بعد كتابه «في الميثولوجيا العربيّة»، والذي أصدره قبل عام من الآن، ها هو الباحث اللبناني في الميثولوجيات الشرقية د. عصام تيودور الحوراني يطلّ علينا بكتاب جديد حول «الميثولوجيا المصرية»، التي تشكّل في رأيه امتداداً لميثولوجيا بلاد ما بين النهرين والصين والهند؛ وكذلك - على المقلب الآخر - لميثولوجيات سائر بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط.
وفي كتابه الجديد الحامل عنوان: «في الميثولوجيا المصرية: معتقدات وحكايات وأساطير» يبحث المؤلف في ديانات وادي النيل في عهود قديمة مختلفة، تتناول في ما تتناول، طبيعة الفرعون الإلهية وعالم الخلود والسماء والاستلهام والاستخارة والأعياد الدينية والقرابين.. إلخ؛ كما يتناول الكتاب الجديد، الأدب المصري القديم والفن والمعابد والكهّان والتماثيل والصور والنقوش والتمائم والموسيقى والرقص والطب والسحر والأساطير وغيرها.. وعلى مستوى الأدب نقرأ في الكتاب عن «كتاب الموتى»، وهو عبارة عن سِفر إرشادي شعري حِكمي يتضمّن تعاويذ وأدعية ورقى وصلوات رقيقة، يُزوّد بها الميت لتعينه في وحشته، وتبدّد من خوفه، وتسهم في تليين قلب أوزيريس (الإله الحاكم) عليه.
ويرى د. الحوراني أن البحوث التي شملت الميثولوجيا المصرية ما كانت لتبصر النور في القرن الثامن عشر الميلادي لولا عمليّة فك رموز الكتابة الهيروغليفية، والتي تعني بالإغريقية «النقش المقدس».
هنا حوار مع د. عصام الحوراني الذي يحبّ البعض في لبنان أن يطلق عليه لقب: «أبو الميثولوجيا الشرقية» من كثرة اشتغاله على عالم الميثولوجيات والأساطير والملاحم.
* في البدء سألنا البروفسور الحوراني عن دواعي انجذابه إلى عالم الميثولوجيّات وتخصَّصه فيه، حتى أمسى الأمر بالنسبة إليه مشروع حياة فكرية وذاتيّة متكاملة، فأجاب:
** لعلّه القلق الفكريّ الذي يُساور الإنسان من وقتٍ إلى آخر، ولا سيّما في أوقات الانقباض النفسيّ والفراغ، وفي زمن التعدُّد الثقافيّ وتنوِّعه من ديانات مختلفة ومذاهب متفرِّقة ومدارس فلسفيّة متنوِّعة، فيدفع ذلك بالمرء إلى أن يميل بلاوعي نحو التقصّي والاستطلاع والبحث الرّصين. وحبّ الاستطلاع فطريّ لدى الإنسان ينمو منذ عهد الطفولة الأولى المبكرة، ويُصبح رغبةً شديدة جامحة ملحَّة تشدّه نحو الاقتراب من الجديد والمثير والمعقَّد والغريب الغامض والطلاسم، فيسعى إلى التعرّف إلى جوهرها بدافعٍ غريزيٍّ. هذه النفس التوّاقة نحو غريزة المعرفة والاستكشاف والفضول، تسعى للتعرُّف أكثر وأكثر إلى ما هو وراء الأشياء الماديّة المحسوسة، وإلى ما هو غير مدرَك بوساطة الحسّ من أمور معنويّة من مثال الأخلاق والقيم والعادات الغريبة التي يُمارسها النّاس على البديهة والمعتقدات المثيرة وغيرها. ويرتبط هذا بعلم الأبستمولوجيا الذي هو علم نظريّة المعرفة، وكيفيّة اكتسابها، والتعرّف إلى قيمتها، وإلى علاقة العلم بالمعرفة، ومدى ارتباطها بالفلسفة القديمة ومدارسها المختلفة، من السفسطائيّة التي أنكرت المعرفة، إلى مرحلة الشكّ على أيدي بيرون وديكارت وجان لوك، وكانت قديماً المدرسة المثاليّة الأفلاطونيّة، والمدرسة العقلانيّة، وأيضاً المدرسة النسبيّة وغيرها.
