على كثرة المؤتمرات الأدبية التي تحولت إلى ظاهرة لافتة للنظر في السنوات الأخيرة، يغدو السؤال الملح هو: هل استطاعت تلك المؤتمرات أن تلبي حاجة ثقافية ملحة لتطوير واقع الإبداع والممارسة الأدبية؟ أم أنها لا تتعدى كونها مجرد مهرجانات ذات طابع احتفالي، تخضع المشاركات فيها غالبا إلى أمزجة القائمين عليها، أو الحسابات والمصالح الشخصية المتبادلة فيما بينهم؟ وقبل هذا وبعده هل استطاعت تلك المهرجانات أن تؤصل لتلك المفاهيم والتجارب السردية العربية، وأن ترتقي بواقع الكتابة الروائية إلى مستويات أفضل؟ في كتاب «السرد وأسئلة الكينونة»، الذي يضم بين دفتيه بحوث أعمال مؤتمر عُمان الأول للسرد، والذي يتوزع على مجموعة من المحاور، تتناول قضايا السرد ولغته وموضوعاته وجمالياته المختلفة، قدّمها عدد من الروائيين والنقاد العرب، في هذا الكتاب لا نجد ثمة افتراقا أو تمايزا في القضايا المطروحة للبحث عما، سبق وطرح في مؤتمرات وندوات عربية أخرى!
الرواية ورهانات الحرية
يحاول الروائي والأكاديمي الجزائري واسيني الأعرج في المحور الأول من الكتاب أن يتناول مجموعة من القضايا الجمالية والفكرية الأساسية، تحت عنوان «السرد في مواجهة أعطاب الحداثة: الرواية العربية ورهانات الحرية: الأنا والآخر». ينطلق الأعرج في قراءته لنشأة الرواية من اعتبارها كانت استجابة لكتابة سؤال الحرية ومعطيات العصر الصعبة، إذ إنها برزت في ظل سلسلة من التكسرات النصية الداخلية، نجم عنها ظهور الملحمة، التي أخذت تتآكل بعد أن تطورت إلى أرقى مستوياتها، فكانت الرواية هي الولادة الجديدة التي خرجت من رحمها. وكتتويج لتلك القراءة التاريخية، يرى أن نشأة الرواية جاءت استجابة حقيقية لحاجة حضارية للحرية والقول ولحاجة ثقافية، ما يدفعه لتناولها بوصفها استثناء حرا بعد أن استطاعت أن تقطع أشواطا كبيرة لتعزيز وجودها كجنس حر، يرفض الرقابة، في حين يجد أن انتشارها كان أمرا طبيعيا بسبب قدرتها على على العيش والتجدد في الشكل والمضمون، وعلى الانغماس في هواجس العصر وفي المقدمة منها هاجس الحرية. على مستوى آخر ولكن يتصل بالمستوى الأول يتناول علاقة الرواية العربية بالآخر في سياق حوارها معه، وسعيها لتحقيق عالميتها، التي يرى أنها تطلع مشروع، يصطدم بتمركز قضية شرعية الاعتراف بها بيد الغرب وأمريكا، دون أن ينسى الإشارة إلى شرط تحقق تلك العالمية المتمثل في علاقتها بالمحلي، الذي يكسبها هويتها الخاصة.
البحث الثاني قدمه الدكتور رشيد يحياوي حمل عنوان «العلاقة التفاعلية بين الأثر التخييلي وأسئلة الكينونة، كما تتجلى في الفعل الحضاري». يركز اليحياوي منذ البدء على البنيات الشكلية والخطابية باعتبارها حاملة لقيم تشي بمضمون وطبيعة هذا التفاعل. يظهر الطابع الأكاديمي للبحث من خلال التركيز على مجموعة المفاهيم التي يشتغل عليها البحث بغية توضيح دلالاتها والعلاقة الناظمة فيما بينها، فيميز بين نوعين من السرد، سرد تخييلي كالأساطير والخرافات، وسرد غير تخييلي كاليوميات والرحلة والمذكرات. وفي هذا الإطار يركز على شرح طبيعة التأثر والتأثير المتبادلة بين مفهومي السرد والشعر، خاصة وأن عددا من النقاد العرب يستخدمون المفهومين على أساس التقابل، الذي يؤدي إلى نتائج غير صحيحة، لأن السرد ليس مجرد نوع، بل هو صيغة تعبيرية. أما على مستوى العلاقة بين السرد والكينونة، فيرى أنها تمتد إلى مرحلة مبكرة من التاريخ الإنساني، تتجلى في طفولة الفكر البشري.
