الجمعة 20 سبتمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

بانوراما الأم في الأدب الإنساني.. سر الحياة

بانوراما الأم في الأدب الإنساني.. سر الحياة
21 مارس 2019 03:07

غالية خوجة (دبي)

لم تغب الأم عن محور الأعمال الأدبية المختلفة، بأجناسها المتنوعة، فهي حاضرة بين شعر وسرد وموسيقى وفنون تشكيلية، فحضورها متجذر في الذاكرة الإنسانية العتيقة، وهذا ما نستشفه من نقوش الإنسان الأول على جدران الكهوف، ثم على الألواح الطينية وأوراق البردي، وجلود الحيوانات، والأوراق، وحالياً، الشاشة الإلكترونية.
وارتبطت الأم منذ البداية بأناشيدها التي تهدهد بها أطفالها ليناموا في هدوء، ولو عدنا إلى الذاكرة لوجدنا كيف ارتبطت الأم بمعنى سر الوجود العميق وأصل الماء والحياة، ودلالاتها ومعانيها وإيحاءاتها وعناصر الكون الأكثر جمالية ولطفاً.
ومكانة الأم التي كرمها الله وأنبياؤه عظيمة، لدرجة أن الجنة تحت أقدامها، ونلاحظ كيف تحضر روحاً وجسداً وسلوكاً وحياة في العديد من الأعمال الإنسانية، التي نشرع أجنحتنا نحوها بدءاً من أمواج الإمارات، وصولاً إلى العالم والفضاء، وهذا ما تبحر به رؤى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، فهي الشخصية المثالية في قصيدة سموه «الأم»، التي تجمع كل أم ووطن: «مهما الليالي تدور، حبك ترى في الصدور أنت يا بدر البدور، لك كل حب وشعور، يا أمنا يا الحبيبة، يا الغالية يا القريبة».
كما يتجلى ذلك في كتابه «قصتي»، وما يختزله من حيوات ماضية وحاضرة ومستقبلية، ومنها عناوين لأمه الشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، وما يرويه عنها، عاكساً شبكة من الذاكرة الزمنية المتشابكة، تروي المرحلة، وعاكساً لحالة التخاطر الروحي بين الأم والأبناء، ومن تلك المقاطع، نقرأ: «الأم تعبها يؤلمنا، وحزنها يكسرنا، ومرضها يرهقنا، فكيف إذا رحلت وتركتنا؟!».
ويذكر سموه، في صورة مشهدية أخرى حالة الأم، التي لا تقر عينها عندما يغيب أحد أبنائها عنها: «ما زلت أذكرها وهي تبحث عني ليلاً إذا تأخرت، لتجدني أغطّ في نومي عند خيلي في الإسطبل»، ويساوي سموه بينها والحياة لدرجة التطابق والسكينة والطمأنينة والمحبة والسلام: «من لم يذق حب الأم وحنانها لم يذق طعم الحياة».
وتبدو الطفولة هي الثيمة المشتركة في الأعمال الإبداعية المتمحورة حول الأم، وما تحمله من دلالات الحنين والحرية والبراءة والعفوية، إضافة إلى كونها المصدر السببي الأول للطاقة والنور والوجود والحياة، والذاكرة المستمرة، والحلم المستمر، والكينونة الكلية المتكاملة.

الأم مدرسة
ولأن الأم هي لغتنا الأولى، فإن اللغة الأم مفهوم جذري لانتمائنا، ولدورها الكينوني، قال الشاعر المصري حافظ إبراهيم: «الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق»، وهي الأم التي بحث عنها الشاعر السوري نزار قباني مسافراً إليها لعله يجد في مناكب الأرض طيفها: «وطفت الهند طفت السند طفت العالم الأصفر، ولم أعثر على امرأة تمشط شعري الأشقر، وتحمل في حقيبتها، إلي عرائس السكر، وتكسوني إذا أعرى، وتنشلني إذا أعثر، أيا أمي».
وعلى الذروة الأخرى من الشعر، نخجل مع الشاعر محمود درويش من دمع أمهاتنا إذا متنا، لأنه يختزل الأعماق الشاملة في قصيدته التي تبدأ بـ«أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي»، حنيناً لا ينتهي عبّر عنه في قصيدته التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، نتيجة ما تعكسه من ثيمات موضوعية وفنية وغنائية، تلامس أي إنسان في أي زمان وأي مكان، وتجعل من كلماتها مرايا متعاكسة نرى من خلالها براءة تعلق الشاعر، وأي إنسان، بأمه.
ولأنه «من روائع خلق الله قلب الأم» كما يقول أندريه غريتري، ولأن «الأمومة أعظم هبة خصّ الله بها النساء» كما تقول ماري هوبكنز، فإننا نستكشف ما وراء الكلمات من شفافية وحنين للأم من بيت للمتنبي: «أحن إلى الكأس التي شربت بها، وأهوى لمثواها التراب وما ضمّا». وينجز المتنبي فضاءً كثيفاً من الحنين والدموع، ما بين الكأس والتراب، ليغوص أكثر مع الموتى والمقابر والتراب، ومع الآثار الدالة على الحياة والذكريات.

قيم راسخة
وتحولت صور الأم المعنوية والرمزية والسيميائية في حضورها وغيابها مع كلمات مبدعين آخرين إلى حكمة مضاءة بالقيم العربية والإنسانية، ومنها بيت لرهين المحبسين أبوالعلاء المعري: «العيش ماضٍ فأكرم والديك به، والأم أولى بإكرام وإحسان»، ونرى كيف جمع مؤلف رسالة الغفران بين الإكرام والإحسان كفعل باقٍ مضاد وصورة مضادة للفناء والزوال، وبصورة عامة، فإن الإنسان العربي يجسد هذه القيم، التي تجري في عروقه مجرى الدم، وهنا، في الإمارات، نلاحظ كيف تشع هذه القيم الراسخة المترسخة على الصعيد الفردي، والاجتماعي، والحكومي أيضاً، فمن العادات الجميلة المتواصلة التقاء أفراد الأسرة في بيت العائلة كل يوم جمعة، وهذا من الإرث الحضاري الإنساني الذي تعلمناه، إضافة إلى فرض احترام الكبير، واللطف مع الصغير، وإعادة صياغة الحياة بطريقة حداثية أصيلة مشرقة، منها الاهتمام بـ«كبار المواطنين» وهو مصطلح إنساني أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، لتستمر الحالات الإنسانية راقية وحضارية.
ومن الأعمال التي جسدت شخصية الأم «لوحة الأم» التي رسمها بابلو بيكاسو لأمه، جاعلاً منها حكاية متأملة لعوالمها الداخلية المتناغمة مع هالة النور المحيطة برأسها، رامزاً إلى حالة تواصلها مع الخالق دعاءً وصلاةً وتفكراً، وهذه السمة القدسية نلاحظها في مجمل الأعمال الإبداعية ومنها الموسيقية والغنائية.
بينما يجعلنا الشاعر المسرحي الألماني برتولد بريخت وجهاً لوجه مع التحديات، التي تمر بها شخصية الأم في مسرحيته «شجاعة الأم وأبنائها»، وكيف تحدت الحرب الدائرة بين ألمانيا وأوروبا الشرقية، التي استمرت 30 عاماً، في القرن السابع عشر، وكيف أصرت الأم على البقاء وتحدي ليس الحرب فقط، بل والحياة أيضاً.
ولا تبتعد رواية مكسيم غوركي «الأم»، عن أجواء المعاناة التراجيدية، وصراعاتها المتنوعة، وآلامها، ومن الحِكم في هذه الرواية: «كم هي أليمة حياة الطيبين، وكم سهل موتهم».
ومن زاوية أخرى للأمومة، تكتب إيزابيل الليندي روايتها «باولا»، حاكية عن آلامها وجراحها، التي لا تحتملها وهي تعايش صراع ابنتها باولا مع المرض ثم وفاتها، وكيف سردت العديد من الأحداث والشخصيات بأثر رجعي، آملة لو كانت تستطيع أن تمنح ابنتها حياتها أو تضحي بحياتها لأجل ابنتها.
وأيضاً، ترحل بنا الكاتبة بيرل باك إلى الأم الصينية في ثلاثيتها «الأرض الطيبة» و«الأبناء» و«الأم»، وكيف ساندت هذه الأم زوجها في أزماته الكبيرة، متحدية الصراعات المختلفة، وكيف حرصت على التمسك بهذه الأرض رغم المصائب والشدائد، التي قد لا يحتملها بشر.
وتستوقفنا ثلاثية نجيب محفوظ «السكرية»، و«بين القصرين»، و«قصر الشوق»، عند شخصية الأم أمينة، المستوحاة إلى حد ما من أمه، التي صبرت كثيراً على معاملة الناس، وأولهم زوجها السيد أحمد، الذي مرض أخيراً، وبدأت، بالتدريج، الخروج من عزلتها، وعاداتها القديمة، لتؤدي دوراً محورياً في الحياة بين العائلة والجيران والمجتمع، وتكون مرايا من مرايا التجدد في الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©