6 يناير 2012
لم يقف التشريع الإسلامي بمبدأ التسامح عند حدود الأمة المؤمنة، وإنما جعل الإسلام الدعوة إلى التسامح والسلام هي نواة للنظام الاجتماعي في الأمة الإسلامية، بما يحويه ذلك النظام من مسلم وغير مسلم.
وجعل الإسلام لهذه الدعوة الحافزة علامات وأمارات منها أن الإسلام قد طلب من المسلمين أنفسهم أن يلتزموا بالسلم وأن يدخلوا فيه إذا ما دعوا إليه، حتى عُد ذلك آية من آيات إيمانهم، يقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً) «البقرة، 208».
ويبين الإمام الرازي في معنى السلام في الآية وجوهاً كثيرة من بينها أن المراد به الصلح وترك المحاربة والمنازعة، ثم نرى الإمام الرازي ينظر إلى قول الله سبحانه (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) «الأنفال، 61». فيؤكد أن الحق سبحانه أوجب على نبيه ورسوله قبول الصلح إذا جنح العدو إليه، وما ذلك إلا لأن السلم هو الأصل في الحياة، بل يذكر الإمام الرازي أن الحق سبحانه لما بين في الآيات المتقدمة ما يرهب العدو من القوة والاستظهار، بين في هذه الآية أن العدو إذا ما مال إلى الصلح، فالحكم هو وجوب قبول الصلح منه ولو كان على سبيل المخادعة لأن الحكم يبني
على الظاهر، ويستشهد على ذلك بقول الله سبحانه (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) «الأنفال، 62».
السلام الاجتماعي
وأرى أن هذا الرأي من الإمام الرازي لا ينفي طلب الحذر والحيطة من الأمة حتى تتبين النوايا، ومهما يكن من أمر فإن هذه الآيات وما في معناها تؤصل لمبدأ السلام الاجتماعي، وتعكس مدى اهتمام الإسلام به، ورعايته له ليعيش الناس في ظل حياة وارفة قوامها التسامح والإحسان إلى كافة خلق الله، ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للبشرية على مر أزمنتها أروع الأمثلة التي تؤصل لهذه المبادئ، وتعمل على ترسيخها.
فيذكر ابن هشام في سيرته أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل عليه أسرى بدر فرقهم بين أصحابه وقال لهم: «استوصوا بالأسارى خيراً».
فتجاوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر النبوي الكريم حتى أنهم كانوا يفضلونهم على أنفسهم في طعامهم، ثم استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأنهم، فأشير عليه بقتلهم، وأشير عليه بفدائهم، فقبل الفداء مؤثراً جانب المرحمة، وأشير عليه أيضاً صلى الله عليه وسلم أن يمثل بسهيل بن عمر، وكان من أشد المحرضين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال كما يروي صاحب كنز العمال «لا أمثل به فيمثل الله بي» لقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع أن لديه من الدوافع والمبررات ما يجعله يتشدد معهم، ويأخذ نقيض هذا الموقف، بيد أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبني للتسامح في المجتمع الإسلامي صرحاً، وأن يشيد للسلم الاجتماعي في الإسلام بنيانا فيتمسك المسلمون بذلك في أشد المواقف وأحلك الظروف.
ولا غرابة إن رأينا تلك المبادئ السامية وقد أضحت أساساً للأمة الإسلامية في مختلف عصورها، يذكر أبو يوسف في كتابه موسوعة الخراج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بباب وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر فضرب على كتفه من خلفه وقال له من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال عمر فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال اليهودي أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فبذل له شيئاً من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضربائه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، ثم تلا قول الله (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ) «التوبة 60.
المساواة
يقول أبو يوسف والفقراء هم المسلمون وهذا الرجل من المساكين من أهل الكتاب اللذين أمر عمر بوضع الجزية عنهم، وأعمق من ذلك في تطبيق مبدأ العدالة والمساواة الإنسانية داخل المجتمع المسلم ما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قدم من الجابية من أرض الشام مر بقوم من النصارى وقد أصابهم مرض الجزام فأمر عمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت من مال المسلمين.
هذا ولم يكن التسامح الذي نعم به غير المسلم في المجتمع الإسلامي مقصوراً على عهد الخلفاء الراشدين أو الأولين من المسلمين كما يتصور البعض، بل إن هذا التسامح ظل صفة أصيلة تلازم المجتمع المسلم في كل عصر ومصر ولا نبالغ إن قلنا كما يؤكد المؤرخون أن الدولة الإسلامية كانت ملاذاً يلجأ إليه المضطهدون من أي دين فيجدون فيها تسامحاً وأماناً واطمئنانا يندر أن يوجد لدى غيرها من الأمم مما جعل المفكرون من علماء الغرب يكبرون ذلك في المجتمع المسلم ويشيدون به في مؤلفاتهم، فها هو المفكر الفرنسي فولتير يقول «إن الإسلام دين يستحق الإجلال والتقدير ذلك لأنه جعل زنوج أواسط أفريقيا وغيرهم يشعرون بآدميتهم، وجعل سكان جزر البحر الهندي يعرفون أن هناك قوة غير التي اعتادوا عليها، هذا هو دين الإسلام أي الاستسلام لإرادة الخالق، وهذا الاسم يكفي لهداية العدد الوافر من البشر وأكبر سلاح استخدمه المسلمون لبث الدعوة هو اتصافهم بالأخلاق العالية».
إن هذه المعاني التي شدا بها فولتير حول الإسلام ومبادئه لم يستشعرها المفكر الغربي في قطر دون قطر أو بلد دون بلد، بل استشعرها كل منصف من مفكري الغرب في كل زمان ومكان، ومن ثم نرى الفيلسوف الإنجليزي بارتراند رسل يقول «لقد قرأت عن الإسلام ونبي الإسلام، فوجدت أنه دين جاء ليصبح دين العالم والإنسانية، فالتعاليم التي جاء بها محمد والتي حفل بها كتابه ما زلنا نبحث ونتعلق بذرات منها، وننال أعلى الجوائز من أجلها، لقد ترك محمد الأمور تسير بطبيعتها حتى لا يتهم بأن الإسلام بالسيف ساد وانتشر.
عدالة السماء
ويؤكد المفكر الفرنسي أ. ف. جوتيه على حقيقة أن الإسلام دين لم ينتشر بالسيف، فيقول: إن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي استطاع معتنقوه أن يحققوا به عدالة السماء في التسامح الذي هو سمة المسلمين مع الديانات الأخرى المسيحية واليهودية بعكس الديانات الأخرى، أصبح الإسلام على قمة التسامح الديني لأنه جعل كل الأديان في حضانته تحس بالأمان ويحس أصحابها بكل الاستقرار بعيداً عن التشنجات التي كانت وما زالت تحملها الأديان الأخرى حتى الوضعي منها.
ولا شك أن سماحة المسلمين جعلت معتنقي الديانات الأخرى يحسون بأن تعصبهم أعمى لأن التسامح هو العلامة الصحيحة للدين إن كان بالفعل يدعو إلى الحب والسلام، فلا يمكن أن يكون التعصب منهجه، ولا شك أن التسامح بمعناه الإلهي غرسه رسول الإسلام في نفوس المسلمين فقد كان- صلى الله عليه وسلم- المتسامح الأكبر أمام اعتداءات أصحاب الديانات الأخرى وأمام إرهاصات وتخريفات اللادينيين».
د. محمد عبد الرحيم البيومي
كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات