الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جمهورية الصّمت

جمهورية الصّمت
21 مارس 2019 01:08

هل يعني صمتنا امتناعاً عن المُشاركة في الحياة التِّي يُدار جانبها الأغلب من جهة الكلام؟
طبعا لا.
إذن فما هو؟
هو تصحيحٌ لمعادلة اللّغة الحقيقيّة، وللأشياء المُعقدة التّي نكتسبها بالاتصالات اللاّشفهيّة المُنظّمة عشوائياً في سلوكيات مجتمع كامل.
ثمّة لغة ميكانيكيّة تولّدت عن الكلام فبعد أن صمت الإنسان قروناً حتى يتعلم الكلام وبعد أن تكلّم بطرقٍ عديدة قبل أن يكتشف الكلمة، يُمكنه بعد ذلك بلُوغ معارف عميقة لتعلّم الصّمت من جديد ألم يقل آرنست همنغواي «يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلم الكلام وخمسين ليتعلم الصمت»، الصّمت البيدائي يختلفُ عن الصّمت الإرادي وذلك عند نقطة وجيهة «حريّة الممارسة»، لهذا نجمَ عن ممارساتِه حديث آخر يُجاري الكلام، طبعاً للكلام حسنه والذّي جسّدته الميثولوجيا الإغريقية في«إيكو»، وبالتّحديد قبل أن تُنزل عليها هيرا زوجة زيوس العِقاب، وهذه الشَّخصية تمثّل على مراحل مفاهيم مُختلفة، نحتاج منها طابع الكَلام والذّي يترادف مع السّحر والغواية قبل أن يصبح مجرد صدى، وهو أيضاً امتدادُ اللّغة إلى ما بعد الكلام، طبعاً إذا ما استطعنا التّعمق في الفُروق الكبيرة بين الصّمت والسّكوت، إنّه عالم متكامل من السّلوكيات، إننا نصمت لا لنسكت، بل لنبدأ الكلام من مكانٍ آخر، كثيرون يؤكّدون أنّه حينما تكون مجموعة من الأفراد تثرثر، هنالك لغة سريّة تُدار بين شخصين أو أكثر من المجموعة ذاتها عن طريق لغة الصّمت، يستعملها أفراد ابتكروا لعُمقهم مفهوماً آخر يتحاورون به عن اللَّحظة دون أن يسمع لهم حسّ، ويتّضح هذا إن سُقنا المثال في عمل الرّائعة الإنجليزية فيرجينيا وولف في روايتها الأمواج، والحوارات التّي كان يقُيمها أبطالها فيما بينهم عن طريق الصّمت، أي الكلام من داخل الوعي والمعرفة بينما يديرون حواراً آخر علناً مشترك مع الآخرين، الطريقة ذاتها التّي نجدهَا في عملها البكِر «الخروج في رحلة بحريّة» وتلك الحوارات الصّامتة التّي أقامتها بين مدام ومسز آمبرووز بمعزل عن الناس، وبين راشيل وتيرينس وهما يجتهدان لتأسيس شفراتهما الخاصّة لحظة التعارف.

