محمود إسماعيل بدر (الاتحاد)
في ربيع عام 1348، ضرب وباء الطاعون مدينة فلورنسا الايطالية، وكانت تعدّ مركزاً مهماً للأدب والفن والجمال والتّرف والبذخ والتجارة، حتى سمّاها البعض بـ«أثينا الإيطالية»، وكان المؤلف الإيطالي «جيوفاني بوكاتشو 1313 – 1375» وقتها شاهد عصره، وقد تأثر بالوباء شخصياً بسبب موت والده وزوجته، ثم برع في وصف حال مجتمع هذه المدينة البرجوازية، وكيف إنقلب حالها بفعل هذا القاتل المدمر، فكتب رائعته رواية «ديكاميرون» والتي عرفت أيضاً باسم «الكوميديا البشرية»، الأكثر شهرة على صعيد كلاسيكيات الأدب العالمي، وعلى مستوى أدب الأوبئة.
في ثنايا هذه الرواية نقف على شرفة الموت حين يصل «الطاعون» إلى شواطئ إيطاليا، فيطلق طوفانه وهياجه في كافة الأرجاء، ويصيب أنحاء أوروبا كلها بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ المسجل، وبعد مرور ثلاث سنوات يقع ما بين 25 إلى 50% من سكان أوروبا ضحية لهذا الوباء اللعين.
القصة.. مسكّن للألم
في المتن الروائي نعرف أن 10 من الشباب والفتيات، ينطلقون في حافلة هرباً من الموت الأسود، ليحتموا في فيلا منعزلة خارج فلورنسا، ولكي يسرّوا عن أنفسهم راحوا يسردون القصص والحكايات الخيالية والحقيقية بطريقة فانتازية من تداعي الأفكار، وينتهي معظمها بالغناء، غنائية لا تخلو من السخرية والهزل والفكاهة والمرح، وصلت إلى نحو 100 حكاية، تعرضت للسياسة والدين والعشق والهوى والفساد بأشكاله، وقد انتصرت ضمنا على الوباء، وأقامها كاتشيو على «ثنائية المتناقضات»: الموت والحياة، اليأس والأمل، الحب والكآبة، ولكي يتخطوا زمن الموت الذي يحيط بهم، أقنعوا أنفسهم بأن هذا الوباء ليس أكثر من «وباء نفسي» وكان الهدف المقلق لهم وهم يعزلون أنفسهم ضمن جدران مسقوفة هو أن «لكل شخص ولد في هذا العالم حقاً طبيعياً في الإبقاء والحفاظ والدفاع عن حياته، بالقدر الذي يجعل القص مسكّناً ذاتياً يصم الآذان عن عويل أولئك الذين يموتون على الجانب الآخر».
نظم بوكاتشيو حكايات روايته في ديباجة، ومقدمة، وبرع في وصف مجتمع المدينة البرجوازية التجارية، حتى قيل أن سردياته المنطلقة من صندوق القص والحكي السّري في هذه الرواية قريبة الأجواء في ألف ليلة وليلة.
ما أشبه الليلة بالبارحة
ما أشبه حالنا هذه الأيام بحال الناس في ذلك الزمان.. فإذا كان أبطال كاتشيو قد فرضوا على أنفسهم حجراً صحياً منزلياً، معتمدين السرد معادلا موضوعيا هرباً من الموت، وكان الحكي بالنسبة لهم طريقاً للخلاص، ففي زمن كورونا، نجد أن الملايين من البشر حول العالم قد فرضت عليهم عزلة منزلية للنجاة من عدو خفي، وهم أيضاً ووفق «ثقافة المشاركة» يتحدثون ويتحاورون ويسردون القصص والحكايات عن الوباء وطرق الخلاص منه، سواء في شكل مباشر أو عبر وسائط التواصل الاجتماعي التي باتت أشبه بحبل نجاة أو طريقة لممارسة الحياة، فهم يتابعون الأخبار ويقرأوون الكتب، ويمارسون ثقافتهم عن بعد، في ضوء خطط وبرامج المؤسسات الثقافية والإبداعية التي اعتمدت آليات رقمية وافتراضية في بث مواد ثقافية وفنية بانتظار رحيل الزائر المرعب.
الحياة أولاً
ورد في بعض الدراسات الأدبية أن «ديكاميرون» قد منعت من التداول لسنوات طويلة، خصوصا أن بوكاتشيو انتقد فيها الفساد المستشري، وحين سمح للرواية بالنشر والتداول، تهافتت المكتبات والمطابع ودور النشر للحصول على حقوق نشرها وترجمتها، وحين نتحدث في الجانب الديني ذات الصلة بأزمة كورونا نجد أنه أسهم في زوال الحدود بين الخطابات المختلفة، فقد اجتمعت استثناء السلطات الثلاث: السياسية والدينية والعلمية، متفقة على التحذير من هذا الوباء القاتل، وما إغلاق المساجد والكنائس والمعابد مؤقتاً، إلا تجسيد وتكريس لحوار حقيقي للأديان والحضارات، وتكريس لمفهوم التسامح والأخوة والمحبة، وهكذا نشهد مرحلةَ تماهٍ بين الخطابات وتوحُّدٍ في ثيماتها وبراهينها وحتى في أسلوب أدائها، في لحظة فاصلة سقطت خلالها الجُدران السميكة التي كانت تفصل بين الأنساق وتعطي لكل واحدٍ منها شرعيتَه وأنماط حضوره.
في «ديكاميرون» وصف بديع لجمال وثراء مدينة فلورنسة، وكيف قلب الطاعون حالها حتى صارت مدينة أشباح تخلّى أهلها قسراً عن رفاهيتهم ورغدهم، ونظن أن هذا ما فعله بنا «كورونا» فقد أوقظنا من غفلتنا، وهزّنا من داخلنا، حتى أننا تركنا جانباً كل حياة الرفاة والاسترخاء والاستهلاك واختفى الروتين اليومي، وصرنا نفكر فقط في ضروريات الاستمرار، ومجابهة الموت المتوقع، وتلك عادة البشرية في التحديات الكبرى التي واجهتها وانتصرت، وتواجهها اليوم وسوف تنتصر في حربها الجديدة.