثل كتاب ''النوافذ المفتوحة''، فهو عبارة عن سيرة ذاتية لمؤلفه د· شريف حتاتة، ولكنه يقدم تجربة روائية في منتهى العمق·
المصدر: القاهرة