31 مارس 2010 19:52
تنقلت في محطات كثيرة، أبصرت عوالم مختلفة، وأخيراً جمعتها في صالة واحدة، وقد يتساءل المتلقي، كيف يمكن لفنان أن يقدم مراحل إبداعه التي تتسم بعضها بالبساطة وتبدو في بعضها الآخر أكثر قوة في الرؤى والتأمل في تفسير العالم؟. في محطات خلود الجابري الفنانة التشكيلية الإماراتية نرى كيف تنقلت بين مشهد وآخر، بين مدرسة إبداعية وأخرى، بين قلم الرصاص الطفولي وزيت سائل على الورق، بين حلم شفيف لفتاة في أول خطواتها على درب الفن التشكيلي إلى تجسيدات وتساؤلات مهمة عن دور الفن في عالم مليء بالتعقيدات.
حاولت خلود الجابري أن تقدم كل عالمها في مراحله التي تخطتها بثبات واصرار عجيبين.
ابتدأت بتخطيطات رصاص على ورق البومات الصور فرسمت شخصيات احسان عبدالقدوس في “أنا حرّة” تلك الرواية الرومانسية التي عانت بطلتها قسوة الحرية المشوهة التي اختارتها ثم رسمت “صوفيا لورين” بكل أنوثتها الطاغية حيث الجسد والجمال وهما يلتقيان بين خطوط الرصاص الرقيقة، ورسمت الأميرة ديانا في أكثر ألقها إشراقاً، كما قدمت درساً أكاديمياً في الحواس البشرية حيث الشفاه والعيون والآذان والأنوف في تكويناتها الدقيقة، كما قدمت “الجرار” في لوحتها “ستل لايف”، وفي قراءتها للظل والضوء اشتغلت الجابري على لوحة المرأة التي التقطتها من الخلف في التفافة جاذبة.
تلك هي مرحلة التخطيطات بالرصاص التي ابتدأت عام 1979 حتى عام 1988، وكأننا نبصر هذه المرحلة التي امتدت لأكثر من 11 عاماً وقد أهلتها لتدخل محراب الفن كسيدة حالمة لأن تكون فنانة ترصد عالماً ملوناً سيأتي لاحقاً.
مرحلة الترميز
وترسم خلود الجابري أول صورة ملونة لها وذلك عام 1986 وهي لوحة القارب على شاطئ نهر بعيد، تكاد الألوان فيها تقترب من بعضها في تداخل لا تحس فيه بأن ثمة اختلافاً كبيراً بينها، إلا أن هذه اللوحة امتازت بدقة الاحساس بالأبعاد الهندسية المنضبطة.
وتأتي لوحتا شجرة الخريف (صمود) وخريف (سكون الليل) لتجسدا مع لوحة القارب رؤية واحدة لأول مراحل استخدام اللون لدى الجابري.
وتدخل خلود الجابري بمرحلة الترميز في لوحتها “المرأة والحضارة” 1988 وتخالط هذه الفترة اهتمام بالموروث في لوحتها “الصقلة 1987” حتى يمتزج هذان التعبيران لديها في لوحتها “حطام مراكب 1987” التي صورت السفينة والشراع والشباك وشاطئ البحر وانكسار الساري التي عالجت من خلاله رمزية موضوعتها باتجاه إحالة المعنى إلى تحولات الحياة من البحر إلى البر حيث يبدأ الإنسان في ترك مهنة البحر باتجاه نار النفط الأثيرية المغرية التي جسدتها لوحتها الرمزية الإنسان والبترول 1991.
وترسم الجابري “احتواء 1، 2، 3” حيث تعتمد الأحبار المائية لتجسد امرأة بأوضاع حالمة ضمن ترميز دلالي للمعنى، كما تجسد في الآن نفسه واقعية تصور فيها الشوارع والأزقة القديمة في ثلاث لوحات، كما تجسد أيضاً الرمزية في لوحتها “عندما تدفن النخيل” عام 1989 التي اتخذها القاص ناصر الظاهري غلافاً لمجموعته القصصية، وهي في جميعها جاءت قبل توقفها عن الرسم عام 1991 حيث رسمت “شموخ امرأة”، حيث استمر هذا التوقف لأكثر من 17 عاماً.
حكاية
رسمت خلود الجابري لوحتها “شموخ” وأكملت اسكتشات اللوحة عام 1991 وظلت 18 عاماً بلا تلوين حتى لونتها عام 2009، كذلك لوحتها “أحلام امرأة 1” فقد لونت في 2008.