الكلام تشويش
ولماذا نصمت؟ وإنْ صمتنا هل لأننا مرغمون أو لأننا لا ثرثارين فحسب؟
ربّما لأّننا لا نتكلم حين تنقُصنا المَعرفة بل لنتّصل مباشرة بالطّريقة المُثلى التّي ستقُودنا إليها، الكلام نوع من التَّشويش الذّي يفرضه اللّسان على الفهم، وحتى لا تبدو لنا الأُمور غريبةً من منطق تفسير الفَراغ الذّي نلمسه في الصّمت، وإنّما هو انهماكنا في فهم الفراغ الصّامت ذاته، الذّي يخيفنا فيه لا لوجوديّته بل تلك الحوارات القاسية والجريئة التيّ سيُقيمها الفهم معنا، الإنسان يتحوّل إلى الكلام المبالغ فيه في حالة واحدة هي قصوره عن الإصغاء، وإنْ كان صمتُك عن التعبير هو امتناع عن المُشاركة في حوار ما فهو يمثل بالمُقابل وعلى غير دراية المُشاركة فيه من أعمق مكان «الإصغاء»، فالصمت أيضاً محاولة أخيرة لإخبارهم بكلّ شيء لم يفهموه حين كنّا نتكلم. هذا تحديداً ما ورّطنا في فهمه نجيب محفوظ، أن الأذكياء وحدهم يعلمون اليوم أن الصّمت أفضل من الكلَام (من نصائح دوستوفيسكي).
لكن هل وجب علينا أن نصمت حينما يمنعوننا عن الكلام؟ متى يمنعوننا عن الصمّت؟
بين العاشق والغاصب فروق كثيرة، كلاهما يحبك عن طريق حبهما للذات الأول يريد أن يستمع إليك والثاني لا يريد أن يسمع صوتك، القاضي يريدك أن تتحدث والجاني يريد أن يقطع لسانكَ، الأبكم يفضّل الحديث لأنّه لا يقول لا لأنّه لا يتحدث، الأصمّ لا يعرفُ هل هنالك صوت للحديث فعلاً ؟ لذلك يعتبر الصمت أحقّ من الكلام، في العالم الكثير من الجمهوريات المبنية على ثنائية «صوت صمت»، لقد أصدر كتاب «جمهوريّة الصمت» سنة 1947 بأميركا، وهو كتاب استمدّ عنوانه من عنوان مقاله به للفيلسوف جان بول سارتر تناول فيها العمل السّريّ أثناء الحرب العبثيّة التّي أفقدت العالم الكثير من البشر وكيف يدفعُ الإنسان إلى جُمهوريات كما تُدفع الكرة بين الأرجل دون أن يكون لديها سُلطة إيقاف تلك الرّكلات، كأن يفضّل السّلام إبقاء فمك مغلقاً فالكوارث دائماً ما تخرج من الأشياء المفتوحة على مصراعيها، ومن ثمّة فعدم مقدرة الإنسان على الحديث ودخُوله قفص الصّمت الإجباريّ هو دخول أيضاً إلى عالم صناعة مفردات الصّمت الاحتياطيّة، حينما يصبح الكلام عمليّة فدائيّة، في هذه الأجواء التّي تكون فيها إيماءة واحدة لها وزن وقيمة، ويظهر قرّاء جُدد للحركة والإشارة وتختفي الكلمة المنطوقة تحت ذريعة الحذر.
وإذ اعتبر سارتر الثوّرة على الاحتلال ثورة رمزيّة في مدينة رمزيّة والتعذيب وحده هو الحقيقة الواقعة، فإن الصّمت كان أحد أوجه ذلك التّعذيب حينما تحوّل من حالته الإراديّة إلى سلطة الإرغام يُمنع من خلالها حق التعّبير ويحل محلّه الخرس.. عليك أن تتلقى إهانتك العلنيّة وتشاهد أخباراً كاذبة، وبالمقابل عليك أن تصمت، لأنّ الكلمة الواحدة كانت كافية لاعتقال عشرة أو مئة شخص، وحتى حريّتك في الكلام كشجاعة فرديّة ستفقدها لا لأنّك فقدت شجاعتك بل لأنّ عقابها سيكون عقاباً جماعياً. وبين الحريّة والمسؤوليّة ستظهر حريّة أخرى في إطار الوحدة الكاملة، وهكذا كما يعبّر سارتر بالدم والدموع تتشكل جمهورية هي الأقوى بين سائر الجمهوريات فيما عرف كلّ مواطن أنّه يعتمدُ على فرد آخر مثلما يعتمدُ على نفسه بحريّة، وحين اختار نفسه باختيار حريّته فقد اختار الحقيقة كلّ الحقيقة.