هذه الأمور ربّما شغلَتْ بالي منذ زمن طويل، وإذ بي مع تعاقب الأيّام والسنين أميل نحو عالم فيه غرابة وغموض وهو مثير للغاية، إنّه عالم الميثولوجيا الذي معه نذهب بعيدًا في عمق التاريخ، ونتيه في عالم الأساطير والملاحم، حيث الآلهة الكثيرة، ولكلّ إلهٍ شخصيّته المميَّزة، وطبعه الخاصّ، وسلوكيّاته المعيَّنة وحكاياته المنبثقة من خلف السنين. عوالم غريبة تشدّك إليها بلين ورفق وليس لها حدود. فتمضي أبداً في دروب الخيال والإبداع والإيمان لتعاين حوادث، وصوراً، ومغامراتٍ، وحكايات، تلامس جوهر الإنسان وصفاته وتؤثِّر فيه، على الرّغم من استقلاليّتها في فضاء الخيال والخرافات. تقبع الميثولوجيا في ذات الإنسان منذ سالف الزّمان، وهي تنتقل من جيل إلى جيل، وتبقى صلبة ثابتة في جوهرها، على الرّغم من تبدُّل أرديتها وأشكالها وصفاتها. ويبقى الإنسان واحداً وإن اختلفت الأمكنة وتباعدت الأزمنة. نتذوّق الميثولوجيا بحرارة ولذّة، مع أنّنا لا نؤمن بها، ولكنّنا نحيا ذلك الزمان بلهفة وحنان، وكأنّنا نردّد مع الشاعر ناصح الدين الأرجاني:
إذا علم الإنسانُ أخبارَ مَنْ مَضى
توهَّمتهُ قد عاشَ مِن أوَّلِ الدَّهرِ
هكذا شدّتني الميثولوجيا إليها، وكانت منطلقاتي معها هذه المرة من وادي النيل عبر كتابي «في الميثولوجيا المصريّة.. معتقدات وحكايات وأساطير»، لأصل إلى بلاد ما بين النهرين، فألملم أخبارًا من هنا ومن هناك، أتنقّل بين نهرَي الحضارة والخصب... الخصب في كلّ شيء، في الأرض، كما في عالم الخيال، ويحلّ «دوموزي» السومريّ ضيفًا عزيزًا على كلّ عصر، ترافقه «إنانّا» وحوله الآلهة من كلّ صوب يتنقّلون من مقام إلى آخر، ومن معبد إلى معبد في المدن التي كانت ترتوي من ماء الحياة المتدفِّق إليها من دجلة والفرات، كذلك الأمر مع «أوزوريس» المصريّ وحبيبته «إيزيس» في وادي النّيل، وأيضًا مع «أدونيس» و«عشتروت» في أفقا وجبيل ... ومع غيرهم هنا وهناك. نعم، إنّ البحث في الميثولوجيا شائق وفيه متعة، وأنا أحاول في دراساتي المتواضعة أن أجمع ما أستطيع إليه سبيلًا من أخبار هذه الدِّيانات والثقافات المغرقة في القِدم وأربطها بحاضرنا، وذلك بأسلوب بسيط قريبٍ من مفاهيم القارئ العاديّ.
التوحيد عند أخناتون
* ما الجديد المفارِق الذي كشفت عنه في كتابك الجديد حول «الميثولوجيا المصرية»؟
** الميثولوجيا المصريّة هي امتداد للميثولوجيا في بلاد ما بين النهرين، ولها كذلك اتصال مع الميثولوجيا في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسِّط كلّها، وفي الصين والهند وغيرهما.. وتشكِّل الأسطورة الحجر الأساس في عمارة الميثولوجيا، بل في الفكر البشريّ منذ أقدم الأعصر، فبواسطة الأسطورة يُحقِّق الإنسان أحلامه التائهة، ويُرضي غرائزه الملحّة الكامنة في اللاوعي.
