23 فبراير 2011 19:39
لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموماً، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح متكئاً لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون..
هنا إطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس.
أطلق حكيم يوما مثلا قديما ما زال صداه يتردد بقوة، ويصلح لنا نحن أبناء العولمة الجديدة كي نستثمره، ونفيد منه. قال الرجل: “لا تدلي بدلوك أول السيل”. هذه نصيحة ثمينة، فأول السيل كما نعلم لا يحمل إلا الغثّ والملوّث، ولعل ذلك ينطبق على الأفكار، ومسألة التعبير، وفي السياق الأخير نجد بعض نقاد الأدب يلتقطون نصوصا قصصية ويشتغلون عليها بما يسهم فعليا في مواكبة المبدعين وكتاباتهم، وهو ما ينعكس ضمنا على تطور حركة الأدب والثقافة، ويحقق لها التراكمية في التنوع والمعرفة وبناء حوار التجارب في إطار النقد الموضوعي الذي لا يمكن للحياة الفكرية أن تستقيم بدونه. بالمقابل نجد بعض النقاد يلتقطون نصوصا غثّة، مسّفّة، ركيكة، هابطة، تفتقر إلى الكثير من عناصر النص الجيد (الجودة الفنية)، ويشتغلون عليها، في إطار النقد المزاجي أو الانطباعي (الكتابات الانفعالية النارية التي تعمل على تعزيز الشللية في أي وسط ثقافي)، بما يسهم من أسف في ظهور بعض الكتاب، وكتاباتهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
يأتي هذا الاستهلال السريع، وهو ضروري في تقديري، لأنني حينما شرعت في تجهيز المعلومات الخاصة بواحد من أهم كتاب القصة في الإمارات عبد الحميد أحمد، فوجئت بأنه كان واحدا من أكثر كتاب الجيل الثاني لفتا لأنظار عدد غير قليل من نقاد الأدب الموضوعيين الشرعيين الذين رصدوا تجربته، رصدا إيجابيا، يؤكد ما يعرفه كل مشتغل في مجال الكلمة من أن: الغثّ يمضي بلا أسف، والسمين (الثمين) يبقى متوهجا مثل حبّات اللؤلؤ الأصيل. ولهذا ظل عبد الحميد أحمد باقيا في الذاكرة، لأنه كان وما يزال خارج دائرة الاستسهال وركوب الموجة، ولأنه أيضا ليس نتاج عولمة بغيضة ولا خصخصة ثقافية، فقد جاءت معظم كتاباته التي سنعرض لها، نتاجا صادقا، نابعا من بيئته، ومفتوحا على فضاءات الإبداع الإنساني الحقيقي الشمولي الذي يحمل شروط بقائه وصلاحيته. نتحدث هنا عن صاحب ثلاث مجموعات قصصية مهمة هي: “السباحة في عيني خليج يتوحش” عن دار الكلمة في بيروت العام 1982، و”البيدار” عن دار الكلمة في بيروت العام 1987، و”على حافة النهار” عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات العام 1997. وتتضمن الأخيرة قصص: خروفة، على حافة النهار، نسمة هواء طائشة، غواية. وحول مسألة الكتابة القصصية يذكر الكاتب: “بعد هذه الرحلة لي مع التجريب القصصي والتي هي في الحقيقة قليلة ومتواضعة، بدأت أقتنع أن القصة القصيرة الجيدة الخاطفة والمؤثرة الجاذبة والباقية هي القصة التقليدية... إنها في الواقع أفضل الأشكال القصصية وأقواها وأرسخها”.
اتخذ عبد الحميد أحمد قبل بضع سنوات قرارا بالتوقف عن الكتابة، قرأنا ذلك في حيثيات أمسية نظمها نادي القصة في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في الشارقة بتاريخ 12 يناير 2011 تحت عنوان: “لماذا انقطع الكاتب الإماراتي عن الكتابة”، ناقش المشاركون فيها ومن بينهم الروائي والناقد العراقي الدكتور صالح هويدي أسباب ودلالات انقطاع الكتاب الإماراتيين عن مجال الكتابة، وتبعا لذلك أعتبر الكاتب (متوقفا) عن الانتاج القصصي، وينسحب هذا المفهوم على الكثيرين من جيل الرواد في الحركة الثقافية المحلية، لكن في تقديري إن كلمة (متوقف عن الكتابة) هي كلمة غير دقيقة، وإلا فإنه من الواجب تبعا لذلك اعتبار وليام شكسبير (1564 ـ 1616) كاتبا متوقفا عن الكتابة، مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وسالم الحتاوي وعلي محمد راشد ومحمد حسن الحربي وغيرهم.
وقوف متحرك
نقول إن هذا المفهوم غير دقيق لأن هناك الكثير من الكتاب الذين يمارسون فعل الكتابة وهم ضمنيا متوقفون لان إنتاجهم لا يرقى إلى مستوى الجودة، ولا يفيد إلا في مضاعفة إشكالية المنهج، بعكس بعض الكتاب المتوقفين، فما زال إنتاج هؤلاء مثار اهتمام القراء والنقاد والدارسين والباحثين حتى يومنا هذا، ولعل ذلك ينسحب بقوة على الكاتب عبد الحميد أحمد، الذي ما زال حاضرا في ساحة الكتابة على عدة مستويات رغم أنه ربما يكون في استراحة اختيارية من كتابة القصة، أو ربما يكون في وقفة احتجاج على ما آلت اليه حالة الإبداع في العموم، على اعتبار أن شعلة الأخير يمكن أن توقد في أي لحظة من حياة أي كاتب. وإذا عدنا سريعا إلى الأمسية التي شارك بها بالإضافة إلى الدكتور هويدي، الناقد والقاص عبد الفتاح صبري، نجد أن المتحدثين قد ناقشوا ورقة عمل نقدية حول تجربة عبد الحميد أحمد خلصوا منها أنه كاتب له رؤية تجسد الواقع حيث ركز في أعماله على الفقر والألم والموت، والزيف الاجتماعي، بينما يندرج أسلوبه تحت الأسلوب الواقعي بتنويعاته المختلفة، إلى جانب أسلوبه (الغرائبي الفانتازي) لكنه خرج عن هذا الأسلوب في نصه “أغنية بيضاء في ليل دامس”، إلى جانب رؤيته الجريئة من لحظة التحول في المجتمع الإماراتي وبروز عناصر القصدية في أعماله، وعلو نبرة الخطاب الأيديولوجي لا سيما عندما يتناول الفرز الطبقي والفقر والانسحاق. مسترجعين أن القصة القصيرة أخذت دفعة قوية بعد عام 1979، وكانت بداية مرحلة ثقافية واجتماعية جديدة لا زال عطاؤها مستمرا إلى الآن في الإمارات. وربما يتفق معي الناقد أحمد حسين حميدان الذي أكد في سياق مقالة له بعنوان “حكائيات القص وتقنيات السرد في قصص عبد الحميد أحمد” أن التوقف عن الكتابة، لا ينهي حالة الإبداع عند الكاتب، ويقول: “من الظواهر الماثلة في في مسيرة القصة الإماراتية القصيرة كفّ بعض أقلامها عن الكتابة بعد إصدار مجموعة أو مجموعتين، وإذا كان عبد الحميد أحمد قد شاء في تجربته الكتابية أن يكون مقلا في انجازه القصصي، فإنه لا يمكن شمله في عداد هذه الظاهرة طالما أن تواصله مع هذا الفن الإبداعي لم يبلغ طور الانقطاع النهائي أو التوقف... فهو إضافة إلى نشره متفرقات قصصية بين فترة وأخرى، فقد صدر له ثلاث مجموعات قصصية” (مجلة الرافد، الشارقة، العدد 154 ـ 2010).
أبطال منكسرون
نقاد الأدب وجدوا في كتابات عبد الحميد خصوصية متفردة على مستوى السرد الوصفي ورسم الشخصيات والبيئة، وتقنية بناء الصورة. وينبغي أن نضيف إلى ذلك أنه كاتب طليعي له رؤية تأملية في المكان، حيث يعتبر اهتمامه بـ”المدينة”، وتحويلها إلى صور شاعرية عن طريقة رمزية الفعل أو مزاج الشخصية دون أن تفقد عمقها السيكولوجي من تأثيرات المكان، فقدم لنا على صيغة البطل التراجيدي صورة جديدة للبطل المنكسر، على نحو ما وجدناه في قصصه: رجل من بنغش، وآل مغضوب برسم البيع، (وفيها عمد إلى النهاية المفتوحة كما ميلودراما المسرح، وتحميل الراوي مهمة الفعل وتحريك الحدث) والفأس، ومنشور ضوئي، وصفعتان، والسمكة.
وفي مجموعة “السباحة في عيني خليج يتوحش” رصد لنا الكاتب شخصية “رشدان” الذي لم يستطع التكيف مع قسوة الظروف في المدينة، فاكتفى ببيع السمك في السوق بعد أن كان يقوم باصطياده، في رصد دقيق لحالة التحول في الشخصية من خلال الاتكاء على فن المفارقة في بناء الحالة أو الصورة المشهدية المتنامية، ولعل أجمل ما في رصد الكاتب هو تلك اللغة السردية الشاعرية الجميلة المليئة بالاستعارات اللطيفة، التي تم استخدامها بصورة جزئية تلتحم ببقية العناصر مكونة صورة واحدة، ولعل ذلك يذكرنا بقصيدة “النسر” لعمر أبو ريشة، فهي مثال للصورة التي تنمو في نسيج تصاعدي يحس به القارئ. لقد عقد عبد الحميد أحمد في قصة “السمكة” مقارنة رفيعة المستوى في وعي “رشدان” في مهنة الصيد، ففي بداياته كان يشع حيوية ونشاطا وحركة وقوة، حينما كان يصارع البحر بكل مخاطره وغموضه للحصول على رزقه، بينما نجده في الحالة الثانية بائعا قابعا خلف صفوف السمك منتظرا من يشتري. وقد أسهب القاص في تفصيلات الصفات الجسمانية له، وما آلت إليه من حالة نفسية متردية، وقد ظهرت المفارقة واضحة: “وجوه الباعة والسماكين منخفضة شاحبة وهزيلة عليها آثار سنين واضحة. خلف إحدى المصاطب تقوقع هيكل عظمي مكسو بالجلد الأسمر المدبوغ ـ السمكة ص 29”. وأيضا هذا الوصف الدقيق: “عيناه واسعتان جاحظتان ودائريتان، شبيهتان بعيني السمكة في دائرتيهما وخلوهما من الرموش ـ السمكة ص 30”. وأيضا: “قابع خلف مصطبة السمك وسط الضوضاء وروائح العرق التي اعتادها أنفه جيدا ـ السمكة ص 35”. من ذلك أوقفنا الكاتب عند شخصية منكسرة مستسلمة، غير راضية عن ذلك الركن الصغير في سوق السمك، وهي نتاج مدينة قاسية صادمة مهيمنة، ولسان حالها يقول لا تعطني سمكة بل علمني كيف اصطادها. ولك أن تستشف قوة الفعل لدى “رشدان” برفضه الضمني للتغير الاجتماعي حينما يرد على أحد أصدقائه القدامى الذي عرض عليه تغيير مهنته: “هل تريد أن يقول الناس أن رشدان السمكة هجر السمك ليعمل ناطورا في بيته؟ ـ السمكة ص 35”.
في دراسة له بعنوان: “المدينة في قصص عبد الحميد أحمد/ دراسة في البيئة المكانية” ضمن كتابه “الأدب في الخليج العربي دراسات ونصوص” الصادر عن المجمع الثقافي بأبوظبي عام 2004، كتب الدكتور وليد محمود خالص المدرس بجامعة السلطان قابوس: “إن صورة المدينة وشخصياتها تلتقيان عند نقطة تكاد تكون واحدة، القتامة والقلق والانسحاق تحت وطأة العجلة المسرعة، فهل نستطيع من خلال هذا كله أن نتبين موقفا ما من المدينة؟ لا نستطيع إغفال تجربة القاص الشخصية ورؤيته الخاصة للمدينة، لا سيما أنه يتحدث عنها من الداخل من خلال انغماره بواقعها ومواجهة مشاكلها، وعرضه للمدينة يومئ بقوة إلى هذا الالتصاق المباشر بها معتمدا على معايشته وتجربته، انه لا ينظر إليها من الخارج، بحيث تبهره أضواؤها وزخارفها، فهو يرى الصورة وهي مكتملة، ثم يروح ينتقي منها لحظات ومواقف معينة ـ ص 27”.
قدم عبد الحميد أحمد نماذج مغايرة لشخصية رشدان مثل “سعيد عبد الله” في قصة “صفعتان” من مجموعته “البيدار”. لعل أهم ما يميز هذه الشخصية أنها معاصرة وممتدة عبر التطور الزمني على الرغم من أن الكاتب رسمها قبل الاكتساح الجنوني للعولمة لحياة البشر، ومثلما بعض المنبهرين بحضارة الغرب وثورة المعلومات، كان “سعيد” القادم من قريته الصغيرة إلى المدينة الكبيرة منبهرا ومشدوها بأضواء المدينة وزحامها وفيضها الذي لا ينتهي، منبهر بكل شيء، الناس وطريقة كلامهم، العلاقات المترتبة على المال، تلك الحركة التي لا تنتهي، ليشتغل الكاتب هنا على فكرة “التقابل” حيث يسترسل سعيد طوال الوقت في المقارنة بين المدينتين: “خورفكان، الحياة عادية، أيام رتيبة وعمل يتكرر يوما بعد آخر، الصيادون، المزارعون، كم هم طيبون، يحدثونه في كل شؤونهم، رائعون في صفاتهم، المدينة فيها أشياء أخرى أجمل، الناس يفكرون بطريقة تختلف عن طريقة ناس القرية، متحضرون ـ ص 29”. ليكتشف مع تطور الحدث، أن حياته في المدينة الجديدة أكثر رتابة، وفيها من الزيف الاجتماعي أكثر مما يحتمله قروي نظيف، يتشكل إحساسه بالصدمة حينما ينتهي به المطاف إلى (مخفر الشرطة) ليبيت ليلته مع صفعتين قويتين من المرأة التي تحدث معها، ولم تكن هاتان الصفعتان إلا بداية الخروج من الجنة الوهمية على يدي امرأة من المدينة، وسرعان ما يعود بنا الكاتب إلى فكرة التقابل، حينما يجري سعيد مقارنة بين نساء قريته ونساء المدينة: “خورفكان فيها نساء ملفوفات مبرقعات داخل وخارج البيوت، الحديث إليهن غاية صعبة، هنا الأمر يختلف، المرأة ترتدي فستانا جميلا، تتسوق، تتحدث بطلاقة ـ ص 32”. لقد خرج سعيد من المدينة مهزوما منكسرا، لأنه لم يستطع إقامة حوار مع المدينة، وفشل في التواصل مع عمق المكان، ولفظ المدينة أو قل لفظته: “إن المدينة صفعته صفعة قوية على غير ما توقع، وبأنها ليست إلا كالمرأة التي خاطبها، جميلة جدا، لكنها غبية جدا، لا تملك في داخلها غير الصراخ الأهوج ـ ص 40”. هنا يدهشك عبد الحميد أحمد في انتقائيته للألفاظ التي تخدم فكرة التقابل والتضاد في ذات الوقت، لغة شاعرية دافئة شفافة، انسيابية بسيطة، تسير مع فضاء الرؤية، انه يكتب نوعا مما يعرف اصطلاحا بـ(نص التلاشي)، وهو النص المتعدد الذي يخلق فضاء الرؤية في إطار التعبير الكاريكاتوري. وإذا عدنا إلى عنوان القصة “صفعتان”، سنجد مدى دقة الملاحظة لدى الكاتب، ومدى مطابقته بين الشكل والمضمون بما ينسجم مع النظرة الساخرة للكاتب نحو مدينة أرضية، مصنوعة من شعور ووعي خاصين، وقد حقق له ذلك استدعاء منتظما ومتدفقا لعنصر المكان.
