الأحد 3 أغسطس 2025 أبوظبي الإمارات 32 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البنت السادسة

البنت السادسة
7 يوليو 2005

كان موت أبي بسببها، فهل يمكن أن أغفر لها ذلك؟ بل حتى أمي المسكينة فإنها شلت بسببها ثم ماتت وهي مقهورة من تصرفاتها·· هذه الإنسانة العجيبة، استطاعت أن تسرق من أمي مجوهراتها ومدخراتها بقلب جامد لا يحس· عندما أعلنت أنها ستتغير وستبدل نمط حياتها، فقد كان ذلك التغيير نحو الأسوأ، إذ تحولت إلى نصابة، تتخذ من الزواج وسيلة للكسب والربح، تنصب على هذا وذلك وتستولي على ما يملك، كل ذلك تحت ستار الزواج الشرعي، إنها داهية لا أدري كيف تفكر· كلما فكرنا أنا وأخواتي بما تفعله اختنا السادسة نصاب بصداع وتوتر، إنها النقطة السوداء في حياتنا، لا نريد أن نتذكرها ونريدها أن تمحى من أجندة وجودنا·· ولكن ماذا نفعل·· إنها اختنا السادسة؟ وهي للأسف مختلفة، إنها نوع آخر من البشر، بل إنها مختلفة تماماً عن التكوين النفسي والعقلي لعائلتنا، فهي نبتة غريبة متوحشة تكاد تكون شيطانية، صراخها لا ينقطع وهي تملك نغمة صوت مميزة تقشعر لها جلودنا جميعاً، كل شيء فيها يستفزنا· والله لسنا نكرهها، فهي اختنا الصغيرة، وفي الحقيقة نحن لا نملك أية مشاعر حقد أو غيرة نحوها، لكنها تفننت منذ صغرها بكسب حقدنا عليها·
لا أدري كيف تحملها أبي وكيف تجرعتها أمي؟ إذ على الرغم من كل تصرفاتها البغيضة، فإنهما يدافعان عنها باستمرار، خاصة والدي المسكين الذي كان اسمه ذا بريق وسحر جذاب لما قدمه في حياته وكفاحه في العمل وفي علاقاته بالناس، لقد مرغت اختنا السادسة ذلك الاسم في الوحل وجعلته اسماً مشؤوماً لا يريد أحد أن يتذكره· أنا لا أبالغ، فمهما قلت لن يقتنع أحد بقولي حتى يسمع الحكاية كلها، وهكذا فقد بدأت حكايتنا مع اختنا السادسة·
حرم والدنا من إنجاب الذكور، وجئنا نحن البنات الخمس الواحدة تلو الأخرى، لا يفصل بين كل واحدة منا والأخرى سوى سنة واحدة أو سنتين· كان والدي 'رحمة الله عليه' محباً لوالدتي لا يريد إيذاءها، فقاوم العروض التي قدمت له ليتزوج بأخرى تنجب له الأولاد! وبقي متمسكاً بأمي·
بعد أن أنجباني-وكنت الخامسة- قررا التوقف عن الإنجاب والاكتفاء بهذا القدر من البنات، ثم ركزا اهتمامهما علينا نحن الخمس بنات فكنا جميعا- ولله الحمد- من المتفوقات في الحياة، فقد بدأت السلسلة بتخرج الأولى وزواجها ثم تبعتها الأخرى والأخرى وهكذا· عندما وصل والدي إلى الخامسة والخمسين كانت أمي في الخامسة والأربعين، اتفقا على تكرار محاولة الإنجاب، فلربما يأتي المولود الذكر المنتظر بعد كل فترة التوقف، بالطبع لم يأتِ ذلك الولد وجاءت بدلاً منه البنت السادسة، وليتها لم تأت· تعلق بها والدي تعلقاً غريباً وكذلك فعلت أمي وصارا يدللانها بشكل غير منطقي، كنا أنا وأختي التي تكبرني ندرس في الجامعة ثم أتممناها بنجاح ولحقنا بأخواتنا في الحياة الزوجية·