والإنسان يرى منذ أقدم الأعصر بأنّ هناك حياةً أخرى، وأنّ هناك آلهة مختلفة تشاركه هذه الحياة وتساعده في ما لو رضيت عنه، فكان يسترضيها ويتقرّب منها بتقدمة القرابين والهدايا التي كان يظنّ أنّها تسرَّها. وهذه الآلهة في نظره لها سلطة على الطبيعة بعناصرها المختلفة. إن فاضت مياه النّيل أو فاضت مياه دجلة والفرات، فإنّ ذلك يكون بسبب غضب الآلهة، ويكون الطوفان الذي تحدّثت عنه الكتب السماويّة. هذه المعتقدات ما زالت بشكلٍ أو بآخر متّصلةً بمعتقداتنا الدينيّة والشعبيّة حتّى عصرنا الحاضر. الجديد المفارق في كتابنا عن الميثولوجيا المصريّة، هو مسألة التوحيد عند أخناتون، والمشترك بين الميثولوجيا ومعتقداتنا الشعبيّة والدينيّة، ومدى ارتباط الكتابة الهيروغليفيّة التي أساسها الكتابة المسماريّة بعالم الميثولوجيا. والميثولوجيا ومداها العقائديّ وارتباطها بالسماء، والخلود، والأدب، والتصوّف، والفنّ والموسيقى بشكل خاصٍّ، والكهانة، هذا عدا الأساطير وعلى رأسها أسطورة الخلق، وأسطورة غضب الآلهة على الجنس البشريّ، كما نقرأ ذلك في التوراة أيضًا. نعم، في هذا الكتاب نتحدّث عن الميثولوجيا المصريّة وامتدادها في الديانات السماويّة.
* وماذا بعد.. وبعد.. عن شبكة مضامين الكتاب وعوالمه؟
** هذا الكتاب، هو بحث في ديانات وادي النيل في عهودٍ قديمةٍ مختلفة. يتناول ما كان لديهم من معتقداتٍ وآلهةٍ كثيرة. في هذه الدِّراسة بحوثٌ في طبيعة الفرعون الإلهيَّة، وفي الحيوان وارتباطه بالطوطميّة، وفي الكتابة الهيروغليفيّة وأصولها في الميثولوجيا، وفي القربان، وعالم الخلود، والسَّماء، والاستِلهام، والاستِخارة، والوحي، والأعياد الدينيّة. كذلك، ثمّة كلامٌ على الأدب المصريّ القديم، والفنّ، والمعابد، والكُهّان، والتماثيل، والصُّوَر، والنقوش، والتمائم، والموسيقى، والرَّقص، والطبّ، والسحر، والأساطير وغيرها... يُظهر هذا البحث كيف كانت الميثولوجيا تتدخّل في حياة النّاس كلّهم. ونُلاحِظ مدى اتّصال هذه الميثولوجيا القديمة جدًّا بثقافاتنا الحاضرة وارتباطها بمعتقداتنا.
الموت والحياة الأخرى
* وهل تطرقت إلى «كتاب الموتى»، خصوصاً وأننا نعتبره أول «مجموعة شعرية» متكاملة في التاريخ، بما يتضمّنه من رقى وتعاويذ وصلوات رقيقة متوجّهة إلى الإله أوزيريس؟
** انشغل المصريون القدامى بالموت وثقافة الموت حتى الثمالة، وباتت الحياة الثانية المتّسمة بالخلود، هي قبلتهم ولبّ مقصدهم، وراحوا يرتّبون للميت في قبره الوسيع ما يحتاجه من غذاء وشراب وما شابه؛ وكانت تُطلى جدران القبور بالطلاسم المتنوّعة الأشكال، والتي قد تكون على هيئة أسماك أو نسور أو أفاع، وكذلك في الدرجة الأولى هيئة «الجعران»، ويبارك الكاهن هذه الصور والمقتنيات. وأهم ما كان يزوّد به الميت، هو «كتاب الموتى»، الذي يتألف من إرشادات مختلفة تساعده للانتقال بمرونة نحو حياة الخلود في العالم الآخر. وهذا الكتاب عبارة عن ملف من أوراق البردي. وفيه أيضاً، عدا الإرشادات، نعم - وكما أشرت في سؤالك – تعاويذ ورقى وأدعية وصلوات ابتهالية رقيقة، من شأنها أن تذلّل الصعاب وتليّن قلب القضاة وقلب أوزيريس الإله الحاكم. ويعتقد المصريون القدامى بأن نصوص «كتاب الموتى» من تأليف الإله «تحوت»، إله الحكمة والكتابة؛ وأنّ نسخة قديمة جداً منه عُثر عليها في هيليوبوليس، كانت بخطّ الإله «تحوت» نفسه. وفيها طلب المودّة والرحمة والرأفة التي يُخاطب بها القاضي الديّان، وتتوجّه الروح إليه بكلام جميل تقول فيه:
«أيا من يعجّل سير جناح الزمان/ يا من يسكن في كلّ خفايا الحياة/ يا من يحصي كلّ كلمة أنطق بها/ انظر إنك تستحي منّي، وأنا ولدك/ وقلبك مفعم بالحزن والخجل/ لأني ارتكبت في العالم من الذنوب ما يفعم القلب حزناً/ وقد تماديت في شروري واعتدائي/ ألا فسالمني، ألا فسالمني/ وحطّم الحواجز القائمة بيني وبينك/ ومُر بأن تمحى كلّ ذنوبي وتسقط/ منسيّة عن يمينك وشمالك/ أجل أمحُ كلّ شروري/ وامحُ العار الذي يملأ قلبي/ حتى تكون أنت وأنا من هذه اللحظة في سلام».
