إن تاريخ المرأة في الثقافة العربية شهد تجاهلاً وإغفالاً تؤكده متون الأدب العربي القديم، وإن مثل هذا التجاهل قد شهدته أيضاً الثقافات الغربية القديمة والحديثة، وهذا ما يثبته تاريخ الحركات النسوية ونضالها الطويل ضد مظاهر القمع الموجه ضد النساء، بل إن المفكرات الليبراليات أوضحن أن مرجع مظاهر التمييز والقمع قائم على أساس عادات وتقاليد راسخة في الثقافة الغربية الذكورية ويستحيل على النساء تجاوزها. واليوم تعيش معظم المجتمعات النسائية مرحلة ما بعد الحداثة، وهي المرحلة التي سقطت فيها الأنساق الفكرية والأيديولوجية، أو ما يطلق عليها السرديات الكبرى، والتي اختفت فيها الثنائيات الافتراضية الأساسية التي بشرت بها الحداثة، (الذات والموضوع)، و(الأنا والعالم)، (الذكر والأنثى)، ومفهوم النسوية شاع ليركز على وضع المرأة، وهي رؤية اقتصادية وثقافية وفلسفية.
حديث مجازي
الحديث عن نقد نسائي أو نسوي أو أنثوي هو من باب المجاز أو اللاواقع، لأن النقد العربي الحديث قد أسهم في تكريس أبوته النقدية على الخطاب النقدي النسائي، ولكن لو نظرنا إلى أقدم نظرية أنثوية في الأدب النسائي، فإننا سنجدها تعود إلى ملحمة جلجامش العراقية التي ولدت فكرة دور المرأة في الحياة من خلال أسطورة إخراج أنكيدو من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان، ولم تبدأ الحركة النسوية من أوروبا وإنما من الأساطير اليونانية التي تناقلها المؤرخون.
فبرز المصطلح المعني بالمرأة نتيجة تحركات نسائية نضالية، سياسية وثقافية واجتماعية، ضد سلطة الرجل المغلفة بثوابت مجتمعية، ومن هنا أصبح التداول وكأنه حلقة من حلقات الفكر الإنساني عامة، والنسوي على وجه الخصوص، حتى تشعبت دلالة المصطلح وتعددت في المعالم، بحسب التوجه الثقافي أو الأيدولوجي أو العرقي.
النسويّة في الإمارات
مع اكتشاف البترول وولادة الدولة الحديثة شهد المجتمع الإماراتي تحولاً كبيراً في الحياة الاقتصادية والثقافية على السواء، وانعكس هذا التحول على الأدب والأدباء، فكان قصب السبق في الإنتاج الروائي لراشد عبدالله النعيمي وروايته «شاهندة». وإن مسيرة المرأة في الإمارات حققت تقدماً كبيراً منذ قيام دولة الإمارات، حيث اهتمت هذه الدولة الوليدة بقضايا المرأة المختلفة، وسعت للنهوض بها من خلال تعليمها وإشراكها في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والأدب النسائي الإماراتي تمكن عبر سنوات قليلة أن يشهد ازدهاراً حقيقياً، بفضل الرغبة الحقيقية بأن يكون لها وجود في الساحة الثقافية إلى جانب رعاية الهيئات الثقافية، ففي مطلع السبعينيات كان التحول النوعي وهو المفارقة للثقافة الشفهية التي كانت تخضع لسلطة الحكاية الخرافية والشعر الشعبي بإمكاناته المحدودة، كنسقين جماليَّيْن يعبران عن نمط من التفكير، مما جعل القصة القصيرة في الإمارات تعبر عن هذا الجانب، ثم ما لبثت الرواية أن راحت بدورها تستكمل هذه اللحظة التاريخية في التعبير عن تطلعات المجتمع الإماراتي، بل إلى التطلعات الإنسانية.
