الجمعة 20 ديسمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

لاوتسو.. فيلسوف اللغة السرّية!

لاوتسو.. فيلسوف اللغة السرّية!
19 مارس 2020 00:00

صدر مجلّد كبير بعنوان «فلاسفة الطاوية» (عن دار البلياد، باريس)، ومنهم لاوتسو، تشوانغ – متسو، ولاي – تسو، شارك في إعداد مقدّمته وترجمة نصوصه العديد من الكتّاب الفرنسيين. لن نتوقّف، في هذه المقاربة، والترجمة، لكل هؤلاء، لكن سنستوقف طويلاً عند أكبر فيلسوف طاوي هو لاوتسو.
لقد اقتبس عن كثيرين ومنهم تلامذته عمق أفكاره ودلالاته الدينية، حول الطاوية (إحدى ثلاثة أديان عرفتها الصين: البوذية، والكونفوشيوسية). فقد شُوّهت أعماله من قبَل بعض تلامذته. إذ فهموه فهماً سطحيًّا وجزئيًّا، كما سفّهت «فلسفته» الطاوية بعضُ الإرساليات الكاثوليكية، والتي زارت الصين في القرن الثامن عشر، وروّجت أنه «يستحضر» الأرواح، ويمارس الشعوذة.

وفي كلِّ هذا لم يكن لاوتسو مذنباً، وهذا ما يتعرّض له كلّ فيلسوف، فهو لم يكن يعرف سوى «العدم» و«اللامبالاة الرخوة»، ويحتقر السعادة والثراء على طريقة الأبيقوريين. لكن آخرين دحضوا أشكال التطير عنده، ورأوا فيه من فضائل عديدة، فهو «الكاتب الأقوى والأفضل والفيلسوف الأكبر».. والمعروف أن أوّل ترجمة فرنسية للاوتسو تمّت عام 1814. وقد قدّموا خيرة فلسفته عن الطاو نفسه:
أنت تنظر إليه (الطاو) ولا تراه (أي بلا لون)، تصغي إليه ولا تسمعه (أي بلا صوت)، تريد لمسه ولا تصل إليه (أي بلا جسم).
وهذه الميزات الثلاث لا يمكن صوغها بواسطة الكلمة، ولهذا تُختزل بواحدة... مدركين أن المطلق الطاوي لا يمكن ترجمته إلاّ بكلمات سليبة.
هذه النعوت الثلاثة، موضع التساؤل، يسجّلها ستانسلاس جوليان «إي، وبي».
ف«إي» البلا لون، وبي اللاجسدية، لا يمكن أن تُفسّر باللغة أو تُنقل بالكتابة.
لكن دراسة للصيني تشنغ ون – تانغ نيكر كان فيها حاسماً أن الطاو لا يمكن أن يُفسّر «كفكرة دينية».
يرى الشاعر الفرنسي الكبير هنري ميستو «لا يقول لاوتسو شيئاً لا يكون واضحاً وأكيداً. لكن اتّهم بعضهم لاوتسو بالغموض مثل المترجمَين هوانغ تشيك، والشاعر الفرنسي بيار ليريس متّفقان على غموض لاوتسو: لكن حتى المتمرّسون في الفلسفة الصينية لا يتّفقون حول المعاني الفلسفية والسياسية عنده.
لكن أروع ما عند هذا الفيلسوف الصيني كتابته، فهو اختار، سواء عن قصد أو غير قصد، اللغة الشعرية، الغامضة، السرّية، المتعدّدة الدلالات، المفتوحة، المختزلة، المكثّفة، التي أثّرت على شعراء كثيرين معاصرين.
قراءته، متعة. كأنّها أسئلة ومن باب الأجوبة وأجوبة متعلّقة بالأسئلة.
نختار هنا مجموعة وافرة من نصوص«أكبر فيلسوف – طاوي»عرفته الصين.

لاو تسو

I
الطاو الذي نعرف التعبير عنه
ليس الطاو الدائم
الاسم الذي نعرف تسميته
ليس الاسم الدائم

البلا اسم: أصل السماء والأرض
ما المسمى: أهو أمّ كل الكائنات.
لكنه العدم الديمومي
الذي نريد تأمّل سرّه،
فبالكائن الديمومي
نريد تأمل وصوله.

هذان المخرجان للعمق ذاته
لا يختلفان إلاّ بالاسم.
هذا العمق ذاته يدعى العتمة
تعتيم تلك العتمة،
ها هو باب كل اللطائف.


2
كل العالم يعرف أن الجمال جميل،
وهذا ما يصنع بشاعته
كل العالم يعرف أن الخير هو خير
وهذا ما يصنع نقصانه.

الكائن والعدم يضم الواحد الآخر.
السهل والصعب يتكاملان
الطويل والقصير يتلامسان
الصوت والنغم ينسجمان
القَبْل والبَعْد يتتابعان.