فضل شامبليون
* أيّ الدراسات التاريخيّة والعلميّة التي شكّلت مرجعيّتك في عمارة بنية كتابك الجديد؟
** إنّ البحوث التي شملت الميثولوجيا المصريّة ما كانت لتبصرَ النّور في القرن الثامن عشر الميلاديّ لولا عمليّة فكّ رموز الكتابة الهيروغليفيّة، ولاسيّما على يد العالم الفرنسي الكبير جون فرنسوا شامبليون. فلقد نامت هذه الكتابات القديمة نومة أهل الكهف منذ زمن بعيد، إلى أن عمِل الباحثون على فكّ رموز هذه اللغة التصويريّة. ولا ننسى فضلَ المستشرقين، من الأجانب الذين تخصّصوا في دراسة قضايا الشرق الإنسانيّة ونتاجه الفكريّ، وفي البحث عن المخطوطات والنقوش المدوَّنة وتحقيقها وتبويبها ووضع فهارس لها وطبعها، والعمل على ترجمة الآثار العربيّة إلى اللّغات المختلفة، وتنظيم المكتبات التي تضمّ النفيس من الكتب والمخطوطات. وغيرها من الإنجازات المهمّة في عمليّة فهم التراث الشرقيّ المتمثِّل بالآثار القديمة من نقوش ومخطوطات بلغات هيروغليفيّة ومسماريّة، ودراستها وتقديمها بمنهجيّة علميّة رصينة. ونذكر من أبرز هؤلاء المستشرقين: دربلو، دي ساسي، دي برسفال، كاترمار، دي سلان، كارا دي فو، وغيرهم من الفرنسيين. ومن الإنجليز نذكر: مرغليوت، نيكلسون، لان، بلمر. ومن الألمان: فليشر، وستنفيلد، كريمر، وأيضاً نذكر: نولدكِه، كولدزيهر، آري، غويدي، بروكلمان، دوزي، ريشر، لايل ... وغيرهم. وهكذا بفضل شامبليون المستشرق الفرنسيّ الذي كان في عداد العلماء الذين وصلوا مع نابليون في أثناء حملته العسكريّة على مصر، تمّ بجهده وبجهد مستشرقين آخرين من بريطانيا فكّ رموز كتابات بخطوط هيروغليفيّة وديموطيقيّة ويونانيّة ترقى إلى العام 196 ق.م في عهد الملك بطليموس الخامس، وكانت الكتابات هذه منقوشة على حجر من البازلت الأسود في منطقة الرّشيد في الدّلتا، وجده سنة 1799 جنديّ فرنسيّ كان يحفر هناك. وبفضل شامبليون وغيره من مستشرقين فرنسيّين وبريطانيّين جرى فكّ هذه اللّغة المصريّة سنة 1822. ومن خلال هذا الإنجاز العظيم صار بمقدور العلماء قراءة الكتابات المصريّة القديمة التي ترقى في أقدمها المكتشف حتّى الآن إلى 3300 سنة قبل الميلاد. وقد ترجمت كتابات مصريّة قديمة كثيرة إلى لغاتٍ متعدِّدة ومنها اللّغة العربيّة. وأنا بدوري استعنتُ بهذه الترجمات عن الهيروغليفيّة إلى الإنجليزيّة والعربيّة. كما استعنتُ ببحوثٍ ودراساتٍ مختلفة قام بها باحثون عرب وأجانب تخصّ الميثولوجيا المصريّة.