استغلال بشع
فرغ البيت ولم يبق فيه إلا تلك الصغيرة الدلوعة والتي صارت تتلاعب بوالديها تلاعباً عجيباً وهما لا يستطيعان أن يردا لها طلباً ويفعلان كل ما تأمر به· كبرت البنت ووصلت إلى سن السابعة عشرة، وكانت فاشلة في دراستها وكل ما يهمها هو أن تبدو بشكل مغرٍ وجذاب· استغلت حب والديها العجوزين وصارت تخرج مع هذا وذاك، ولا تخاف ولا تخشى من إقامة علاقات متعددة· حاولنا أنا وأخواتي الوقوف بوجهها ولكننا لم نقدر، فهي سليطة اللسان قوية تمد يدها بالضرب والإهانة على كل من يقف بوجهها أو يوجه لها كلمة واحدة· تمادت في غيها وقد ضبطتها الشرطة عدة مرات في سيارة مع أحد الشباب في مكان خالٍ من الناس وكانت في وضع مشين، فتعرض والدي بسببها إلى مواقف مخزية مشينة أمام الناس وأمام الشرطة ولكنه لم يكن في عمر يؤهله للتحكم بها، فقد أفلتت من زمام الأخلاق وأصبحت إنسانة متهورة لا يمكن إيقافها· خيم الحزن والهم على قلب والدي فأصيب بأمراض متعددة· في إحدى المرات التي استدعته الشرطة لاستلامها بعد إلقاء القبض عليها في مكان مشبوه مع أحد السفلة، قال لهم الوالد: افعلوا بها ما تريدون، ضعوها في السجن، اقتلوها لا يهمني ذلك فقد تبرأت منها، هذه الإنسانة المنحطة ليست ابنتي ولا أعترف بها· عاد إلى المنزل وهو منهار ومحطم، ولم يمض تلك الليلة في 'الدنيا' لأنه فارق الحياة بعد أن قتله الهم والحسرة على ابنته التي مرغت كرامته في التراب· لم تحتمل أمي ما يدور من حولها فأصيبت بالشلل، وبقيت في فراشها لا تغادره·
بعد موت والدنا وإصابة أمنا بالشلل، قررنا أن نضع حداً لاستهتار اختنا، فأمسكنا بها ووضعناها في غرفة وأقفلنا عليها الباب وأغلقنا الشباك بشكل لا يمكن فتحه، ثم فتحنا فتحة صغيرة أسفل الباب لإدخال الطعام فقط· صرخت وبكت وشتمت ثم هدأت وسكتت· كنا نأتي في تناوب كل يوم لمراعاة الوالدة، وللاطمئنان على أن أختنا لازالت في مكانها ولم تهرب·
بعد شهر واحد ظهر شخص يريد أن يتزوجها، لم نصدق ولم نسأل عنه وزوجناها له بلا مهر وبلا أية مظاهر للعرس والفرح، واعتقدنا بذلك أن مشكلتها قد حلت وأنها ستعقل وستحافظ على هذا الذي جازف بسمعته ليتزوجها· اعتقدنا بأنها ربما ستتغير وستحافظ على حياتها الزوجية، ولكن ما حدث هو أنها تشاجرت مع زوجها وضربته وأهانته فطلقها وأعادها إلينا بعد أشهر قليلة من ذلك الزواج الغريب· قمنا بحبسها مرة أخرى ولم نسمح لها بالخروج ولم نكترث للسانها الطويل ولسبابها وشتمها المستمر لنا·
التوبة!
هدأت لفترة ثم قامت بتمثيل دور جديد علينا، فقد ادعت بأنها تغيرت وأنها تريد أن تبدأ حياة جديدة مختلفة، قالت إنها قد أدركت أخطاءها، وأنها نادمة على كل ما فعلته وقد تابت إلى الله من جميع المعاصي وقررت أن تبدأ من جديد· راقبناها لفترة، فوجدناها تصلي وتقرأ القرآن، صدقناها وقمنا بفتح الباب لتكون حرة في التجول في أنحاء المنزل ولتستطيع رؤية أمنا والعناية بها، لكنها تلاعبت بنا جميعاً وخدعتنا بمهارة، فعندما سنحت لها أول فرصة هربت، ذهبت ولم تعد، لا ندري إلى أين أو مع من قد رحلت، لقد اختفت ولم نعد نعرف عنها شيئاً· حاولنا أن نسأل عنها هنا وهناك لدى بعض الأصدقاء والمعارف، ولكن لا أحد يعرف عنها شيئاً·· كنا نخشى أن ينتشر خبر هروبها فيصل الأمر إلى أزواجنا فيعايروننا بها، فأشعنا بين الجميع بأنها قد عادت لمطلقها وهي تعيش مع زوجها· كنا أنا وأخواتي نجتمع في بيت الوالد كل يوم تقريباً ونناقش تصوراتنا حول غيابها الغريب، كيف تعيش؟ من أين تنفق؟ ما هو حالها؟ لم تستطع أمنا المسكينة أن تشاركنا الحديث وكانت تذرف الدمع وهي تستمع لأحاديثنا وتساؤلاتنا عنها· وفي أحد الأيام فارقت الحياة وكانت دمعتها تسيل على خدها حسرة على تلك الابنة الضالة· لم نعد نجتمع كثيراً في منزل الوالد بعد أن رحلت أمنا، ولكننا كنا نلتقي بين الفترة والأخرى حين يشدنا الحنين إلى دار الطفولة وإلى رائحة الوالدين العزيزين، ولأجل أن نعيد مناقشة مسألة اختفاء اختنا السادسة·
عودة البنت الضالة
بعد مرور سبع سنين على اختفائها وكنا قد يئسنا من ظهورها مرة أخرى، حدثت المفاجأة فتلقيت اتصالاً منها، لم أتبين صوتها، ولم أصدق سمعي، سألتها عدة مرات، هل أنت متأكدة أنك فلانة؟ أجابت: نعم إنها أنا·· أريد أن أراكن جميعاً في منزل الوالد·· ما هي أخبار أمي؟ قلت لها: الله يرحمها، توفيت بعد هروبك بأشهر قليلة، سكتت ولم تعلق· اجتمعنا في الموعد المحدد وجاءت، كان منظرها غريباً علينا، فقد كبرت وهدأت حركتها، حتى طريقة لبسها تغيرت، لأول مرة أراها تلبس العباءة، ولكن لحظات ورمت تلك العباءة فظهرت ثيابها غير المحتشمة، لقد ظننا بأنها تغيرت ولكن للأسف فإن المظهر الخارجي تغير أما الداخلي فلم يتغير· سلمت علينا ببرود وقالت: اشتقت إليكن يا شقيقاتي العزيزات، قلت لها: لا يبدو عليك ذلك، أين كنت طوال تلك السنين؟ قالت: كنت في رحلة جميلة جربت فيها حظي وسأروي لكن بعض التفاصيل لأنني أحتاج إلى مساعدتكن· تعرفن أنني قبل أن أغادر البيت قمت بسرقة أموال ومجوهرات أمي· شهقنا جميعاً وقلنا بصوت واحد: ماذا فعلت؟ قالت: لا تشهقن هكذا·· فهل فكرت الواحدة منكن كيف سأنفق على نفسي وأنا لا أملك مالاً؟ عموماً·· فالمال هو آخر شيء يجب أن تفكرن فيه، فكل واحدة منكن تملك راتباً ورصيداً في البنك إلا أنا· صرخت أختي الكبرى: وهل جئت بعد كل هذه السنين التي اختفيت بها عنا لتخبرينا بأنك قد سرقت أموال الوالدة؟ قالت ببرود: بالطبع لا ولكن جئت لأنني مضطرة لطلب المساعدة منكن فأنتن أخواتي ويجب أن تقفن إلى جانبي· قالت لها أختي: ليس قبل أن نعرف حكايتك كلها بلا كذب· قالت: بالطبع سأروي لكن الحكاية كما هي، فهل يعقل أن أكذب على أخواتي العزيزات؟ ابتسمت بخبث وهي تغمز بعينها، قالت: بعد أن قمتن بحبسي فكرت فعلاً أن أغير منهج حياتي كله، قررت أن أبدأ من جديد بداية أخرى أكثر نضجاً، لكني بعد الهرب استأجرت شقة وصرت أبحث عن رجل مناسب لي، وعندما وجدته حكيت له قصتي وهي أنني مظلومة من قبل عائلتي بسبب طلاقي، وأخبرته بأنكن قمتن بحبسي لأنني طلقت وقد هربت من جوركن وسيطرتكن· كانت حكايتي مقنعة خصوصاً وأنني أخبرته بأنني طلقت لأن زوجي لم يكن رجلاً حقيقياً وأنني لازلت عذراء، وأخبرته بأنني لم أستطع كشف ذلك السر لأحد احتراماً لمشاعره، كانت حكايتي مؤثرة فصدقها وطلب أن يتزوجني، قمت بعملية ترقيع لتعود لي عذريتي وتزوجته، دفع لي مهراً كبيراً، وهدايا ومجوهرات كثيرة· عشنا معاً لفترة بسعادة ولكنني أحسست بعدها بالملل، فقمت بافتعال المشاكل ليطلقني فطلقني بعد أشهر قليلة من الزواج، ثم أعدت الكرة مع رجل آخر· وفي كل مرة أعيش قصة حب ودلال ثم استولي على كل ما يمكنني من مهر وشبكة وهدايا ثم أعود لتطفيشه بعد الزواج، فأفتعل المشاكل وأتشاجر معه شجاراً عنيفاً ثم أقوم بضربه وإهانته واستفزازه ليطلقني، فيطلقني فأعود فأبحث عن سكن جديد في مكان بعيد لأبدأ من جديد، حتى تزوجت خمسةٍ لم يفصل بين الواحد والآخر سوى أشهر معدودات؛ ولكني في المرة السادسة سقطت بين يدي رجل مختلف، إنه قاسٍ ولا يرحم فكلما ضربته ضربني وكلما صرخت بوجهه صرخ بوجهي بصوت أبشع ولطمني على وجهي بقوة، لقد أخذ مني كل ما أملك وهو لا يتهاون عن ضربي وتعذيبي وإهانتي· طلبت منه الطلاق فطلب مني مبلغاً ضخماً مقابل حريتي، لذلك فكرت باللجوء إليكن لحل هذه المشكلة·
نظرنا إليها·· وصارت كل واحدة منا تنظر إلى الأخرى، لا نصدق ما نسمع ولكن اختنا هذه يمكن أن تفعل أكثر مما فعلته، إنها العجب بعينه، قلت لها: نتأسف لك يا اختنا الغالية، نحن لا نريد أن نساعدك في حياتك الخاطئة من أولها لآخرها· قالت: هذا ما توقعته، ولكن يا أخواتي العزيزات أنا لا أطلب الصدقة منكن ولكن أعتقد بأن لي نصيبا في هذا البيت، هل نسيتن ذلك؟ قالت لها أختي الكبرى: حسناً·· سنقوم ببيع البيت وكل واحدة منا ستأخذ حقها·· ولكن اسمعي جيداً·· خذي المال ولا ترينا وجهك مرة أخرى وانسي أن لك أخوات فلن يشرفنا أن تكون لنا أخت مثلك، ابتسمت بخبث وقالت وأنا أيضاً أمتلك نفس الشعور ولا أريد أن تكون لي أخوات مثلكن· بعنا بيت الوالد وأعطيناها نصيبها ورحلت· مرت السنين ولم نعد نسمع عنها شيئاً ولا ندري كيف تعيش وعلى من تنصب، إنها إنسانة مختلفة ليتها لم تكن أختنا السادسة·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض