تشكل فترة ما بعد الامتحانات، وبدء التسجيل والالتحاق بالدراسة الجامعية، منعطفاً في حياة الطلبة وأهلهم أيضا، فهنا يأتي اختيار التخصص الذي يدرس فيه الطالب عدة سنوات، ثم يتخرج ويصبح جاهزاً لخدمة مجتمعه ورسم مستقبله، إنَّها اللبنة الأولى لبناء الحياة، من يختارها وكيف يتم اختيارها، كان محور حديث المدونين هذا الاسبوع.
اختصاصات غير ملائمة
يقول المسعودي في مدونته (من أجل الابداع) http://almsaodi.com: لا زلت أتذكر الضغط الكبير الذي كان يقع على عاتقي، وعلى عاتق جميع زملائي في السنة الأخيرة من الدراسة الثانوية، خصوصاً لأن نتيجة تلك السنة هي التي ستحدد تخصصي ومستقبلي. العديد من الجامعات العربية تقوم بقبول الطلاب للتخصصات بناءً على درجة التخرج، فأصحاب المعدلات العالية يتم قبولهم في الطب ويليهم طلاب الهندسة ومن ثم التجارة والزراعة والآداب وغيرها من التخصصات. من الواضح أن سبب هذا التقسيم هو ترتيب عملية القبول والتخفيف من الضغط على التخصصات المرغوبة مثل الطب والهندسة، ولكن إذا وقفنا مع هذا النظام وقفة قصيرة، نجد أن فيه خللا كبيرا قد تفوق آثاراه تصورات القائمين عليه. ماذا عن الطالب المتفوق في الأحياء والكيمياء والراغب في التخصص في مجال الطب ولكن مجموعه الكلي غير مناسب لأنه لا يبدع في الفيزياء والرياضيات واللغة العربية؟ فلو أن الفرصة سنحت له في دخول التخصص الذي يحبه ويعشقه لربما أصبح جراحاً عالمياً ذا صيت وشهرة. والمحزن أنَّ معدل هذا الشاب قد يجبره على التخصص في الهندسة أو التجارة، أو أي تخصص لا يناسبه إطلاقاً.
غياب البرامج الإستكشافية
هذا هو الهم الأكبر للشباب المتفوق والقادر على تحديد التخصص الذي يحب أن يلتحق به، فماذا عن البقية وهم الأغلبية الذين ينتظرون أن يتخرجوا من الثانوية ليبدأوا في التفكير في التخصص أو ليتركوا معدلهم يحدد لهم مجال تخصصهم ومستقبلهم. لماذا لا توجد برامج تساعد الطلاب على استكشاف التخصصات والنطاقات العملية من السن المبكر - أقصد الابتدائية والإعدادية. فلو أن أطفالنا بدأوا في التعرف على الخيارات المتوفرة منذ الصغر، لاستطاعوا أن يوجهوا مسار دراستهم لكي يصلوا إلى التخصص المنشود. أرى أنَّ حل هذه المشكلة يقع في يدي الوالدين والمدرسين؛ يجب على كلا الطرفين مداعبة أحلام الأطفال منذ الصغر لكي يبدأوا في التفكير في مستقبلهم، ولكي يشعروا بقيمة وأهمية دراستهم التي ستصل بهم إلى هذه الأحلام. أما بالنسبة لما ذكرت سابقاً عن التخصصات والدرجات والنظام الجامعي، فيمكننا أن نتبع المنهج الغربي في هذا المجال. معظم الجامعات الأمريكية لا تقوم بالتركيز على المجموع الكلي فقط، وإنما يتم الاهتمام والتركيز على الدرجات التي حصل عليها الطالب في المواد المتعلقة بالتخصص، فالرياضيات والفيزياء مادتان أساسيتان لتخصص الهندسة بكل أنواعها، والأحياء والكيمياء للطب، إلخ. لذا يجب على جميع الجامعات التي تعمل على النظام القديم أن تقوم باتباع هذا النظام، أو أي نظام مشابه يقوم بفرز الطلاب على حسب ملاءمتهم للتخصص المعروض وليس على حسب معدلهم الكلي. وعن نفس القضية يقول أبو هارون http://www.abuharoon.com: التخصص قد يبدو قراراً بسيطاً تتخذه أثناء تعبئة استمارة القبول في الجامعة، تسأل زميلك عن رأيه في أفضل تخصص، أو تنسخ إجابات زميلك، أو ما تعارف عليه أصدقاؤك بأنه أسهل تخصص، أو التخصص الذي عليه أكثر طلب في سوق العمل. لو فعلت ذلك، فهناك فرصة كبيرة بأنك دخلت في التخصص الخاطئ. اختيار التخصص قرار تتخذه اليوم، وتعيش معه لبقية حياتك، ولذلك لا يجب أن تتعامل معه كتعاملك مع طلب وجبة من مطعم أو أي مشروب غازي تود شراءه. وقد لا أكون مبالغاً حين أقول إن أحد أكبر الأسباب المؤدية لانسحاب الطلبة من الجامعات أو تردي مستواهم هو اختيار التخصص الخاطئ.