العلاقة بين الشعر والنثر حاضرة في كثير من النصوص الروائية والقصصية، التي يحاول اليحياوي أن يتقصاها، كما في رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، ورواية «راما والتنين» لأدوار الخراط، وروايات أحلام مستغانمي وسليم بركات. لم يتوقف هذا التوظيف على السرد التخييلي، بل تجاوزه إلى السرد غير التخييلي في كتابة اليوميات والسير الذاتية عند سليم بركات وسيف الرحبي وأمين صالح.
ويبحث نواف يونس في جدلية حرية الاختيار بين التنظير والتطبيق في رواية شرق المتوسط باعتبار الحرية بمفهومها السياسي والاجتماعي والفردي والجماعي تحتل سلم الأوليات في الرواية العربية، كما تجلت في روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس والطاهر وطار وعبد الرحمن منيف، الذي يتخذ من روايته «شرق المتوسط» متنا للبحث والقراءة . يربط الكاتب بين استقلال الكتابة الروائية العربية والتجريب باعتبار أن الأخير يمثل وسيلة حرة تحقق للكاتب الذهاب باللغة نحو مناطق بكر، تساعده على اقتحام مناطق محضورة فيها وتصفية حسابه مع إرث معوِّق. وفي هذا الصدد يجد أن الرواية الوطنية تعد من أظهر الأنواع في الأدب العربي وأكثرها انتشارا.
ويحاول الدكتور عبد الرحيم الكردي تقصي العلاقة المفترضة بين السرد وكينونة الإنسان كما تجلت في رواية «رحلة ابن فطومة» لنجيب محفوظ معتمدا المنهج الأكاديمي الذي يظهر واضحا في تعريف المفاهيم المستخدمة في البحث وتحديدها، وفي المقدمة منها مفهوم السرد وأدوات السرد ومفهوم القيمة الذي يناقشه في معرض الإجابة عن سؤاله المتعلق بالكيفية، التي تصبح معها القيمة جميلة في الفن مستعينا بالتصورات والآراء التي قدمها الفلاسفة والنقاد، ينتقل بعد ذلك إلى البحث في كيفية تجلي القيم في النص السردي، لاسيما في روايات نجيب محفوظ التي ترافق تطورها مع التنوع في رصد القيم الإنسانية والكيفيات التي اكتسبتها هذه القيم في تلك الأعمال. ومما يشير إليه بداية هو أن اهتمام محفوظ بتلك القيم لم يكن مرتبطا بوجودها، بل بغيابها في المجتمعين المصري والعربي، كما تكشف عنه القراءة التاريخية في تلك الروايات، التي تعد رواية رحلة ابن فطومة تتويجا لها. تقوم هذه الرواية على التخييل وثنائية التوازي مع رحلة ابن بطوطة على ما بينهما من اختلاف وتناقض على المستوى التاريخي والفنتازي المتخيل . في دار المشرق يكتشف بطل الرواية الناس أن القيمة الأخلاقية التي يرفعها الناس فوق كل قيمة هي الأمان الذي يفرطون من أجله بكل شيء. تتعدد الأمكنة في هذه الرواية وتتعدد معها أشكال القيمة السائدة فيها، ففي دار الحيرة تشكل القوة القيمة العليا، وفي دار الحلبة هناك الحرية، بينما هي العدالة في دار الأمان، وفي دار الغروب هي الوفرة، وفي دار الجبل التي لم يصل إليها أحد ولا وجود واقعيا لها هي الكمال.
التجريب الروائي والحرية
مفاهيم عديدة يعرض لها المنصف الوهايبي في معرض دراسته للعلاقة بين التجريب الروائي والحرية، كما تجلت في رواية اسكندرونة أو رنين الهاتف للفضل المخدر منها مفهوم الرواية كشكل متحول وقانون المشابهة، وقانون المجاورة والاستعاري والكنائي. ومما يستوقف الباحث في هذه الرواية صوت السارد في فصول الرواية المختلفة، ما يدفعه لافتتاح دراسته بالعمل على التمييز بين الدقيق بين القص والحكي والقص والسرد في محاولة لتحديد شخصية المتكلم في الرواية عندما يكون الكلام مسندا إلى ذوات غير الذات المتلفظة.