إبراهيم الملا (الشارقة)
في محادثة لغوية وتخيلية مع القصيدة الأشهر للشاعر الفرنسي شارل بودلير يقدم الفنان التشكيلي الأفغاني «خادم علي» في مجموعة أعماله المعنونة بـ «أزهار الشر» – والمقصود بها هنا أزهار القنب أو الخشخاش _ ما يشبه منمنمات الحب والحرب، وسط تراجيديا بصرية دامية وشيطانية عصفت ببلاده أفغانستان بعد الغزو الأميركي لها مطلع الألفية الجديدة، ما جعل الفنان المقيم بين كابول وسيدني منشغلاً بموطنه وذكرياته وطفولته وسط حالة تجمع بين الحنين التاريخي والأسى الشخصي، معتمداً في ذلك على مواد وخامات فنية تجمع بين التراثي والمعاصر، وبين الاستعادي والمبتكر.
تحتل أعمال الفنان «خادم علي» مكانة بارزة في متحف الشارقة للفنون ضمن الأعمال الخاصة بالدورة الرابعة عشرة من بينالي الشارقة التي تقام هذا العام تحت شعار «خارج السياق» لتوفير فرص معاينة دقيقة عن كيفية سرد القصص بصرياً، وعبر وجهات نظر يتم إيصالها وتأريخها في المنصات المتميزة والمتشابكة، من خلال الإنتاج الفني والثقافي المتواصل الذي يتجاوز النماذج السائدة للفكر والعلاقات.
تحولات المكان والإنسان
تتعاضد المقترحات الفنية للفنان مع رحلات ذهنية تتخطى المسار الاعتيادي، لأنها تسافر عبر الزمن وتحاول القبض على الإرث الغني لشعب الهزارة المضطهد في أفغانستان، وهو الشعب الذي اشتهر بامتلاكه لألف نهر وألف جبل، وكأنه الساكن في الأسطورة، والمقيم في الخيال الشعري والطقس السحري.
وكما تشير مدونة القسم الخاص بأعمال الفنانين المشاركين في قسم «رحلة تتخطى المسار» ضمن بينالي الشارقة؛ فإن نتاجات خادم علي تعكس التأثير العميق للفوارق بين الأجيال، والتي أحدثتها عناصر دخيلة مثل الاستعمار والاستغلال الاقتصادي والإيديولوجي، وهو ما يتطلب استجابات ورؤى متباينة لتصويرها وتثبيت بشاعتها.
وبالتالي فإن ما يستعرضه الفنان هنا يكشف حركة التغيرات القسرية في البيئة والمكان، والتحولات التي طرأت على الطقوس الروحية والعادات الثقافية، وهي حركة تتطور باستمرار سلباً وإيجاباً، في أنماط طوعية وغير طوعية من الاكتشاف والغزو والشهادة والنفي عبر البر والبحر.
ويكشف معرض الفنان خادم علي عن التأثير المتبادل بين الأجيال لمجموعة الأدوات الجسدية والنفسية، وكيفية تحوّل تمثيلات ومعاني هذه الأدوات كنتيجة للاستغلال الاستعماري، أو الصراع الديني والاجتماعي وصولاً إلى التطرف الفكري، ونهب المقدرات الطبيعية للشعوب، تحت ذرائع ومسميات خادعة، فهي تلتمع بالشعارات الكبرى في الظاهر، ولكنها في العمق تسعى لامتصاص الموارد وخلق الفوضى وتمكين الشركات العابرة للقارات لفرض هيمنتها على هذه البلدان الضعيفة والمستلبة. يبدو تأثير الفنون المغولية والفارسية القديمة واضحاً في لوحات الفنان المصممة بالحبر والغواش، خصوصاً اللوحة المنفذة على القماش والجامعة بين الجنود الأميركان ومقاتلي طالبان الذين تفصل بينهم حقول زهرة الخشخاش، حيث تمتلك هذه اللوحة رمزية عالية تشير وبشكل نقدي وتهكمي لدوافع الحرب الخفية في أفغانستان، وكأنها حرب بين مجموعة من المخدّرين، حيث الكل منهمك في معركة دائخة، يحركها اللاعبون الكبار، بينما الضحايا لا يعرفون لماذا هم هناك، ولماذا جرفتهم الحرب إلى مستنقعات الدم.
الاعتياد على العنف
يرصد الفنان موضوع الاعتياد على العنف في أفغانستان، واعتباره اليوم أمراً طبيعياً، وذلك بفعل التعليم المشوّه، والدعاية الملتوية والثقافة المادية.
ويدرس مشروع الفنان خادم علي تسخير الإيمان والأعمال الخيرية كوسيلة اجتماعية ومؤثر سياسي يستغل العاطفة الدينية لإطالة زمن الصراع بين المرجعيات المختلفة، مستعيداً النصوص الدينية في القرن العشرين مثل ملحمة الشاهنامة، التي تم تأليفها في بلاط السلطان محمود الغزنوي بين أعوام 971 و 1030 لتحفيز محاربيه، وجرى توظيفها لشرعنة أعمال العنف.
ويطرح الفنان أسئلة حول إمكانية أن يلعب الاستقصاء الجمالي دوراً في دعم أو تحدي الاعتياد على العنف، ويقدم أسئلة أخرى حول أزمة المهجّرين من مناطقهم منذ اندلاع الحرب الأفغانية وإلى اليوم، وحول الشعارات الدولية الزائفة، وجمعيات الإغاثة ذات الأدوار المشبوهة، مستفيداً في أعماله من الأغاني الفلكلورية لشعب الهزاراة، والحرف اليدوية والشعبية مثل غزل السجاد، وتطريز الأقمشة، المنتشرة في كل من باميان وكابول وأصفهان وبوغياكارتا، لتنفيذ أعمال بتقنيات متنوعة ومن خلال مؤثرات سمعية وبصرية، وأعمال تركيبية، وجداريات، ولوحات قياسية، توثق في مجملها لعنة الحروب وكوارث الصراعات الدولية، وتعود في ذات الوقت لجذور الزمن الطهراني والبراءة الإنسانية المحتفلة بفنونها الأصيلة، المرتبطة بذاكرة ثرية ومتدفقة.