3 يونيو 2009 01:15
يرحل معلمو حرفة صناعة سفن ومراكب الصيد البحري واحدا تلو الآخر، تاركين هذه المهنة الفريدة من نوعها لقدرها المحتوم، وحماسة هذه الصنعة فقدت رونقها وروادها ولم يفلح «المعنيون» في توريثها رغم أن مئات البحارة في صور وغيرها يعتاشون من المراكب والسفن.
تتميز مدينة صور بثراء بحري، ينسج على عباءة التاريخ بأحرف من ذهب أمجاداً بحرية هي وجارتها صيدا، سطرتها الأشرعة والسواعد السمراء التي رفعت مجد هذه المدينة، مع ارتفاع شراع كل سفينة وعبر آلاف السنين قامت في أنحاء صور، صناعات بحرية متقدمة في ذلك الزمن، حيث يعود تاريخ الملاحة البحرية إلى أقدم عصور التاريخ، منذ المحاولات الأولى التي قام بها الانسان لشق مياه البحر باستخدام الصاري والشراع. المعلم بربور أشهر حرفي في صناعة مراكب الصيد، يعرفه كل ابناء مدينة صور، وهو الوحيد الباقي من صناع هذه المهنة، يساعده أولاده الأربعة، الذين تعلموا «الصنعة» بفضله، إلا أن المشكلة تكمن في ان الحرفة لم تعد مثل ايام زمان، لانهم ينتظرون ان يأتي زبوناً او اياً كان، لطلب صناعة مركب جديد، هذا اذا اتى.فالموجود من المراكب في الميناء اليوم لم يطرأ عليه اي جديد في السنوات الاخيرة، لان بعضها يباع من واحد الى آخر، والخوف ان يأتي يوم يتوقف فيه البحارة عن صيد السمك في صور، وعن قيادة المراكب الى عرض البحر، خصوصاً بعد أن فقدت «الصنعة» أيامها.
آخر صانعي المراكب
يتوجه المعلم بربور إلى محترفه كل صباح وهو يقع بالقرب من الميناء يقول: «هنا في المحترف اقلب الاخشاب المحفورة بإزميل يدي التي احترفت صناعة المراكب. اواظب على هذه الحرفة لانني الوحيد الذي اعمل بها، خصوصاً بعد وفاة آخر معلمي الصنعة ونديم المهنة امين عكنان». عن ازدهار هذه الحرفة، يوضح: «لا شك أن مهنة صناعة المراكب فقدت حماسها بالرغم من أن مئات البحارة «الصوريين» وغيرهم، يعتاشون من المراكب والسفن. و»الصنعة» كانت رائجة ومزدهرة فيما مضى، و»ورش» العمل كان لها أربابها الذين راحوا يبدعون في تصنيع المراكب من الخشب المستورد من خلف البحار عينها، بمعدات متواضعة تعتمد على الجهد اليدوي والافكار المبتكرة، بدوري انني احفظ تفاصيل المهنة عن ظهر قلب، تماماً كالمقاييس والاطوال المحفورة في ذاكرة من لا يفقه الكتابة والقراءة». ويتابع: «أعتز كثيراً بهذه «الصنعة» ويكفيني فخراً أنني أول من صنع سفينة سياحية بجهد شخصي، طولها (25 متراً) وعرضها خمسة أمتار ونصف. ويزيد أن هذه السفينة تحمل اسم «أليسا» وترسو حالياً في ميناء جونيه. اضافة الى هذا العمل الذي انتجته عام 1970، ابتكرت سفينة على النمط الفينيقي المنقوش على الفرنك النحاسي القديم، وكان ذلك في عام 1999 وبطلب من وزارة السياحة اللبنانية.
استثمار خاسر
يتحدث بربور عن مصير حرفة هذه الصناعة فيقول: «يقتصر عملي في السنوات الاخيرة على اصلاح بعض اعطال السفن والمراكب في صور وصيدا، ما يتيح لي الاستمرارية في هذه المهنة، والمال الذي اكسبه لا يسد رمقاً او يحارب جوعاً. لكن ذلك افضل الف مرة من اقفال هذا المحترف الذي يكاد يكون الوحيد في الجنوب، الى جانب آخرين متواضعين لشقيقين، الاول في الصرفند جنوبي الزهراني، والآخر في مدينة صيدا. والمحترف الذي امتلكه، لو استثمرته في اي مجال آخر، مثل المقهى او المطعم لأكسبني اكثر بكثير من فتات هذه المهنة، التي نسيها الجميع، مع العلم ان حياة الصيادين في مدينة صور تعتمد عليها».
طرق صناعة السفن
حول عملية صناعة المراكب والسفن، يقول بربور: «هناك طريقتان، الأولى تتلخص بوضع الألواح جنباً إلى جنب، حيث تثقب على مسافات بمثقاب يدوي دقيق، ثم تستخدم هذه الثقوب لشد الألواح بواسطة الحبال المصنوعة من ألياف، فيما يجري تغليف هذه الثقوب باستخدام المزيج من الليف أو القطن الخام المشرب بزيت السمك أو زيت جوز الهند أو زيت السمسم. ويقال إن المراكب المخرزة بالليف أكثر مرونة وامناً اذا اصابت قاعاً قريباً، أو اصطدمت بالصخور او جلست عليها، مما لو كانت مثبتة بمسامير حديدية. وتعتمد الطريقة الثانية «المسامير»، وهي طريقة تقليدية متشابهة في جوهرها مع صناعة الخارج». ويضيف أن «غابات لبنان مليئة بالاخشاب الصالحة لبناء السفن والمراكب، اضافة الى اخشاب اخرى تستخدم في هذه الصناعة، مثل الساج والبنطيق والتي تستورد من الهند، واشجار (القرط والسدر والسمر) التي يصنع منها ضلوع السفينة. اما الادوات المستخدمة في بناء السفن، فجميعها بدائية وبسيطة كالمطرقة والمنشار ومثقاب الخيط والقوس والازميل، والسحج وحديدة القلفطة».
المصدر: بيروت