25 فبراير 2012
تصطدم عملية تنظيم الواقـع السياسـي العربي في ظل الثورات بمصاعب طبيعية. فعملية الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، ليست أمراً سهلاً على بعض المجتمعات العربية. ففي لحظة التخلص من الديكتاتورية تكتشف المجتمعات العربية أنها فتحت الباب واسعاً لحراك الملفات الكثيرة التي راكمتها عقود الإلغاء والتهميش. لقد وصلت بعض الشعوب في منطقتنا إلى مرحلة رفض واقعها الذي لم يلبِّ الحد الأدنى من العيش الكريم والكرامة اليومية والحرية المحفوظة. وعلى رغم معرفة تلك المجتمعات بما سيلاقيها في اليوم التالي على الثورة، إلا أنها قررت أن تخوض غمار الجديد عوضاً عن الارتماء في أحضان القديم الديكتاتوري.
والتغيير هو الآخر طبيعة إنسانية لتجاوز أي وضع خاطئ واستبداد مزمن. فتحصن بعض الأنظمة غير العادلة بقوانين وجيوش وأجهزة لا يحميها من شعب اكتشف حريته ومكانته وقوته. ولكن الأفراد والمجتمعات، من جهة أخرى، يتقبلون السلطة لأسباب تتعلق بالضرورة التي ترتبط بالأمن الإنساني الأوسع، فالسلطة أمر لابد منه وحاجة تفرضها ظروف نشوء الدول وتطورها. ولكن هذه الضرورة قد تتحول إلى مصدر صراع وخلاف عندما تفقد حياديتها وتتحول للقمع والاستئثار والاحتكار. إن التناقض بين الإنسان وطبيعته وبين اغتصاب السلطة من جانب حزب أو تيار أو طائفة أو فرد هو الذي قد يتحول في لحظة تاريخية إلى ثورة. فهناك علاقة طردية بين غرور السلطة واحتكارها وتقييدها للمجتمع وبين استعداد المجتمعات للثورة والتصدي لمهمة إحداث التغيير.
وهذا يعني أن الطبيعة البشرية قد تحركها الحاجة لتحديد مهمات السلطة وحدود تدخلها في حياة المجتمع والفرد. إن حرية التعبير والحرية الشخصية والسياسية والانتخابات الشفافة والتداول السلمي للسلطة من المسائل التي يصارع من أجلها المجتمع في بلدان التحول العربي الخمسة الآن. وهذا يفسر استمرار الثورات بعد الثورة، كما يفسر خوف المجتمعات العربية في تلك البلدان من ديكتاتور جديد مهما كان غطاؤه: الأمن، الجيش، أم الدين والقانون الديني؟
إن الانتقال السياسي في ظل واقع التحول العربي الراهن قاس وصعب لأنه جديد وغير مجرب ويصطدم مع ما تبقى من القوى القديمة وما برز من القوى الجديدة. ولهذا يستمر الصراع في مصر حول دور العسكريين في السياسة. فمع كل يوم تتغير المعادلة ويزداد الوعي بشروط الدولة المدنية والدولة التي لا يحكمها الجيش. وفي الوقت نفسه تتعمق حالة المبارزة بين تطبيق مفهوم محدد للشريعة يقوم على استخدام الدولة كسلطة دينية وبين مفاهيم حقوق الإنسان والحريات وحقوق الأقليات والمرأة. إن الصراع الناتج من هذا التناقض هو الأساس الذي يتحكم في آفاق المقدرة على بناء الجديد على أنقاض القديم.
وفي أماكن أخرى هناك أيضاً انتقال مرتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بحراك التحول العربي. ففي الكويت، وقع انتقال في صناديق الاقتراع وفي أفكار المجتمع وتصوراته وسقفه السياسي. وقد حصل انتقال آخر في البحرين. وقد وقع الانتقال البحريني في عقول الناس وأرواحهم وربما يقع بعد حين في فهم المشاركة أيضاً. ونكتشف أن لكل انتقال ظروفه وتعبيراته، فهناك حالة تغير قطعت شوطاً مهمّاً كما في مصر وتونس، وهناك مجتمعات في البداية مثل ليبيا واليمن، وأخرى تتفاعل مع مخاض الانتقال مثل سوريا، بينما هناك مجتمعات تبحث عن شروط التغير مثل الكويت والبحرين وغيرهما.
إن المجتمعات العربية التي لم تمر بمرحلة الثورة أو الحراك المفتوح العلني نجدها تفكر، تراقب، تدرس، تقرأ وتشاهد. والمجتمعات التي لم تعرف هذا الحراك قد تجد في الشهور والسنوات المقبلة طرقاً سياسية أخرى توفر عليها حالة الحراك الشامل. وهذا يتوقف على طريقة تعامل نخبها السياسية الراهنة مع الشأن السياسي وقضايا الحقوق والحريات والانتقال. وهذا انتقال تاريخي يأتي إلينا في ظل مخاض الثورات العربية.
وفي مراحل الانتقال تعيش الغالبية الصامتة التي تبحث عن الاستقرار في تناقضات جمة. فهي تشعر بانفصام بين عاطفتها الجياشة التي تؤيد ثورة الشباب وبين عقلها الذي يقبل بالحلول الوسط. وهي في الوقت نفسه تجد أنها قد تنجر المرة تلو الأخرى إلى مواجهات لا حصر لها نتيجة مغالاة بعض القوى السياسية وسوء إدارتها وسعيها للحسم الأمني، كما هي الحال في سوريا. والغالبية الصامتة تعيش انتظاراً طويلاً قبل أن تحسم أمرها، ولكنها عندما تحسم أمرها من الصعب أن تعود إلى الهدوء. ففي لحظات تاريخية محددة تتحول الغالبية الصامتة إلى الثورة وتبدأ بإبراز قدراتها.
وخلال الانتقال يسيطر الخوف والمجهول. فالأسئلة أكثر من الأجوبة والأجوبة تكاد لا تفي بالحاجات الملحّة. في الانتقال يبدو العالم وكأنه يتداعى، وهو فعلاً ينهار ويتغير في كل يوم، وقلّما نستطيع أن نرى صورة العالم الجديد الذي يتشكل، ذلك أننا في خضم الصراع والأحداث نبحث عن تفاصيل ونعيش مع مآسٍ بينما يستمر سيل الضحايا. وخلال الانتقال هناك يوم إيجابي وآخر سلبي، يوم استقرار ويوم فوضى، يوم دموي وأيام مشمسة وأخرى لدفن الضحايا. الانتقال قاس وشاق في مجتمعات عاشت طويلاً مع الديكتاتورية والتسلط والنظام القضائي المنحاز والجيوش المسيّسة والأمن المسيطر والتفرقة التي تمارسها بعض الفئات المسيطرة في البلاد العربية. الانتقال قاس في بلاد اعتادت على عدم الديمقراطية. وصعب في بلاد حققت الاستقلال منذ عقود ولكنها ضغطت على شعوبها واعتقدت أنها دمرت روحها الإنسانية وحس التغيير فيها.
د. شفيق ناظم الغبرا
كاتب كويتي
ينشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»