إبراهيم الملا (الشارقة)
يكاد يكون «القحط الروحي» هو الثيمة الأساس التي ارتكزت عليها مسرحية «أحمد بنت سليمان» للمخرج أحمد الأنصاري، وهو القحط الذي جسدته سينوغرافيا العرض بحساسية رمزية عالية، من خلال شجرة جرداء وموحشة توسطت الجانب الأكثر بروزا في الديكور، كي تهيمن على مناخات العرض السوداوية في مجملها، وتلقي بظلالها المشروخة وانعكاساتها الجارحة على أرض الحكاية المصبوغة بالدم، والمأهولة بالألم.
ففي مشهدية الظلال الشائكة هذه، تنبت المأساة على مهل، رقيقة مثل شفرة الموس، وصامتة مثل صرخة مكتومة، صرخة لا تهتدي لفم، ولا تستقبلها أذن، سارحة في تيهها، ومنكسرة في أوج احتدامها، وفي مبتدأ بوحها، يحاصرها الكبت والاستبداد والشجن، وتحوم فوقها غيوم الشؤم الداكنة. شمسها منطفئة، وآبارها عطشى، لأنها تحاكي الأنوثة المحطمة، وهي لم تكتشف ذاتها، بعد، ولم تتنفس هواء العشق بعد. مسكونة بالخرائب، ووعد الخلاص بالنسبة لها يبدو مستحيلا.
تم تقديم عرض «أحمد بنت سليمان» في اليوم الثاني من مهرجان أيام الشارقة المسرحية – الدورة 29 – وهو من تأليف ناجي الحاي، ومن إنتاج فرقة جمعية كلباء للفنون الشعبية والمسرح، ويعالج النص الواقعية الممتزجة بسحريتها في رواية «طفل الرمال» للكاتب الفرانكفوني الطاهر بن جلون، كي يعيد ناجي الحاي الاشتغال عليها من منظور شعبي تؤثثه اللهجة المحلية الإماراتية بقدر كبير من الشعرية المتجلية في غالب الكتابات التي يعتمدها الحاي في مختبره المسرحي، ويستثمرها في طرح قضايا جريئة تحاكم وقائع صادمة ومسكوتاً عنها، فيما يشبه اختراق التابوهات والمحرمات ولكن بحرَفية وأناقة ونفاذية قد تنكأ الجروح أحيانا، وقد تبالغ في قسوة ولوجها للأعماق المعتمة، لا من أجل حيازة إجابات حاسمة، بل لتوليد مزيد من الأسئلة الضارية، وعلامات الاستفهام المغروسة مثل طعنات الخنجر في جسد المعنى، ذلك المعنى الذي يداري قبحه بالتواطؤ مع صانعيه من مشعلي الحرائق الاجتماعية في كل الأزمنة والأمكنة.
يبدأ عرض: «أحمد بنت سليمان» باستهلال غنائي لقصيدة شعبية تقول كلماتها المتأرجحة بين الألفة والشتات: «يا خوي يا عضيدي، لا ترقد في السيحِ، ارقد في ظل بارد، بين الحشا والروحِ»، وتنطلق بعدها الشخصيات الرئيسية في رسم الملامح الأولى للحكاية، وإن بشكل مجتزأ، ولكنه مشبع بدلالات قاسية وحمولات نفسية ثقيلة، نتعرف عليها تدريجياً من خلال الأزمة الوجودية للأب «سليمان» – يقوم بدوره الممثل عبدالله مسعود - وهو يبحث عن مخرج لمشكلته الطاحنة والمتمثلة في عدم إنجاب زوجته لطفل ذكر يحمل اسمه، بعد ست ولادات سابقة لإناث يراهن عديمات القيمة في حياته وفي مركزه الاجتماعي، بينما تبدو الأم – تجسد دورها هنا الفنانة فاطمة الحوسني بعد غياب طويل عن خشبة المسرح – وكأنها مسكونة بالحيرة بمدياتها القصوى، حيرة تدفعها في النهاية للقبول بحل عجائبي يقترحه الأب، وهو ليّ عنق الحقيقة، وتسمية المولودة السابعة القادمة باسم «أحمد» وإخفاء السر عن الجميع سوى الأب والأم والمربية «حليمة» – تقوم بدورها الفنانة أشجان –، وفي هذا المناخ الممتلئ بالمداراة والكتمان يتصاعد إيقاع الحبكة ويأخذ مسارات متشابكة، عمل المخرج أحمد الأنصاري وبذكاء على ضبط إيقاعها، وخلق التوازن المطلوب بين الحضور الفلكلوري الشعبي المتمثل في الأزياء والحوارات والموسيقى والقصائد المعززة لروح المكان، وبين التعبير التجريدي المتمثل في السينوغرافيا والإضاءة والرقص الإيحائي لشخوص وهميين يحيطون بالفتاة «أحمد بنت سليمان» – أدت دورها الفنانة عبير الجسمي – ويشكلون إيقاعاتهم الشيطانية على مقاس العذابات التي ينسجها الأب حول جسد ابنته غير المعترف بها كأنثى.
يركز العرض أيضا على هاجس «اختلاط الضمائر» الذي تلاحق لعنته الجميع، فالازدواجية الجنسانية التي تعاني منها الفتاة سوف تتوسع مثل أمواج شرسة تصيب المحيطين بها بالخلل التوصيفي، والبهتان المعرفي، ونرى التجسيد الأمثل لضبابية النعوت هذه في شخصية «خروشانة» المرأة المجنونة والمبروكة في آن – تقوم بدورها الفنانة «وفاء الراشدية» – لتحتل مكان «الراوي العالم» الذي يصف الأحداث من الجانب المحايد، وإن كانت تلجأ للرمز والمواربة ولكنها تلخص في النهاية النسيج الدرامي لمأساة زرعت مثل نبت منحوس في قلب الفتاة المتأرجحة بين اسمي أحمد وزهرة، تلك الزهرة التي ذبلت قبل أوانها، وحان لها الآن أن تتمرد على سجنها الجسدي، وتظفر بحريتها، وأن تنبعث وتنهض وتنطلق من حشرجات الموت في صدر والدها الذي اختار لها هذا المصير منذ البداية وعليه الآن أن يجترع سمّ الندم، بعد كل الويلات التي صدّرها للآخرين، وكل حقول الشوك التي سقاها بجشعه وأنانيته وطغيانه.
حظي العرض في مشهده الختامي بتعاطف كبير من جمهور الصالة، واستطاع الممثلون الذين قاموا بأدوار مساندة بقوة لبنية العرض وهم عبدالرحمن الملا، وصوغة، وعادل سبيت وجوهر مصبح، وخلود البديوي في إضفاء لمسات أدائية مؤثرة ومكملة لنسيج النص المرئي ومثرية لتفاصيله وهوامشه، وكان لخروج الفتاة «أحمد بنت سليمان» من عتمة الخشبة في نهاية العرض، إلى نور الصالة المزدحمة بالحضور، دور لافت في كسر المسافة الوهمية بين الواقعي والافتراضي لمسار الحكاية، خرجت زهرة للحياة والتحمت بأنوثتها مجدداً، وكان علينا كشهود حقيقيين أن نصفق لإرادتها في تخطي مستحيلها الشخصي، وتجاوز مستحيلنا الجمعي أيضاً.
نور المسرح الجميل
كان لخروج الفتاة «أحمد بنت سليمان» من عتمة الخشبة في نهاية العرض إلى نور الصالة المزدحمة بالحضور دور لافت في كسر المسافة الوهمية بين الواقعي والافتراضي لمسار الحكاية، خرجت زهرة للحياة والتحمت بأنوثتها مجدداً، وكان علينا كشهود حقيقيين أن نصفق لإرادتها في تخطي مستحيلها الشخصي، وتجاوز مستحيلنا الجمعي أيضاً.