لهذا فالمقدّس يتبنّى
تكتيك اللا- فعل
ويمارس التعليم بلا كلام
كل كائنات العالم تظهر
من دون أن يكون هو الفاعل.

ينتج من أخذتهم نهمة
يعمل من دون انتظار شيء.
عمله وقد تمّ، لا يلمسه
ربّما أنه لا يلمس
فعمله لن يمر.


3
عبقرية الوادي لا تموت
هنا تكمن الأنثى الظلامية
في الأنثى الظلامية
يكمن جذر السماء والأرض.

دقيق وغير منقطع، يبدو أنه يدوم.
عمله لا يستنفذ أبداً.
4
السماء تتمدّد والأرض تدوم
فإذا كانت السماء تستطيع أن تتمدّد
والأرض أن تدوم
فلأنهما لا تعيشان سوى لذاتهما.
ولهذا يمكنهما تمديد وجودهما

وهكذا يقف القدّيس في الخلف
يعني أنه وُضع في الأمام
يُهمل أَناه
وأَناه تحفظ نفسها

أَوَليس لأنّ الأنانية غائبة؟
يستطيع إذن إدامة مصالحه الخاصة


5
الطِيبة السامية كالسماء
قادرة على إدراك كل الكائنات
ولا تنافس أحداً.

ومن احتلالها الوضع المزدري
لكل إنسان،
فهي إذن قريبة من الطاو.

تحتل مساحة مناسبة جدًّا
قلبها كامل كهاوية،
تعطي بإحسان كامل
تتكلم بصدق كامل
تحكم بنظام كمل،
تؤدي مهمّتها بطاقة كاملة.
تعمل في اللحظات المناسبة.

ومن خلال عدم منافستها أحداً
فهي لا تقرب.

 

6
من يحمل كوباً مليئاً بالماء
لا يساوي الذي يزهد به.
السيف الذي يُطرق ويشحذ
لا يستطيع الحفاظ على حدّه القاطع طويلاً.
قاعة مليئة باليتم
لا يمكن أن يحرسها أي شخص.
مَنْ ينتفخ بثرائه وأمجاده
يستجر الكارثة.

فالعمل ما إن يكتمل، انسحب منه:
هذا هو قانون السماء.


7
إذا كان لك أن تعمل على
نفسك الفكرية ونفسك الجسدية لتعانق
وحدتهما.
هل يمكنك أبداً عدم ترك وحدتك؟
وتتركّز طاقتك وإدراكك المرونة
هل يمكنك أن تصبح مولوداً جديدا؟
وبتطهير رؤياك تطهّراً ابتدائيًّا
هل يمكن أن تصبح بلا بقع؟
ويحبّك الشعب وحكمك الدولة؟

هل يمكنك ألاّ تعمل؟
وبفتْحِك أبواب السماء وإغلاقها
هل يمكنك لعب دور أنثوي؟
بفهمك كل ما يدور
في جهات العالم الأربع،
هل يمكنك الاستغناء عن كل معرفة؟

إنتاج واتصال:
إنتاج من دون أن يتم
العمل من دون الوصول إلى شيء،
الإرشاد بدون إكراه،
ها هي الفضيلة الأساسية


8
الألوان الخمسة تعمي
بصَرَ الإنسان،
الأنغام الخمسة تصمّ
سمع الإنسان
المذاقات الخمسة تفسد ذوق الإنسان
السباقات والصيد تضيّع
قلب الإنسان
البحث عن الكنوز يحرّض
الإنسان على ارتكاب الشر.

لهذا يهتم القدّيس بالبطن
وليس بالعين
لهذا يرمي هذا
ويختار ذاك.

9
بالنظر إليه لا نراه
نسمّيه اللامرئي
بالإصغاء إليه، لا نسمعه
نسمّيه اللامسموع
بلمسة لا نُحسّه
نسمّيه اللامحسوس.
هذه الحالات الثلاث ذات
العمل غير المفسّر
تختلط في النهاية في حالة واحدة.

وجهه العلوي ليس مضيئاً
وجهه السفلي ليس مظلماً،
وباعتباره دائماً، لا يمكن تسميته،
وهكذا فهو ينتسب إلى مملكة
اللا – أشياء،
هو شكل اللاشكل
وصورة اللاصورة
مُفلت لا يُمسَك
وباستقباله لا نرى رأسه،
وبتتبّعه لا نرى ظهره.

مَنْ يُفلت طاو الأمس
يسيطر على أحداث أيامنا
القدرة على معرفة ما كان في الأصل
ها هي عقدة الطاو.



10
أي واحد يزهد بالدرس
يغيب عنه الهم،
ما هو الفارق بين
ال«نعم»و«لا»؟
ما هو الفارق بين الجمال والبشاعة؟
لا يمكننا
ما يشكك فيه يخافه الآخرون
لأن كل درس هو واسع
وبلا نهاية.

كل العالم يتحمّس كأنه يحتفل
في شعائر ذبيحة
أو كأنما يصعد على شرفات الربيع
أنا وحدي أبقى بهدوء
من دون القيام بأي إشارة

كوليد
لا يعرف بعد كيف يضحك.
شبيه بشيء متعلّق في الهواء
أنا كشخص ليس له
مكان ليثبت فيه.

لكل العالم غير ضروري
أنا وحده مجرّد
فكري كفكر جاهل
لأنه بطيء جدًّا.
كل العالم متنوّر
أنا وحدي في العتمة.
لكل لعالم فكر واضح
وأنا وحدي ذو فكر ملتبس،
هُبَّ دائماً كالريح
يعُمْ كالبحر
يهبّ بلا انقطاع الريح
لكل العالم هدفه المحدّد
أنا وحدي ذو فكر بليد
كقروي.

أنا وحدي أختلف عن الآخرين
لأنني أتمسّك كشيء تمنى
ارتفاع أمي.

 

11
مزايا فضيلة كبرى
تكمن في التحامها الكلّي بالطاو.
فالطاو هو شيء مُفلت لا يُمسك
فعلياً وغير مُمسك يمثّل، رغم ذلك
شيئاً ما.
مفلتاً وغير مُمسك، فهو
شيء ما،
عميق وغامض، يحوي نوعاً من
الجوهر.
فهذا الجوهر هو جدّ حقيقي
ويتضمن الفاعلية الكفوءة

من العصور القديمة حتى اليوم
اسمه باقٍ،
لهذا، فلنستعرض كل الكائنات
في بداياتها.
كيف أعرف أن بداية كل كائن في العالم
هو كذلك؟
بكل ما قلته من توّي.


12
نادراً التكلم مطابق للطبيعة.

الإعصار لا يدوم كل الصباح.
الطوفان لا يدوم كل اليوم.
مَنْ يطلقها، السماء والأرض.
إذا كانت ظواهر الأرض والسماء
ليست دائمة
فكيف لا تكون مثلها الأفعال الإنسانية؟
مَن يتوجّه نحو الطاو، فالطاو يستقبله.
من يتوجّه نحو الفضيلة تستقبله.
مَن يتوجّه نحو الخسارة، تستقبله الخسارة.


13
مَنْ يسعى إلى تشكيل العالم
أرى أنه لن ينجح في مسعاه.
العالم، إناء مقدّس،
لا يمكن أن يشكَّل.
مَنْ يشكّله يدمّره
من يمسكه يفْقده

تارةً تذهب الكائنات إلى الأمام
وطوراً تتبع
تارةً تهبّ بخفّة
وطوراً بقوّة
تارةً هي متماسكة
وطوراً رعناء
تارةً تتركّز
وطوراً تسقط

لهذا يتجنّب القدّيس كل تطرّف
وكل ترف وكل فجور

 

14
مَنْ يمسك بالصورة الكبرى
يمكن أن يعبُر العالم،
يعبره بلا خطر،
يجد السلام في كل مكان والتوازن والهدوء.

الموسيقى والعزيزة الطيبة
تجذب المارّة
لكن التأكيدات التي تصدر عن الطاو
رتيبة وبلا طعم.

لا يكفي أن تنظر إلى الطاو
لكي تراه
وأن تصغي إليه
لكي تسمعه
يجعل من ذلك طريقة
وهذا لا يمكن أن يستنفدّه.


15
الفضيلة العليا بلا فضيلة
ولهذا فهي فضيلة.
الفضيلة السفلى لا تنفصل عن الفضائل
ولهذا فهي ليست فضيلة.
الفضيلة العليا لا تتحرك ولهذا فهي بلا هدف
الفضيلة السفلى تتحرّك ولها هدف.
الإنسانية العليا تتحرّك لكن من دون هدف
العدالة العليا تتحرك ولها هدف.
التهذيب العالي يتحرك ويتطلب
الاستجابة إليه،
وإلا فهو يشمّر عن ذراعيه ويُلحّ.

وهكذا، بعد فقدان الطاو تأتي/‏ الفضيلة
وبعد فقدان الفضيلة تأتي البشرية:
بعد فقدان البشرية تأتي العدالة،
بعد فقدان العدالة يأتي التهذيب.
التهذيب هو ملجأ الإخلاص وأكثفه
لكن أيضاً مصدر الفوضى.
التكهّن هو زهرة الطاو
لكن أيضاً بداية التفاهة
وكذلك فالإنسان الكبير يبقى في العمق وليس
على السطح.
يبقى في النواة وليس في الزهرة
يرمي هذه ويقبّل تلك.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©