طروحات لورنس وادل
* من وجهة نظرك، ما هي علاقة الميثولوجيا المصرية بميثولوجيا بلاد ما بين النهرين؟
** ثمّة طرح مثير جدًّا أطلقه العالم والمستكشف الإنجليزيّ «لورنس أ. وادل» (Laurance Austine Waddell) (1854 – 1938) حول «الأصول السومريّة للحضارة المصريّة»، وقد أعلن في طرحه أنّ أصل الملوك المصريين الأوائل قبل السلالة الفرعونيّة الأولى وبعدها يرقى إلى أصل سومريّ، وأنّ هؤلاء الملوك السومريين جلبوا معهم نواميس الملك والحضارة إلى مصر، وأنّ مركز هذه الحضارة كان في بلاد سومر ومنها امتدّت إلى الهند وصولًا إلى كريت ومصر.
كما أنّ الباحث «وادل» أطلق أيضاَ طرحاً يتعلّق بالكتابة الهيروغليفيّة المصريّة التي وصلتنا أقدم مخطوطة كُتِبت بها ما بين عامَي 3300 و 3200 ق. م. فيرى «وادل» أنّ الكتابة الصُّوَريّة السومريّة، هي أصل الهيروغليفيّة المصريّة وأساسها وناموسها العام، ويقدِّم حججاً كثيرة وجداول وبراهين ومقارنات من أجل إثبات طرحه المهمّ هذا. يقول وادل:
«... وللمرّة الأولى، منذ فتح البلاد على يد فراعنة ما قبل السلالات، والذين يتوضّح الآن بأنّهم كانوا أباطرة سومريين نحو سنة 2780 ق. م. كيف دخلت الثقافة مصر وكسبت مظهراً محليّاً معهوداً يخفي مصدرها وصلاتها الغريبة؟ كيف أصبح حكّام مصر السومريّون يُدعون فراعنة ما قبل السلالات، كيف رفع «مِنِسْ»، ولي العهد السومريّ وحاكم مستعمرة وادي السند السومريّة، مصر إلى مملكة مستقلّة وحافظ على استقلالها ضمن الإمبراطوريّة السومريّة...». نعم، أنا ومن خلال دراساتي وأبحاثي المركّزة في الموضوع، أؤكد علميّاً على ما جاء به العالم الإنجليزي «لورنس وادل»... ومن شاء أن يتوسّع في هذه الأفكار الجديدة، عليه مراجعة كتاب «الأصول السومريّة للحضارة المصريّة».
لقد بيـَّن «وادل» أنّ والد «منس» الفرعون المصريّ ما قبل السلالات، كان سرجون الأكادي العظيم في بلاد ما بين النهرين: «إلّا أنّ أوّل هؤلاء الفراعنة التاريخيين من (ما قبل السلالات) وعلى رأس القائمة، المثبت بفضل مفاتيحنا السومريّة الهنديّة الجديدة، لم يكن سوى والد «منس»، سرجون نفسه! (الأصول السومريّة للحضارة المصريّة، ص 45) «. و«منس» في واحدة من نقوشه في مصر يستخدم في الواقع عين العرش السومريّة الهيروغليفيّة هذه كلقبٍ له». (المصدر نفسه، ص 31)
جذر حضاري واحد
* يقال إن المنطقة برمّتها (الجزيرة العربيّة ومصر واستطرادًا منطقة الشمال الأفريقيّ كلّه) هي ذات جذر حضاريّ تتابعيّ واحد، وإنّ الدراسات الأجنبيّة المعاصرة هي التي عبثت بتاريخ المنطقة القديم وجزّأته وفق مراميها واستهدافاتها الاستعمارية المشبوهة.. ما تعليقك؟
** إنّ ميزات الفكر الشرقيّ في مراحله القديمة الأولى قد ظهرت على شكل معتقدات متنوِّعة متشابهة، وذلك بسبب التبادل البشريّ بفعل التحرّك السكّانيّ المتنامي والمتناغم مع العوامل الطبيعيّة والسياسيّة. لقد جاءت المعتقدات الشرقيّة على شكل أساطير، وهي ترقى إلى مراحل تمتدّ بين أعوام 8000 و4000 ق.م. وقد امتدّ هذا الفكر الشرقيّ بين اليابان والصّين والهند والسند وبلاد الفرس وبلاد ما بين النهرين وسوريا ومصر وأفريقيا. وهم سبّاقون في الفلسفة حتّى أنّه يُروى أنّ أفلاطون قال: «عندما زرتُ مصر دُهشتُ، وتبيّن لي أنّنا أطفالٌ مقارنةً بالمصريّين». وقال أيضًا بأنّ المصريّين «من أكثر الأمم تديُّناً...». وهكذا يرتبط الفكر الشرقيّ بعضه ببعض في نواحٍ عديدة ذات صلة بمجال الوجود وأصل الكون والقيم والعدالة والشرائع والعقاب والثواب والأخلاق وغيرها. وكان لكلّ منطقة في هذا الشرق المترامي الأطراف أسلوب خاصّ ونظرة مميَّزة خاصّة، على الرّغم من تداخل معتقداتها، وذلك بفعل الجغرافيا واللّغة المتقاربة والمتباعدة في أنٍ معاً. إنّ الكيانات الشرقيّة تتقارب في الجوهر، ولكنّها كانت منذ أقدم الأعصر مشتّتة ولم تعرف الوحدة، وكانت دائماً مجزّأة، فلكلّ منطقة ميزات خاصّة بها ولها تاريخها الخاصّ وأسلوبها المعيَّن قبل أن يكون هناك دراسات غربيّة.
* الكتابة المسماريّة في بلاد ما بين النهرين، هل هي فعلاً أصل اللّغة الهيروغليفيّة المصرية القديمة كما أسلفت في كلامك؟
** عرفت بلاد ما بين النهرين في عهودها القديمة نوعين من الكتابة: النوع الأوّل قديم جدّاً، وهو الكتابة بالعلامات الصُّوَريّة، والنوع الثاني متطوِّر وقد صارت معه الكتابة خطّيّة وذلك من أجل أن يُصبح بالإمكان كتابتها بشكل أسرع مع استعمال المقبض المسماريّ أو الإسفينيّ الشكل للضرب على ألواح الطين الرطبة، والتي تجفَّف أو تشوى في ما بعد من أجل أن تدوم لزمن طويل جدًّا. إنّ أقدم نموذج للكتابة السومريّة القديمة كان النقش على الإناء الحجريّ التذكاريّ الذي غنمه الملك السومريّ الأوّل زاغ (Zagg) والمعروف أيضًا بـِ أُكُسي Ukusi) ( أو تور (Tur). وهذا الإناء حُفِر من عهد ملك كيش (أودو) سنة 3245 ق. م.
يقول الباحث والعالم «وادل» في كتابه الأصول السومريّة للحضارة المصريّة: «إنّ الكتابة الخطّيّة – الصُّوريّة السومريّة الأبكر... كانت من دون أدنى شكّ مصدر الكتابة الهيروغليفيّة المصريّة، الاستخدام السابق للكتابة الخطيّة الصُّوَرِيَّة السومريّة في مصر قبل ظهور الهيروغليفيّات المصريّة الاصطلاحيّة قد أقرّ بشكل تام... الكتابة التي استخدمها مِنِس (الفرعون الأوّل) وسلالته إضافةً إلى أسلافه، لمدوِّناتهم في مصر ظهر أنّها كتابة سومريّة بالأساس، لأنّها كتابة مقطعيّة وليست ألفبائيّة ولغتها هي السومريّة... بدأ الكهّان باستعمالها في الكتابات المقدَّسة والرّسميّة... ومن المحتمل أنّ الكتابة السومريّة المبكرة قد أطلق عليها مصطلح (الهيروغليفيّة) كون استخدامها استمرّ طويلًا في شكلها الخطّيّ – الصّوريّ في أختام الكهّان والملوك الكهّان وعلى التمائم والتعاويذ...». نعم، إنّ لفظة هيروغليفيّة هي إغريقيّة وتتألف من كلمتين: هيروس Hieros، وغلوفوس Glophos، وتعنيان الكتابة المقدَّسة. بينما المصريّون كانوا يُطلقون على عمليّة الكتابة هذه أو النقش المقدّس اسم ميدوا نتروا، حيث كانوا يُسمّون الإله مدو نتر (Mdw ntr).