فجاءت موضوعات الرواية الإماراتية، كالموضوع الحضاري وإشكالية الذات في علاقتها بالآخر وصورة الأب، الزوج، الرجل الآخر، الأم، صورة الزوجة والمرأة والوعي السياسي والحقوقي والموضوع الاجتماعي: كالبحث عن الذات والمعاناة والحنين، وظهر الموضوع التاريخي والموضوع العائلي وكذلك قضايا المرأة الخليجية كالحجاب والتمرد الاجتماعي، الختان وبعض المعتقدات الاجتماعية، الزواج والطلاق. وظهرت مساهمات الكاتبة الإماراتية في إغناء فن القصة القصيرة، حيث برزت أسماء كثيرة إلى جانب القصاصين الذكور، ونذكر منها: شيخة الناخي، أمينة بوشهاب، مريم جمعة فرج، سلمى مطر، سارة النواف، سعاد العريمي، صالحة غابش، ظبية خميس، ليلى أحمد، سارة الجروان، باسمة يونس، فاطمه محمد، وغيرهن..
وهو الجيل الرائد والمؤسس لأدب القصة النسائية في الإمارات، ثم كاتبات الجيل الجديد: فاطمة المزروعي، عائشة عبدالله، فاطمة محمد الكعبي، منى سالم السويدي، نجيبة الرفاعي، هدى سرور وغيرهن. ومن الأعمال التي تحمل قضايا المرأة بصورة جلية «زينة الملكة» لعلي أبو الريش، و«طوي بخيتة» لمريم الغفلي، «رائحة الزنجبيل» لصالحة غابش، «طروس إلى مولاي السلطان» لسارة الجروان.
وقد تميز المجتمع الإماراتي بميزات أهلته لاحتضان وتقبل، بل وتشجيع كل ما يخص المرأة وليس الفكر والأدب فحسب، فالفن والتعليم وحياة الماضي كانت ولم تزل كلها مصادر وحوافز لإبداعات جديدة. إلا أننا لسنا بمعزل عن الإنسان الذي يتألم من الحاضر الذي تعيشه إنسانية منحطة في جميع المجالات المتصلة بالفكر والممارسة، بالمعنى والقيمة، إنه يتألم بفعل تراجع قيم الفعل والإثبات، وقد يكون هذا الحكم النقدي شديداً وقوياً، ولا ننكر اتصاله بالفلسفة التي نعتقد أنها ليست أقوالاً، وإنما وسيلة من الوسائل التي يستطيع الإنسان بها أن يستخدم عقله على النحو الصحيح، ومنها وجدت وترعرعت الحركات الإصلاحية، ومنها التي سُميت بالنسوية.
قبول ورفض
الأدب النسوي أو الكتابة النسوية، اصطلاحاً، تعني ما تحمله هذه المدونة المكتوبة من عطاء إبداعي تجاه المرأة ودورها من القضايا التي تطرحها، وانفتاح اللغة الأدبية التي توظفها المرأة المبدعة على خاصية التجربة النسوية. فكانت ستينيات القرن العشرين مرحلة رئيسة في استقبال النقد النسوي، وأسهمت مدونات كل من الرجل والمرأة في خلق تباين الرؤى حول الكتابة لكليهما، ما أسفر عن بروز المصطلح أو المفهوم تجاه ما تنجزه المرأة من كتابة أو إبداع، حتى وصل التداخل في المفهوم بين الأدب النسوي، والأدب النسائي، وأدب المرأة. وهو أدب لا يعترف بالتمييز الجنسي، فالأدباء والأديبات يدركون أن لا قيمة لهذا المصطلح في تقويم النتاج الأدبي، لأن النص الأدبي بناء فني ينهض استناداً إلى الموهبة والخبرة والمعرفة والقدرة اللغوية، وليس لجنس الكاتب أو كاتبته. واستشهد أنصار هذا الرأي بما قاله النابغة الذبياني للخنساء:
لولا أن أبا بصير، ويقصد (الأعشى) أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الجن والإنس..
فالنابغة لم ينظر للخنساء الأنثى، بل إلى الشعر الذي أنتجته وارتقت بواسطته إلى ذروة الشعراء المجيدين.