بحثاً عن التمايز
التخصص ليس لتحديد مجال عملك في المستقبل فقط، بل شكل وطريقة حياتك. فلتتميز في مجال عملك وتخصصك، يجب أن تكون محباً لمجال العمل الذي تتخصص فيه. فأنت حين تدرس تخصصا ما، أنت توقع عقداً بأنك يجب أن تستمر بدراسة والبحث والعمل في مجال هذا التخصص لبقية حياتك. فالعلم يتجدد بشكل سريع، ولو توقفت عن القراءة والبحث في مجال تخصصك لأربع سنوات ستعتبر جاهلاً في تخصصك. انظر مثلاً للطبيب يحتاج ليقرأ بشكل دوري عن ما استجد من الأدوية والعمليات الجراحية. أو المهندس يحتاج ليعرف عن العمليات الصناعية الجديدة والتي توفر على المصنع الذي يديره المال والوقت في الإنتاج. لكي تختار تخصصك الجامعي تحتاج لثلاثة أشياء: ? تحتاج لكشف نفسك، قدراتك وميولك. ? تحتاج لتتعرف على التخصص، وطريقة ونوعية المعلومات المعروضة فيه. تحتاج لتتعرف على الفرص الوظيفية المتاحة للخريجين في هذا التخصص، عددها التقريبي وموقعها. وتحت عنوان «كيف تختار تخصصك ؟»ورد في مدونة http://www.som1.net: لربما كان موضوع هذا السؤال الهاجس الأهم لدى الطلاب بمختلف فئاتهم العمرية، وإن كان يصل إلى المحك الحقيقي في المرحلة الجامعية حيث يتعين على الطالب أن يختار خياراً واضحاً بين خيارات كثيرة يخط به مسار حياته العملية بعد التخرج من الجامعة.
المهنة شريكة الحياة
في الواقع أن قرار اختيار التخصص هو قرار حياتي بالدرجة الأولى ويجب أن يحوز على قدر كبير من الاهتمام والسؤال والبحث والتقصي، تماماً كقرار اختيار شريكة الحياة، ما لم يتم اتخاذه عن معرفة وعلم وثقة، وإلا فسيكون الحصاد مُراً . أنا لا أظن أن أحداً لا يعتقد بمثل هذا الأمر ولا يهتم بمثل هذا الموضوع، لكن في الحقيقة أن طريقة ترجمة الاهتمام بالموضوع إلى واقع عملي عادة ما تكون خاطئة بسبب الخلفيات الذهنية التي لا يستطيع الطالب أن يخرج عن إطارها. وبالتالي تؤدي بالطالب في خيار ربما سيحصد مُرّه بعد أجل طويل. هذه الخلفيات الذهنية هي نتاج لتنشئة طويلة، تأتي في مقدمتها التربية الأسرية والتربية الاجتماعية ووسائل الإعلام والمدرسة والشارع وغيرها. فعلى سبيل المثال حول التربية الاجتماعية، يعتقد الناس أن الطالب (الممتاز) يجب أن يكون طبيباً أو مهندساً، والعكس صحيح، فكل طبيب أو مهندس كان طالباً ممتازاً، واستقرت هذه الثنائية في المجتمع لتصبح فيما بعد أشبه بالتيار العام الذي تحول إلى عامل ضغط على الطلاب المتميزين، بحيث يجب أن يختاروا إما طب أو هندسة في سبيل محافظتهم على مكانتهم الاجتماعية. لقد ساد في فترة ماضية اعتقاد ينص على أن الطالب الجيد يجب أن يكون معلماً، وأتحدث هنا عن مجتمعي الذي نشأت فيه، وقد ذهبت الآلاف المؤلفة من العقول اليافعة والجبارة إلى كلية المعلمين ليدرسوا ويتخرجوا معلمين، ويستلموا رواتبهم في آخر الشهر، في أجمل وأسهل عيشة يراها المجتمع، على الرغم من أن كثيراً منهم لا يناسبه هذا المجال لكي يبدع فيه.
مفاهيم مطلوبة
وربما تكون هنالك أسباب رئيسية أدت لسيادة مثل هذا الاعتقاد كالحاجة والفقر وبُعد المنطقة عن النهضة والنفط والحركة التجارية وغيرها، لكن لا يمكن أن يسقط هذا الأمر على جميع شرائح المجتمع بما فيها الشريحة القادرة على النفقة والسفر. سوف نجد ذات الأمر في مجتمعات أخرى كان لها نصيب الأسد من النهضة والمصانع والتي تحتاج إلى المهندسين، كموقف المجتمعات في المنطقة الشرقية من شركة أرامكو السعودية وأن الطالب الممتاز يجب أن يكون مهندساً فيها حتى لو لم يكن لديه ميول لمثل هذا الأمر. إن الخروج من هذا التيار الاجتماعي في سبيل تحقيق الرغبة الشخصية من أصعب الأمور، خصوصاً إذا لم يكن للإنسان مساند قوي قريب منه يدعمه في قراره كالأب أو الأم، لأن الإنسان بنفسه يفكر في صندوق اجتماعي كبير لا يكتشف أنه كان محاصراً داخل هذا الصندوق إلا بعد حين، فمثلاً -أخي الطالب- قد تقول لي إنك اخترت الهندسة عن رغبة حقيقية منك، وتبدأ بسرد الأمور والمبررات التي تجعل رغبتك حقيقية كأن يكون أبوك مهندساً، أو تكون قد أنجزت اختراعاً بسيطاً في ذات المجال، لكن كل هذا -في غالب الحالات- لا يعدو كونه جرياً داخل الصندوق، ولا يمكن اكتشاف حقيقة الأمر إلا بعد حين