* وماذا عن جذر الأساطير المصرية القديمة أو علاقتها بأساطير المنطقة؟
** الإنسان ميّالٌ إلى خلق الأساطير منذ فجر التّاريخ، فهو بوساطتها يُحقِّق أحلامه التائهة في عالم الوجود، كما أنّه يُرضي غرائزه المتوثِّبة أبدًا والكامنة في اللاوعي. وهو يرى منذ القِدَم بأنّ هناك حياةً أخرى يستمرّ بها، وأنّ ثمّة آلهة تشاركه هذه الحياة، فيستعين بها لكي تساعده في أزماته وتوجّهاته وفي ردِّ غضب الطبيعة عنه. والأساطير المصريّة هي تلك القصص المقدَّسة التي كان المصريّون في العهود الغابرة يؤمنون بها بالفطرة، وهي لديهم أمرٌ مسلَّم به، فلا يعمدون إلى الاستفسار وإلى التساؤل عنها وعن كنهها، كما حال المؤمن في عصرنا، فهو يؤمن وكفى، ولو حاول التساؤل لبدأ الشكّ يتسرّب إلى قلبه. والأساطير المصريّة ترتبط إلى حدٍّ بعيد بتلك التي كانت عند السّومريّين والبابليّين والكنعانيّين، كما أنّ لها ارتباطا بأساطير كانت لدى الفرس والهنود والصّينيّين، وغيرهم من شعوب الشرق الأقصى والأدنى.
الحياة بعد الموت
* يقال إن المصريين القدامى في بحثهم عن الموت وجدوا الحياة.. ما تعليقك؟ ولماذا كانت حضارة الفراعنة هي حضارة حياة وموت في آنٍ معاً؟
** الميثولوجيا المصريّة معنيّة إلى حدٍّ بعيد بالحياة بعد الموت، وبفكرة البعث، فهم بالتالي يُنكرون فكرة الموت، ويعتبرون أنّ الإنسان ينتقل من حياة إلى حياة أخرى بأسلوبٍ آخر، والجوهر هو في استمراريّة الحياة، على غرار الحياة الأبديّة في الدِّيانات السماويّة. ومن هذا المفهوم جاءت فكرة الخلود، التي هي في الأساس انعكاس لما يجري في الطبيعة من تكرارٍ لمظاهرها على الدّوام. فالإله أوزوريس ذاق الموت، ولكنّه عاد وانتصر عليه. وكان المصريّون يحتفلون بموته وقيامته في كلّ عام، على غرار ما كان يفعله الكنعانيّون في بلاد فينيقيا. ولقد ربط المصريّون القدامى خلود الفرعون بخلودهم أنفسهم في ما لو قاموا بالعمل الصالح والسلوك الحسن والاستقامة.
* يُقال إنّ هناك مشتركات، بل تماثلات بين بعض المعتقدات الدينيّة المستمرَّة إلى اليوم ومعتقدات المصريين القدامى.. كالاعتقاد في البعث والنشور والحياة الدنيا والآخرة وحساب المرء على ما فعله من خير وشر في دنياه....إلخ. ما تعليقك؟
** إنّ عمليّة التواصل بين الشعوب السّاميّة في غربيّ آسيا ومصر الحامِيّة قديمة جدّاً ولم تنقطع قطّ، وقد ترقى إلى حوالى العام 2400 ق.م. ونذكر من الوثائق الباقية لهذا الاتِّصال قصّة «سنوحي»، أحد رجال البلاط المصريّ الذي هرب إلى سوريا مع تولّي الفرعون سنوسرت الحكم في مصر. فعاش هذا الرّجل الهارب بين البدو وتزوّج ابنة مضيفه الكبرى وصارت له ممتلكات وخيرات، ولكنّه عاد في شيخوخته إلى وطنه الأمّ مصر ودوّن مذكَّراته. لقد جعل الهكسوس من إلههم بعلَ الإله المصريّ سِتْ، وكذلك فعلوا بالنسبة إلى الإلهة عنات رفيقة بعل وأخته، وأيضًا بالنِّسبة إلى عشتروت الساميّة التي جعلوها إيزيس المصريّة. يُروى أنّ مقدم يوسف بن يعقوب العبرانيّ إلى مصر كان قد تمّ في عهد الهكسوس. والتوراة تخبِّر عن قصّة النبيّ إبراهيم وزوجته سارة في مصر وماذا جرى لهما مع الفرعون الحاكم. ووصل يوسف العبرانيّ إلى مرتبة رفيعة في بلاط الفرعون، كما ذكرت كتابات مصريّة، وكما جاء في التوراة، وبواسطة يوسف انتقلت عشيرته إلى مصر ولحق بهم عددٌ كبيرٌ من الأسَر اليهوديّة وتكاثروا هناك عبر الأجيال، ويُذكر بأنّه عندما مات يعقوب العبرانيّ أمر يوسف الأطِّباءَ أن يُحنِّطوا أباه بحسب التقاليد والمعتقدات المصريّة.
