السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

من «العمى» إلى «كورونا».. ضوء في نهاية النّفق

من «العمى» إلى «كورونا».. ضوء في نهاية النّفق
4 ابريل 2020 00:10

محمود إسماعيل بدر (الاتحاد)

ونحن نعيش أزمة «كورونا»، جال في الخاطر عميان الكاتب البرتغالي «جوزيه ساراماغو (1922 – 2010) في رائعته الشهيرة رواية «العمى» الزاخرة بالمتناقضات الإنسانية، فلا ينقص مدن العالم الموبوءة هذه الأيام، سوى عميانه الذين لا يختلف وضعهم كثيراً ما عاشوه داخل رواية الأحداث التي تدور في وقتنا الحالي، سوى في نوع الوباء، والظروف السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي يعيشها العالم المصاب بورطة فيروس أصبح عدوه الأول.
تبدأ رواية ساراماغو، الصادرة عام 1955، بإصابة شخص بالعمى، لحظة وقوف سيارته أمام الشارة الضوئية، ليحتشد النّاس حول مركبته، فيتضح أنّه أصيب فجأة بالعمى الأبيض، وبعد انتقال العدوى إلى كُلّ مَن خالطه، بمن فيهم طبيب العيون ومَن كانوا في عيادته، تُعلن الحكومة متأخرةً عن قرار حجر المصابين ومَن يُشتبه في حملهم المرض في مستشفى للأمراض النّفسية، وتبدأ زوجة الطبيب، التي تظاهرت بالعمى لمساعدة زوجها داخل الحَجْر، باكتشاف حقيقة المكان غير المُجهّز، بما يشي بانهيار النظام الصّحي، ورؤية الشخوص يتعاملون على حقيقتهم بنزعاتهم البشرية المتناقضة، وصولاً إلى اكتشاف حقيقة أن العمى أصاب مفاصل البلاد كاملةً، بمن فيهم الحرس. من الممكن إدراج هذه الرواية في قائمة الأدب الفانتازي، إلا أنها أيضاً لن تشعر المتلقي بالاغتراب (وهو العجيب فيها) كونها تكشف قوانين الغاب السائدة، وتتحول الغابة برمتها إلى مرتع يعربد فيه شيطان الأنا إزاء خيبة الإنسان وترصد الموت له.
بمشهد مختلف قليلا، بدأت قصة كورونا في مدينة ووهان الصينية الساحلية، منطلقاً منها على وجه السرعة ليقطع رحلته عبر كل دول العالم، وليصبح حديث البشر في كل مكان، ومع حالة تراوحت بين الخوف والصدمة والهلع، تحوّل البشر من حيث لا يدرون إلى عميان ساراماغو. ووسط هذا المشهد العجيب يكتسب النّاس وجوه شخصيات الرواية.حاول ساراماغو، الحاصل على نوبل للأدب عام 1998، وبخيالٍ مستبصر أن يعالج جوانب دقيقة في الطبيعة البشرية، فطمس الزمان والمكان والأسماء ليكونَ نصه شاملاً، ونظنّ أن للأبعاد الفكرية والفلسفية والأخلاقية - فضلاً عن الفن الروائي - شأنها أيضاً، في إعطاء قيمة للعمل الذي وضعه واحد من أكثر كتّاب العالم إبداعاً وشجاعة ومهارة في الدخول إلى عمق ودواخل شخصياته المهزومة والمنتصرة في آن معا، وفي نهاية الرواية التي اختلط فيها الحوار المسموع مع تيار اللاوعي من خلال سرد مسترسل، نجد ضوءاً ساطعاً في نهاية النفق، حين يبدأ أفراد المجموعة التي قادتها زوجة الطبيب المُبصرة بالتماثل للشفاء، بعد أن أوحى السرد الروائي بأن همّهم أصبح جماعياً ومسّت المحبة والأخلاق سلوكهم الفردي، وبمثل هذا السلوك الرفيع سننجو بلا شك من الكارثة الكورونية، لأنها في الواقع (معركة ثقافية) و (أخلاقية ) قبل أن تكون معركة طبيّة وعلمية، سننتصر فيها بلا شكّ، دون أن نغفل أن رواية العمى التي ترجمت إلى أكثر من 60 لغة منها العربية نبشت في الأساس في عوالم (العمى الفكري)، فقد قالت زوجة الطبيب: ( لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشرٌ عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون) في إشارة أيضا إلى أن الأخلاق البشرية والمبادئ الإنسانية إن لم تكن قائمة على التسامح والمحبة والأخوة الحقيقية، وإن لم تنبذ الحروب وأدوات التّسلط، تصبح منكسرة هشّة أمام العوز البشري.
تجدر الإشارة إلى القيمة الرفيعة لرواية العمى، التي دفع صنّاع السينما المعاصرة لتجسيدها في فيلمين، الأول للمخرج البرازيلي فرناندو ميراليس، بعنوان «عمى»، وركز فيه على فكرة فقدان البشرية للبصيرة قبل البصر، والفيلم الثاني بعنوان «عدو» للمخرج الكندي دوني فيلانوف، وبطولة سارة جادون، عن الهوية والشخصية، وكيف تتوهان وتهربان في حالة انعدام القيم الأخلاقية والإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©