معادل موضوعي
من هذه الأجواء قدم لنا الكاتب شخصية (سلمان) في قصة “الفأس” من مجموعته “البيدار”، في إطار البيئة الاجتماعية، تلك الشخصية القروية التي تمتلك كل مقومات البيئة الآمنة الهانئة، انه يعيش في أحضان الطبيعة حيث الأرض والحقل والأرض والزراعة والعافية والحركة الدؤوبة، لكن كل ذلك يتغير، حينما يتسرب إلى بيته رجل من أبناء المدينة، وتبدأ حياته في التغير، وحينما تتبدى له لحظة الاكتشاف في كذب زوجته المتواصل، وتبدل سلوكها، فيتأجج الصراع الداخلي في نفسه، مندفعا نحو فأسه ليقوم بفعل ما. وقد جعل الكاتب من “الفأس” معادلا موضوعيا للحظة التأزم، على النحو الذي وجدنا عند الكاتب الروسي أنطون تشيخوف، حينما جعل من شجرة بستان الكرز في الحديقة معادلا موضوعيا لردود أفعال بطل المسرحية. والملاحظ على أسلوب عبد الحميد أحمد، أنه يرسم الشخصية على الثنائيات، ووقوفه على الحياد، في تصوير مشاعر وردود أفعال تلك الشخصيات، لأنه كما يبدو يؤمن بالقديم والجديد معا، ويصهرهما بطريقة يبدو فيها عنصر (التفكه) أو السخرية من الواقع واضحا، مع توافر نغمة حزن نشعر بها تتردد في أصداء الروح عند كل شخصية تقتحم المكان بكثافة عالية، مثلما نجده في قصة “السباحة في عين خليج يتوحش” التي حملت اسم المجموعة، فالبطلة لا نعرف اسمها، وأطلق عليها لقب “هي”، أما البطل فهو زوجها “خليفة”، وقد بنى الكاتب شخصية الزوجة في إطار تكنيك الحدث الاسترجاعي (الفلاش باك)، وهي تستعرض ماضيها مع أبيها ومن ثم مع زوجها، حيث قسوة البحر، ومرارة الحاضر حين يتوحش كل شيء من حولهما، وعلى لسانها نقرأ: “وحينما كانت الدموع تزحف فوق خدّي في ظلمة الليل سمعته يردد بذهول: النخيل.. النخيل.. النخيل! ـ ص 42 “.
وفي كتابه “مدخل إلى القصة الإماراتية” الصادر عن منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات عام 1998، يرى مؤلفه الدكتور الرشيد أبو شعير، أن أهم ما في أسلوب عبد الحميد أحمد وبخاصة في مجموعته القصصية “على حافة النهار” يتلخص في أنه “يركب صهوة “الموجة الجديدة” في بناء القصة القصيرة، فهو يتمرد على البناء التقليدي الذي نجده في أعمال محمود تيمور ويوسف إدريس ونجيب محفوظ، وهو البناء الذي اكتسبه هؤلاء الكتاب من جماليات القصة القصيرة العالمية كما كتبها تشيخوف و جي دي موباسان وسومرست موم. انه يتخلى في بناء قصصه عن تسلسل الزمن الفيزيقي الصاعد فيلجأ إلى كسر خط الزمن وتقنيته على نحو ما فعل في قصة “خروفة”. أما الشخصية عنده فهي مرسومة بعناية بأبعادها المادية والمعنوية والاجتماعية والفكرية، وهي ليست منقولة عن الواقع نقلا حرفيا تسجيليا، ومن هنا فإنها غالبا ما تغدو معبرة عن دلالات ورموز تتجاوز محيطها. أما لغته فهي رصينة ولكنها ليست قاموسية، فهناك تعامل متميز مع اللغة/ وهناك اجتهاد في تطويعها إلى حد الاضطهاد المبدع ـ الصفحات 101 و102”.