أمّا موسى الذي جاء بعد يوسف بحوالى ثلاثمئة سنة، فإنّ أمره في غاية الغرابة، وقد أُثيرت حول نسبه وانتمائه آراء مختلفة. اسمه مصريّ، ويعني (ولد/ ابن) على مثال رعمسيس أي (رع مُوس) أي ابن الإله رَع، وهكذا... هذا الولد الذي تأدّب بحكمة المصريّين حوالى أربعين سنة! كيف يتحوّل إلى رجل عبرانيّ يحنّ إلى أصله؟ وماذا تبقّى لديه بعد هاتيك السنين الطويلة من تلك الأصول؟ ومنهم من يقول لعلّه كان الكاهن المقتدر ربيب الملك والأمراء، قد تأثّر بأخناتون في دعوته التوحيديّة، وهو الذي ربّما عاش في زمن هذا الفرعون الغريب، الذي ذهب ضحيّة دعوته التوحيديّة التي لم يتقبّلها الناس فقُتل، وبقي موسى بعده وحيداً منبوذاً من قِبل الذين سيطروا على الحكم، ويقول بعضهم إنّ موسى الكاهن هذا كان حاكماً لمنطقة قد تكون «جاسان» القريبة من سيناء، وهناك كان يعيش اليهود، ويُقال بأنّه من أجل استكمال دعوة أخناتون، اغتنم وضع العبرانيّين المتردّي البائس، فحاول تطبيق دعوة أخناتون على العبرانيّين المسحوقين والمحرومين آنذاك، فقادهم على هدى هذه الدعوة!!... وغيرها من التساؤلات الكثيرة حول مدى علاقة العبرانيّين، وهم أساس الديانات الساميّة التوحيديّة، بالميثولوجيا المصريّة.
عندما جاء السيِّد المسيح حاولوا إخفاءه عن عيون الرّومان، فذهبوا به إلى مصر. وجاء في إنجيل متّى: «لكي يتمّ ما قيل من الربّ بالنبيّ القائل من مصر دعوتُ ابني».
هكذا يرى الباحثون أنّ اليهودَ «كانوا كلّما اشتدّتْ عليهم الأحوال، سارعوا للاحتماء بمصر والإقامة فيها».
أمّا الخلاف الذي حدث بين اليهود والمصريّين فتقول الروايات إنّ ذلك يرقى إلى أنّ اليهودَ كانوا يذبحون الخرافَ والماعزَ ويُقدِّمونها قرابين للإله الذي يعبدونه، فأثار هذا الأمر مشاعر المصريّين، وبخاصّة كهنة معبد الإله خنوم، الذي كان يُصوَّر على هيئة كبش. ومنهم من يرى أنّ الخلاف مردّه إلى ما أظهره اليهود في مصر من مودّة وترحيب بالفرس، الذين احتلّوا مصر بقيادة قمبيز، فتقرّبوا منهم، لأنّ اليهود كانوا وما زالوا يكنّون للفرس التقدير والوفاء، بسبب ما أبداه تجاههم قورش الثاني الفارسيّ عندما أنقذهم من السبيّ في بابل وأعادهم إلى بلدهم آمنين مكرَّمين.
لقد تأثّر اليهود بالميثولوجيا المصريّة، وظهر ذلك في بعض عباداتهم، وشعائرهم وطقوسهم، بل في مبادئهم الأساسيّة.
يبقى الإنسانُ واحداً في جوهر مشاعره، وأحاسيسه، وأحلامه، وخيالاته، على الرّغم من تبدّل الأعصر، وهذا ما يدفعنا لكي نسعى في سبيل قيام جدليّة من الحوار الإيجابيّ، تضمّ الجنس البشريّ في بوتقة واحدة، تلتقي فيها الثقافات منذ أقدم الأزمنة وحتّى يومنا هذا.
الإغريق استلهموا الميثولوجيا الكنعانية
يصدر الباحث عصام الحوراني، قريباً جداً، كتاباً خاصاً بميثولوجيا بلاد ما بين النهرين. (أخبرني المؤلف أن كتابه المذكور قد أنجزت طباعته). كما يشتغل حالياً على الميثولوجيا الفينيقية (الكنعانية)، تلك التي استلهمها الإغريق على نحو عميق، فأخذوا عنها، حتى تصانيف آلهتهم وطرائق عبادتها مع تغيّر طفيف يكاد يقتصر على العناوين فقط.