خلاص على طريقة سيوران
«لا خلاص إلاَّ في محاكاة الصمت»، يفتح لنا سيوران الباب من خلفيّة الثرثرة لنهرب من السَّطحيات إلى المَعرفة، بالنسبة لي الكلام الكثير هو تعدّي صارخ على المَعرفة، لا في تكوين العلاقات بين البشر بل في تلك التيمة التّي يخلقوُنها وهم يفشلُون في بناء فهم جاد للشّأن الذّي يوثّقونه الآن للنّسيان ربّما لهذا أنّبَ سيوران ثانية نفسه قائلاً «بعد كلام كثير لمدّة ساعات ها أنا ذا يغزُوني الفَراغ، الفراغ والخزي، أليس من البذاءة أن يكشفَ المرء أسراره ويُعرّي كيانه، أن يحكي ويستمِع إلى من يحكي، في حين أنّ أكثر لحظات حياته امتلاءً قد عرفها خلال الصّمت، خلال الإدراك الحسيّ للصّمت؟ وعلينا أن نتساءل عن الكُّتاب الثرثارين هل يحقّقون تلكَ اللّحظة السابرة التّي يترادف فيها الكاتب مع قراءة المجهول والمخبوء إذا كان لا يتركُ فرصةً وجيهة لفتح حواراته الصاّمتة مع الآخرين أو بمنظور آخر منح ما حوله دوراً للكلام بدل الإصغاء إليه، لأنه إن لم يفعل فسيتحوّل كلّ ما حوله أعمق منه وهو إلى الفكرة الوحيدة السّطحية داخل حوارات وجوديّة.
في أحد الحوارات الفنتازيّة التّي أجريت بين قرّاء معاصرين وجّهوا أسئلتهم إلى فرجينيا وولف الكاتبة البريطانية العبقريّة بعد موتها بعقُود والتّي أُسندت الإجابة عليها إلى خُبراء تعمقوا في دراسة أدبها ونفسيتها سويّة، كان من ضمن الأسئلة: «ما هي الدّلالة وراء اللّغة السّرية التّي تشاركت فيها مع ليوناردو؟ فتجيب: أظنّ أن كلّ الزّوجات والأزواج لديهم لغةٌ سريّة خاصّة بهم، حتى وإنْ لم يدركوا دائماً أنّهم يتكلمون بها، ثمّ تضيف: «تتزايد الشّفرات والرّموز بين الناس، وهم يطوّرون طرائقهم الفطريّة في التّواصل فيما بينهم»، وإن كان هذا الفعل العريق في حوارات الذّات للذّات الأخرى تطوراً فانّه أشرك مجتمعات بأسرها في فهم أساسيّات هذه اللّغة التّي تحدث معنى يومياً وتكون أكثر دلالة من الكلام، كأن يتّصل بك أحدهم في وقت متأخّر، فتتأكد فوراً أنّه ثمّة خبر شائن قبل أن ترفع السّماعة. وفي عمل رائع للكاتب إدوار تي. هول عن اللّغة الصّامتة يروي لنا حدثاً سلوكياً يوازي الكلمة وربّما يتفوق عليها، فقد حكا عن بعثة معُونة أميركية لم تتوصّل إلى أيّ اتّفاق، وعند تحليل الأمر وجد أن السّبب هو سلوك الثقافات المُختلفة الذّي أوجده في الأصل الصّمت، فبينما كان الأميركان يتباهُون بصراحتهم وجرأتِهم كان هذا السّلوك يُعتبر لدى اليونانييّن نقص في اللبّاقة. أمّا الأمر الثاني فيتعلّق بالقاعدة المُسلم بها في الاجتماعات، ففي أمريكا يحدد طول الاجتماع وفقاً لجدول توصّل فيه الطرفان إلى اعتماد مبادئ عامّة، ثم يوكل كتابة التفّاصيل إلى المرؤوسين، لكنّ اليونانيون رأوا أنّ هؤلاء الأشخاص لا يتصرّفون كقرويين يفتقرون للَبراعة فقط.. بل إنّهم يحاولون خداعنا بحيلٍ، وبجدول أعمال مراوغ، لأن العُرف عندهم هو وضع التّفاصيل أمام كلّ المعنيين بالأمر، ما يستلزم اجتماعات مستمرة بالقدر الذّي يحتاجه الأمر ومن دون تقيد بجدول.
لهذا يمكنُنا دائماً إجراء حديث أو نقله للآخر عبر السُّلوك، كأن تستيقظ صباحاً فتجد وردة تفتّحت بتلك الجماليّة على نافذتك أو النّافذة المقابلة لكَ، ثمّ إنه ينشأ في تلك اللّحظة بالذات تبادلات جميلة لا شفهيّة ولا تفهمها آتية من أعماقك، يمكننا دائماً الشعُّور بها، ولم تكن لتعيش تلك المُتعة لولا أنّ أحدهم أقامه قبلكَ معها ونقله لك دون أن يقول شيئاً، فالكثير من حواراتنا لا تحتاج إلى الكلام، خاصّة تلك التّي نقيمها مع الطبيعة على وجه الخصوص وأحياناً مع البشر. ثمّة العديد مما نتبادله ولا يحتاج مطلقاً إلى الكلام بل إلى ما نطلقه على الكثير من حواراتنا في جملة وحيدة عن لاوعي وهي الوعي ذاته «عجزت عن الكلام أو عجزت كلماتي عن». إن فهم الإنسان للديالوج الذّي يمشي بالتوازي مع الكلمة يعد فهماً أصيلاً للوجود الذّي هو قائم على الصّمت والذّي أوجد سلوكيات ثقافيّة تخص كلّ مجتمع يقول بها ما أراد دون أن يتكّلم.
فإن كانت الكتابة نوعاً من الثرثرة الصامتة، فما هي السلوكيات التّي أكسبتها لمجتمع الكتّاب؟

حرية الصمت
ثمّة لغة ميكانيكيّة تولّدت عن الكلام فبعد أن صمت الإنسان قروناً حتى يتعلم الكلام وبعد أن تكلّم بطرقٍ عديدة قبل أن يكتشف الكلمة، يُمكنه بعد ذلك بلُوغ معارف عميقة لتعلّم الصّمت من جديد، ألم يقل آرنست همنغواي: «يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلم الكلام وخمسين ليتعلم الصمت»؟، الصّمت البيدائي يختلفُ عن الصّمت الإرادي وذلك عند نقطة وجيهة «حريّة الممارسة»، لهذا نجمَ عن ممارساتِه حديث آخر يُجاري الكلام.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©