الموت الجميل
لعبت مفردة الموت الجميل في قصص الكاتب دورا مهما في إبراز رؤيته للحياة العصرية، سواء من خلال نماذج الشخصيات التي عرضنا لها، إضافة إلى الموت الضمني للمدينة المعاصرة في داخل بعض الشخصيات التي لم تستطع التكيف معها ضمن متخيله السردي، ولهذا وجدناه يلجأ إلى المطر كرمز يعري به المدينة المبهرة من بريقها الظاهري المميز لتظهر على حقيقتها ولتتطهر بهذا الماء السماوي وتغتسل من آثامها على يابسة باتت في نظرة مملوءة بالمعاناة والظلم والفساد والزيف، فهي التي قتلت (غريب) في قصة “الطائر الغمري”، كما قتلت (ناحل المطحون) في قصة “نسمة هواء طائشة”، كما انتقمت من بطل قصة “غواية” لمجرد حلمه بالماء.
عبد الحميد احمد في نهاية المطاف هو كاتب شفاف ومبدع يسحر قارئه بحلو حواره وصدق عواطفه ووطنيته الصافية وقوميته أيضا، فقد كتب في أشياء كثيرة على رأسها الإنسان بكل حمولاته، وكان مستشرفا في كتاباته، وله مقدرة على تطويع المفردات لمصلحة الصورة والمشهدية، كما أنه يتمتع بمهارة على التقاط الموجات التي تنطلق من حوله في شكل أحداث أو يوميات، ليحيل منها فضاءات جميلة، كما أنه مولع بالشخصيات البسيطة المسحوقة لكي يصنع منها أبطالا لقصصه، أبطال لهم تأثير درامي واضح في سياق القصة، وذلك أسلوب فيها نوع من الحداثة، في توفيق واضح بين الخيال والواقع ضمن منهج تيار الوعي، انه يكتب بنوع من الحيوية رغم لمسة الحزن البادية على وجوه شخصيات وبين مفرداته التي ينجح في تكثيفها، فالتفاصيل عنده مقتضبة إلى الحد الذي يعمل على إشغال ذهنية القارئ، كما أنه متنوع في موضوعاته، وجريء في نظرته للمخبوء. لم يكن غزيرا في إنتاجه القصصي، لكنه كان غزيرا في شموليته وحساسية المواضيع التي يطرقها.
سنوات في سطور
ولد القاص عبد الحميد أحمد في إمارة دبي عام 1957، يحمل درجة البكالوريوس في تخصص علم النفس، عمل في شرطة دبي، وفي عام 1979 دخل إلى عالم الصحافة محررا، ثم مديرا للتحرير في “الأزمنة العربية” الصادرة من إمارة الشارقة، ثم انتقل إلى جريدة “الاتحاد”، ليستقر في النهاية أمينا عاما لمؤسسة العويس الثقافية.
بدأ رحلته مع كتابة القصيرة مطلع السبعينات، ونشرت بعض أعماله في “أخبار دبي” و”الأهلي”.
كتب العديد من المقالات والدراسات المهمة منها: دراسة توصيفات القصة القصيرة والرواية في الإمارات عن الملتقى الأول للكتابات القصصية والروائية في الإمارات ـ الشارقة 1985. وله أيضا “خربشات في حدود المكان” (مقالات) عام 1997. و”النظام العالمي الضاحك” مقالات، صدرت العام 1998. وصفه العديد من النقاد بـ”الكاتب الساخر الأول في منطقة الخليج”، وذلك لالتقاطاته الاجتماعية اليومية النابهة ولجرأته أحيانا على النقد المبطن الذي يجرح، لكنه لا يسيل الدم، فقد اتسمت كتاباته بتنوع موضوعاتها، وذلك لشدة وعيه لما يدور حوله من أحداث شهدتها الإمارات على جميع المستويات، فقد أولع في تصوير ورصد ما اختزنته الذاكرة عن مرحلة ما قبل قيام الاتحاد وما بعدها، مبرزا التناقض الحاد والمفارقات بين المرحلتين على مستوى الأحداث والشخوص وغيرها من عناصر.
ولعل ما يميز تجربته غير أسلوبه الساخر، وتنوع موضوعاته، والأسئلة وعلامات الاستفهام التي يثيرها في كتاباته هو ذلك النفس الشعري الذي يتوارى بين السرد، طبقة رقيقة من الشعر تتوارى في ثنايا النص، وتتدفق بإيقاعها السريع، بما ينسجم مع إيقاع الحياة في الإمارات بكل أطيافها.