جهة الدلالة
في لوحتها أحلام امرأة 2010 التي تعد أكبر عمل لها من حيث المساحة، حيث تصل إلى 200 * 150 سم نجد امرأة حالمة، تدعو إلى حريتها في يديها المفتوحتين للعالم وهي تحمل في رأسها أشياء كثيرة بينما بدا شعرها المنثور مشدوداً إلى تقاليدها، في الوقت الذي بدت فيه الحمامة رمزاً للسلام والانثوية مع استغراق في استخدام اللون الأحمر.
التجربة الفطرية
في لوحات خلود الجابري “تجريد 1 حتى تجريد 10” التي رسمت في عام واحد وهو 2010، نجد رؤية جديدة حاولت من خلالها أن تقدم تماثلاً بين اللوحة والجدار في إطار من التجربة الفطرية، حيث اللون المعتق والتعبير عن الفرح في محاولة لتكريس التعدد اللوني مع تغاير في ضربات السكين التي بدت تشكل رؤى ودلالات أكثر غموضاً وإيحاءً وعمقاً.
وفي خضم هذه المرحلة تبدأ خلود الجابري في العودة إلى أنظمتها وتوجهاتها الكلاسيكية في لوحتيها “الفريج 3 و4” حيث الأزقة والبيوت الطينية وانحناءات الظل في الشوارع الذي يستدعي الحلم بالبيت العتيق.
وترسم خلود لوحتها “قصة عشق” مشخصة الحصانين في زهوهما وبريق ألوانهما، وتدخل من خلال هذه اللوحة بالتجريب في لوحتي الحالمة 1 والحالمة 2 في “إحلام امرأة” و”استلقاء”.
وترسم الخصب 1 والخصب 2 في موضوعة البيئة والمستقبل ويهيمن الأحمر واللون الصحراوي ويبدأ الفيض بالأحمر القاني ضمن مرحلة تجريدية مهمة تقدمها الجابري، غير أن هذه المرحلة تتوج بلوحته “عطاء” حيث الشجرة التي تنبع في أرض جرداء صفراء في تلونها ومواتها حيث الحجر القاسي إلا أن اخضرار الشجرة التي رمزت بها إلى شخصية سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان إنما هو تعبير عن العطاء الذي لا ينضب.
تلك هي مراحل خلود الجابري بين الرصاص حتى الزيت مروراً بالمائيات، تلك هي مراحلها بين التخطيطات المدرسية حتى التجريدية مروراً بالرمزية والواقعية والانطباعية ضمن معالجات ذاتية.
57 عملاً فنياً جمعت الفن التقليدي القديم والفن الحدث المتأثر بمذاهب فنية جديدة وصلت في حدودها حتى السريالية.
لوحات أظهرت جمال المرأة وروعة تشكلها الطبيعي حيث البورتريهات في تألقها الجمالي الساحر ضمن حضور طاغ للمرأة إلى جانب التجريد الواعي لاشكال الحياة المألوفة في فيض لوني غير متكلف.
شخصانية الأشياء
“جذع شجرة” و”كرسي” و”مصطبة بطول 150 سم”، وعلى الكرسي قلادة نحاسية مطعمة بشذرات حمراء، هي 3 نماذج تشكيلية من الفن النحتي حاولت أن تلونها بالأحمر والأخضر والبرتقالي والبني والذهبي وأقلام التذاهيب وفي استخدام الأقمشة المعلقة إنما تعبر عن ازياء المرأة بل عن رمزيتها الساحرة.
حمل الكرسي رمزاً رباعياً “4 أخشاب في عمود الظهر” وحملت المصطبة “4 أخشاب في عمود الظهر” وهذا بحد ذاته تجانس واضح حيث يهيمن الرقم 4. أما جذع الشجرة فهو رمز لحيوان خرافي وكأن جسد الذكورة يحل في جسد الشجرة مع استخدام ألوان الكرسي نفسها في ترميز للمرأة وكأنها تحيل إلى السرير الذي يمتزج فيه الحيوان الخرافي - بتعدد دلالاته - مع رمزية الأنوثة التي يمثلها الكرسي، وهنا تظهر الشخصانية التي تحملها الأشياء في ترابطها اللوني.
هذه هي خلود الجابري التي حضرت بقوة في المشهد الثقافي لتؤكد رموزها ورؤاها.