ومن رفض مصطلح الأدب النسوي ذهب إلى أنه لا خصوصية جنسية للأدب، لأن الأدب نفسه لا يقبل هذه الخصوصية، مصطلح الأدب النسائي والأدب النسوي وأدب المرأة والأدب الأنثوي... كلها جاءت لتنصف المرأة، ولكنه أوقعها في فخ في الوقت ذاته، فرفض المصطلح هو رفض التمييز. ذلك أن الخلفية الفلسفية للمفهوم (الأدب النسوي) تنطلق من مشكلة المرأة العربية في أنها مشكلة حرية الإنسان العربي ذكراً وأنثى، أي أن المرأة أدرى بتجاربها الخاصة وتجارب بني جنسها، فضلاً عن درايتها بآمال المرأة الخليجية أو العربية. ولذا جاءت المعارضة النسوية للمصطلح نفسه من الاعتقاد بأن الإيمان به يعني انتقاص نتاج المرأة. وفي الوقت ذاته بين بعض النقاد أن الكتابة الأنثوية مرت بمراحل ثلاث وهي: مرحلة المحاكاة للأشكال الأدبية، والتي أطلق عليها اسم (المؤنثة) ومرحلة الاعتراض على المعايير والقيم، وأطلقت عليها (النسوية) ومرحلة اكتشاف الذات وهي مرحلة (الأنثوية).
فكم من امرأة عززت الخطاب الذكوري إما بأشعارها أو كتاباتها، كما أن للرجال دوراً أو أدواراً في تأنيث الخطاب اللغوي الإبداعي، ويمكننا أن نرسم أربع حالات من حالات الخطاب الإبداعي:
- إبداع ذكوري يكتبه الرجال.
- إبداع ذكوري تنتجه نساء.
- إبداع أنثوي تكتبه نساء.
- إبداع أنثوي ينتجه رجال.
ولكن كيف يمكن أن نقيم صلحاً بين العدالة والحرية؟ وسنهنئ أنفسنا على كل الإجراءات التي تفضل الأعمال وتنحاز إليها، فالفكر النسوي كغيره من الحركات، يعد حقلاً من حقول فلسفة الأخلاق، ما يعني أنها تتجاوز النفعية في موقفها من الاستجابة لقيم مختلفة. ونضال النسوية هو ليس فقط نضالاً من أجل المرأة وقضاياها، بل هو نضال للمساواة البشرية.
النقد النسوي
والخطاب النقدي النسوي يتضمن كماً إبداعياً كبيراً نسبياً ومتميزاً يعكس ملامح المرأة الكاتبة وهمومها وطموحاتها، وبشكل يسهم في أن يكون للخطاب النقدي وجود رصين، لا سيما أننا في قرن تتجلى فيه أعمال إبداعية أنثوية عالية المستوى، من شأنها أن تنفذ إلى دقائق حياة المرأة باقتدار. كما أن النقد النسائي لا يتخصص بالأدب النسوي وحده، بل بالكتابات الأدبية عموماً.
وإذا سلمنا بأن الأنوثة قيمة مغيبة، تم تغييبها عبر عصور خلت، فإن الخطاب الشعري كان الأكثر تأكيداً لتلك الهيمنة، وتكمن المسؤولية الإنسانية والذاتية والحضارية على عاتقنا جميعاً بعدم الاكتفاء بإعدادات الحضارة، بل ينبغي للذات أن تكون صانعة لفرادة ذاتيتها، وهذا يتحقق سلوكياً وعينياً من خلال آداب العيش التي تضمن حيوية الكينونة، بأن يصنع المرء آدابه الخاصة، ويحتضن ذاته في سبيل النضال من أجل الحق في الاختلاف والحفاظ على حرية التغاير في نمط العيش والفكر، وإقرار مبدأ تغير الحيثيات، وأن تكون الذات على علاقة وثقى بجمالية الحياة، حيث التخلص الفعلي من قيود المنفعة العابرة.
أخيراً؛ شيوع الاضطراب في المصطلحات النقدية وعدم تحديد المفاهيم، هو السبب وراء الإحساس بأزمة النقد، ولعل طبيعة النتاجات وتنوعها هي التي ولدت هذا الاصطراع المفاهيمي. وفي الوقت ذاته لا يمكننا أن نستمر رهائن لمصطلحات نقدية كانت تحكر الأعمال الإبداعية ضمن مفهوم مختص بفئة أو جنس أو عمر أو جنسية، فالأدب أوسع والإبداع أشمل، لذا من الضروري تجاوز بعض المصطلحات، فمجرد التسليم بها هو إذعان بأن للأدب جنساً محدداً يمتهنه.