الثلاثاء 15 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 39 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهايكو ·· القصيدة الأسطورية في مملكة الجمال الياباني

2 يوليو 2005

عبد الجليل علي السعد:
تعتبر الثقافة اليابانية كما الأدب الياباني وأشكال الفنون الأخرى·· وحدة مترابطة ومتكافلة تحت المظلة الدينية الفلسفية، في حضن المعطف التاريخي الممتد من القرن الرابع بعد الميلاد حتى اليوم·· في تشكل آسيوي مثير ومنتج ينبع من الحضارة وإليها·· فقد كانت الثقافة اليابانية محط أنظار الشعوب المجاورة والبعيدة التي أخذت منها وأعطتها، بادلتها ثقافيا لسبعة آلاف سنة قبل الميلاد·· منذ العصر القديم الذي انتشرت فيه كافة فنون التشكيل بالصلصال المعممة في المقابر الضخمة إبان 'عصر كوفون' واستمرت حتى دخول البوذية إلى اليابان في القرن السادس بعد الميلاد·· وازدهار الثقافة المذهل أو ما يعرف (بالعصر الذهبي للفن البوذي) المستمد من الثقافات الصينية والكورية والهندية التي دخلت اليابان مع تعاليم بوذا·· كثقافات حاضنة لتعاليمه في عصر الإمبراطور'شومو' أهم مؤيديه وناشري تعاليمه ومعابده·
وقد اعتمدت الثقافة اليابانية في تجذرها وصيرورتها كلاً من فنون النحت والرسم والموسيقى والأدب أساسا لها·· مما يجعل عملية البحث فيها طويلة ومضنية ناهيك عن قابليتها للتأويل والاجتهاد والخطأ·· لذا ارتأينا الكتابة في هذه الفسحة عن واحدة من أهم ظواهر الأدب اليابانية المتخصصة وهي قصيدة 'الهايكو' التي عانت الكثير جراء الترجمات السيئة سواء العربية أو غيرها من اللغات·· ويعود ذلك إلى أسباب عديدة من بينها طبيعة الشعب والثقافة اليابانية المنغلقة على ذاتها ضمن نسيجها وتميزها الخاص·· حيث قال أوسكار وايلد عن هذه الظاهرة عام 1889م 'الحق أن اليابان كلها ليست إلا اختراعا خالصا·· لا يوجد بلد كهذا·· لا يوجد أناس كهؤلاء'!·
درّة الشعر
تعتبر قصيدة 'الهايكو' دُرَّة الشعر في الأدب الياباني عبر تاريخها الطويل الممتد في القدم·· رغم ظهورها كمقدمة للقصيدة الكلاسيكية الطويلة·· فقد مرت في تكوينها وتسمياتها بعدة مراحل وأسماء·· فجرى الخلط في سياقها التاريخي حتى استقرت على تسميتها الحالية على يد 'شيكي ماساوكا' (1867- 1902م) فقد عرفت الهايكو قديما باسم 'الهوكو' أو 'قصيدة المطلع' على يد 'ماتسو بوشو' و'بوسا بوسون' و'كوباياشي أسا' حتى صنفت معظم قصائد 'الهوكو' للقرون الثلاثة الأخيرة كقصائد 'هايكو' تعتمد مبدأين أساسيين مركبين·· الأول يعمد إلى تقسيم القصيدة إلى سبعة عشر مقطعا موزعة على ثلاثة أسطر تبدأ بخمسة مقاطع فسبعة فخمسة·· والثاني هو التضمين الموسمي لكل قصيدة·· وإن حاول الشعراء المحدثون مثل 'كاوا هيجاشي جوتو' وغيره رفض فن 'الهايكو التقليدي'·· وبخاصة فيما يتعلق بتغيير وتحديث المضمون واختراق آفاق أكثر تحررا تتعلق بالشاعر أكثر من تعلقها بالحدث أو الطبيعة·· كما حاولت تجارب أخرى إدخال الرمز السريالي والارتباط بالتجربة الحياتية المعاصرة فقد ظهر في هذا الاتجاه شعراء وشاعرات ومجلات أدبية كانت تقف جميعها ضد مجلة 'هوتوتو جيسو' الرائدة والمتزعمة 'للهايكو الأصلي' الذي نشأ مع الشعر الياباني وتطور حتى وصل إلى ما وصل إليه عند 'شيكي ماساوكا'·
إن الصراعات في تحديث الكلمة بكل ما تتصل به في الأشكال والأجناس الأدبية المختلفة من قصيدة ورواية أو حتى مقال أدبي·· اعتبرت أحداثا كبيرة شملت الأدب العالمي بأكمله منذ بدايات القرن الماضي في مد وجزر حكمته الظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بالعالم متمثلة في الحروب والصراعات الدولية التي أفرزت الكثير من التقسيمات والمستعمرات·· عدا الثورات العرقية والحروب الأهلية والطائفية التي أفرزت ما يسمى 'بالأدب الرافض' المتمرد على كافة أشكال السلطة والقوى المساندة لها من دينية وغيرها·· والتجربة اليابانية الكلاسيكية كانت أكثر قوة في مواجهة موجات التحديث عبر تأكيد مكانة 'الهايكو' كقصيدة مفردة ومتفردة كان للتمسك بها إغراء قوي للشعراء الأوروبيين والأمريكان الذين حاولوا تقليدها والكتابة على منوالها ضمن محاولات عديدة استمرت ما بين تضارب وتقارب مع القصيدة الأم·· وبخاصة فيما يتعلق بالشكل والمضمون الذي غاب عن بال الكثيرين نظرا للخصوصية العامة للتركيبة النفسية والفلسفية التي يتمتع بها الفكر الياباني· تعتبر 'الهايكو' بالنسبة للشاعر الياباني لحظة موحية·· وهي لحظة من الحدّة الماثلة حين يكون استحواذ الشاعر على حدسه كاملا·· كي تكتسب الصورة الشعرية حياتها الخاصة·· وقد تبدو قصيدة 'الهايكو' بلا أفكار في حين أنها ذات أفكار عميقة بالنسبة لليابانيين·· ولكنها غريبة وبعيدة عن العقلية الغربية والعربية التي ألفت القصائد الطويلة المتضمنة للكثير من المشاعر والأفكار والآراء·· وقد قال 'أسوجي' الذي يعتبر من أهم دارسي 'الهايكو': 'إن ما يحكم فن الهايكو ليس المفهوم ولا المنطق·· واللاشعور أو العقلانية·· وحتى لو وجدنا فيه فكرة·· فستكون شيئا متغلغلا في ثنايا العمل الفني كله'، ونأخذ القصيدة التالية لـ 'باشو' كمثال: 'على غصن ذابل/ يجثم غراب وحيد/ مساء الخريف الآن'·· 'باشو' الذي قال في تعريف قصيدة الهايكو ما عناه في قصيدته عن الغراب الخريفي الوحيد بكل غموض بقائه وسكونه: 'إن قصيدة الهايكو التي تكشف ما نسبته 70 إلى 80 بالمئة من موضوعها جيدة·· أما تلك التي تكشف ما نسبته 50 إلى 60 بالمئة من موضوعها·· فلا نملها أبدا'!·
جينات الأرض والأجداد
لا غرابة إذن إن شكلت 'الهايكو' لغزاً وخاصية يابانية تتعرض للرفض والتهميش أحيانا خارج وداخل اليابان·· إذ لم يبدأ الالتفات إليها ولم تعرف خارج اليابان قبل عام 1910م عندما تصدى 'ب/ هـ / تشامبرلين' لترجمة 'شعر الحكمة الياباني' ليأتي بعده بعام واحد 'وليم بورتر' ليترجم باقات أخرى من شعر الحكمة الياباني·· كما قدم الفرنسي 'كوتشاوا' قصائد 'الهايكو' للقارئ الفرنسي وإن شاب تقديمه نوع من سوء الفهم لهذا الشعر في تضمين الحكمة كعنوان له·· وهو ما يرفضه الكتاب والنقاد اليابانيون لمخالفته الجوهر الفلسفي لقصيدة 'الهايكو'·· أما اللغة العربية فلم تعرف 'الهايكو' إلا في سبعينات القرن الماضي عندما نشرت مجلة 'عالم الفكر' الكويتية بعضا من تراجم 'تشامبرلين'·· كما ترجم الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر بعض شعر 'الهايكو' عن اللغة الروسية بالإضافة إلى ترجمة عدنان بقجاني 'الهايكو' لصالح مجلة 'الآداب الأجنبية' السورية وصلاح صلاح الذي ترجم بعضا من شعر 'الهايكو' للمجمع الثقافي·· كما ترجم محمد عيد إبراهيم نماذج من شعر 'الهايكو' تحت عنوان 'رحلة حج بوذية' حيث تشكل هذه الترجمات المذكورة آنفا في مجموعها محاولات فردية متواضعة·· من دون وجود أي دراسات جادة مترجمة حول 'الهايكو' على المستوى العربي·· سوى دراسة 'كينيث ياسودا' المترجمة والمنشورة من قبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت·· في الوقت الذي تزدهر فيه اليابان بعودة كتابة قصيدة 'الهايكو'التقليدية' للنشء والمهتمين عبر كتب وإصدارات كثيرة تهتم بتعليم كتابة 'الهايكو' مثل كتاب 'كيف تكتب الهايكو في ستة عشر أسبوعا؟' للكاتب الياباني 'هيرومو ماتسودا'·· فالعودة الحميمة للهايكو تجتاح المجتمع الياباني اليوم من جديد حيث يمكن ملاحظة ذلك بوضوح في أدبياته اليومية·· وهو أمر ليس بغريب على مجتمع كلما ابتعد عن جذوره شدته جينات الأرض وخلايا الجسد للعودة إلى موروث أجداده الحضاري·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض