السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العنوسة أفضل

العنوسة أفضل
17 فبراير 2012
(القاهرة) - كل ما كان يشغل بالنا جميعاً أن ننتهي من التعليم لنحصل على وظائف، وهدفنا الوحيد التخلص من الفقر الذي كان يسكن معنا ويلازمنا في حياتنا، سبعة من الأخوة والأخوات وأب وأم، لا نعرف من الملابس إلا الرخيص، نشتريها من مناطق معروفة قديمة، إلا أننا نخدع أنفسنا، كما يخدعنا الباعة بأنها جديدة، بعدما قاموا بتنظيفها وكيها وتغليفها، ولا يخفى على أحد أنها مستعملة، ونحرص على ألا نتحدث عنها منعاً للحرج، لكن لم يتركنا الذين كانوا من حولنا في حالنا، وراحوا يجرحون مشاعرنا ولو همساً وغمزاً، ولم نكن نلتفت اليهم، لأن ما بنا أكبر مما يشغلهم، وفوق هذا كله يحسدوننا على أننا ناجحون في دراستنا، ونتفوق أحياناً، وإن لم نكن من الأوائل، والسبب فقرنا وضيق ذات اليد، فنحن لا نعرف الدروس الخصوصية، وأحياناً نتغيَّب عن المدرسة لأننا نتبادل الأحذية، فبعضنا يذهب وبعضنا الآخر يبقى. لا تشبع بطوننا من الخبز الجاف، واللحوم لا تدخل بيتنا إلا مرّة في العام مع قدوم عيد الأضحى، أما الدجاج، فلا نعرف منه إلا الهياكل العظمية، وعند الترفيه نتناول الأجنحة مرة كل أشهر عدة، والأسماك بيننا وبينها مقاطعة إجبارية، ومع هذا نعتبر أنفسنا أحسن حالاً من غيرنا ممن هم دوننا، فقد ننظر إلى من هم أقل منا ولكن لا ننظر إلى من فوقنا، وذلك هي القناعة والرضا اللذان كانا سندنا. وجعلت تلك الظروف زميلاتي في جميع مراحل الدراسة يبتعدن عني كأنني غير مرغوب فيها، وفي الحقيقة كان تصرفهن هذا على الرغم من أنه طبقي وفيه نوع من التمييز، إلا أنه كان يريحني نفسياً، لأنني لا أحب ولا أريد أن أتعامل معهن حتى لا أشعر بالنقص، وصديقتي الوحيدة هي جارتي التي تشبهني في الظروف، ونتفهم بعضنا جيداً ونتصارح بكل أحوالنا وظروفنا. مضت السنون العجاف بمرارتها وقسوتها كبيسة كلها ونحن نتمسك بالأمل في غدٍ أفضل، إلى أن يأتي عام فيه نغاث ونستريح، إلا أنه لم يأت على الرغم من طول انتظار، فإن كنا جميعاً انتهينا من الدراسة، وتخرجنا وحصلنا على مؤهلات مختلفة، فقد جاء الهم الكبير، وهو نفقات الزواج التي تعجز الأغنياء، فما بالك بنا ونحن لا نجد منها أقلها؟ وانشغلنا جميعا في حدود ظروفنا بين مسؤولية هذا وتلك ولم يكن أمام أخوتي وأخواتي غير الفرار إلى بلاد الفرنجة بحثاً عن الحياة الرغدة، وهرباً من هذا الفقر الذي لا يريد أن يتخلى عن العشرة معنا. وقبل أن التفت إلى نفسي وأنا آخرهم حدث ما قصم ظهري وأفقدني الصواب، وشعرت بأنني خسرت الدنيا كلها، فقد رحلت أمي وإن لم يكن رحيلها مفاجئاً، فقد كانت تعاني منذ سنوات أمراضاً عدة كلها خطرة، لكن أحسست الآن بقيمتها، وإن لم تكن تفعل شيئاً، إلا أن الشعور الغريب الذي انتابني جعلني لأوَّل مرة وحيدة ويتملك الضعف مني، والهزيمة تتغلب عليَّ وتقهرني. الآن أنا أحمل مسؤوليتي ومسؤولية أبي العجوز الذي تجاوز السبعين، وقد توقف عن العمل بعد أن انحنى ظهره، فقد كان يعمل حمالاً، وأثرت هذه الأعمال على عظامه، فأصيب بتقوس في الظهر والساقين، وقررت أن أتفرغ له بكل ما أملك، وإن كنت لا أملك إلا راتبي البسيط المتواضع، فأنا حاصلة على مؤهل متوسط، وأعمل في وظيفة إدارية، لكن أبي يريدني أن أتزوج كي يطمئن على مستقبلي، وأنا أرفض أن أتركه وحده، وأمام إصراره كنت أوافق على مقابلة الشباب القليلين الذين تقدموا لي، لكن لم يكن أي منهم أحسن حالاً منا، فسأنتقل من سيئ إلى أسوأ، ومن الحكمة أن أفكر في وضع أفضل، وليس بالضرورة أن يكون العريس ثرياً وإنما مستور، إلا أنه في النهاية لم يأت خاطب واحد متوافق معي. وازداد همي بموت أبي، وكان أكثر تأثيراً من رحيل أمي على الرغم من أنه كان هو الآخر يُعاني الكثير من الأمراض، ومنها أمراض الشيخوخة، واستراح من الآلام والمعاناة، وشعرت بالوحدة، فمهما كان لا يتحرك كثيراً في الشقة إلا أنني كنت آنس بوجوده وحتى بسعاله، وأدور حول نفسي بعدما أعود من عملي، فلا أجد ما أفعله، وقد نسيت أن أقول إنه لا يوجد في البيت لا مذياع ولا تلفاز فمن أين لنا بهما؟ وليس ليّ أقارب ولا أعمام ولا أخوال، وإخوتي وأخواتي منشغلون في حياتهم في الغربة، ولم يكن لي إلا صديقتي التي تزورني كلما سنحت لها فرصة. بعد عام من الحداد وملابس السواد اكتشفت أنني قد تجاوزت الثلاثين، وتوقف الخطاب تماماً عن طرق بابي، الأمر عندي كان عادياً، فقد يأتي العريس المناسب في أي وقت، لكن مثلي ليس لديها ما يغري أو يجذب شباب هذه الأيام، حتى كثر القيل والقال والسؤال لماذا لم أتزوج حتى الآن، وإن كانت الإجابة معروفة وواضحة، وهذا كله لا يهمني ولا ألتفت إليه، وإنما ما جعلني أنتبه هو شبح العنوسة الذي اقترب منه، وبالفعل دخلت بين خيوطه، ويكاد قطار الزواج يفوتني. أصبح الحديث بيني وبين صديقتي مقتصراً على هذا الموضوع، ويستحوذ على تفكيرنا، فما أن نخرج منه حتى نعود إليه، وأشعر بأنني بحاجة إلى زوج يؤنس وحدتي، ويخرجني من هذا الكوخ الذي أقيم فيه منذ أن جئت إلى الدنيا، فالوحدة قاتلة قاسية، وأكثر بشاعة من الفقر، وجيراننا يمارسون ضغوطهم تلميحاً وتصريحاً، وزميلات العمل لا يخجلن في التباهي بأنهن متزوجات، وأنا «عانس»، فقد أصدرن أحكامهمن بأنني سأظل على تلك الحال، ولن أتزوج أبداً، فتأثرت نفسياً، وأقضي الليل بطوله بين التفكير والدموع التي لا تتوقف. على الرغم من أننا وحدنا أنا وصديقتي وجدتها تهمس في أذني على استحياء بأن نطرق باباً جديداً لكي نجد حلاً لمشكلتنا، فقد قرأت إعلاناً في إحدى الصحف عن مكتب متخصص لتزويج الشباب من الجنسين، ويؤكد أن المعلومات والبيانات والإجراءات كلها ستكون في غاية السرية، ولن يطلع عليها أحد إلا ذوو الشأن، وإن كانت الفكرة في غاية الغرابة، إلا أنني ومن باب الفضول التقطت قصاصة الصحيفة من يدها، وأعدت قراءة الإعلان، ولم أستطع أن أتقبل الفكرة، واستنكرت أن يتم الزواج بهذه الطريقة، ولا يعقل أن تعرض الفتاة نفسها على رجل ليتزوجها، فهذا سيجعلها رخيصة في عينيه، لكن صديقتي أقنعتني أن شريك حياتي مثلي يعرض نفسه، وان لم تكن قناعتي كاملة، إلا أنني وافقت على اقتراحها بأن نخوض التجربة، والقرار بأيدينا، ويمكننا أن ننسحب ونتراجع في أي لحظة. توجهنا إلى المكتب الذي أطلق عليه الحضور لقب «الخاطبة الإلكترونية»، ونحن نقدم رجلاً ونؤخر الأخرى، وكدنا نعود أدراجنا عندما وصلنا أمام بابه، ووقعت عيوننا في عيون الشباب والشابات الذين جاءوا مثلنا، ولنفس هدفنا، تصببت عرقاً على الرغم من برودة الجو، وأنا اسأل السكرتيرة الحسناء عمّ يجب أن نفعله؟ فطلبت منا الجلوس والانتظار إلى أن يحين الدور علينا. وسنلتقي بالمدير الذي سيشرح لنا كل التفاصيل، وعلينا أولاً أن نسدد الرسوم المالية، فقدمت لها المبلغ المطلوب بلا إيصال أو أن أحصل على ما يفيد بالسداد، وبعد انتظار أكثر من ساعة التقينا بالمدير، وهو شاب أنيق يتحدَّث بطلاقه، وأمامه جهاز كمبيوتر يسجل بياناتنا ورغباتنا وصفاتنا وإمكاناتنا ومطالبنا أو شروطنا في العريس الذي تريده كل منا، ثم حدد لنا موعداً آخر لنفحص الشباب المتقدمين الذين تتوافق مطالبنا معهم ومطالبهم معنا. بعد أسبوع عدنا إليه وحصلت السكرتيرة على مبلغ أكبر من السابق لأننا دخلنا في مرحلة متقدمة هي مرحلة الجدية والتنفيذ، فلم نناقش ذلك، وقدم لنا المدير ملفات كثيرة تقدر بالآلاف، وتأكدت قبل أن تمتد يدي إليها لالتقطها منه أنني سأجد بينها عشرات، بل مئات العرسان بكل سهولة لكن ما أن بدأت أتصفحها حتى أصبت بصدمة شديدة، صحيح أنها معلومات عامة ولا تفصح عن هوية صاحبها، وهذا ما جعلني أطمئن للسرية في البيانات إلا أن المفاجأة الصاعقة أن العرسان ليسوا بأفضل حالاً منا، فهذا لا يملك شيئاً ويريد عروساً لها دخل جيد، ولديها شقة، وذاك يريدها موظفة وتملك سيارة ورصيداً في البنك، وآخر لا يملك حتى حقيبة ملابسه ويرغب فيمن تتكفل بكل النفقات قبل وبعد الزواج، وهؤلاء حرفيون يريدون زوجات موظفات بدخل شهري ثابت، إلا أن الجميع اتفقوا على شرط واحد، وهو أن تكون العروس فاتنة أو على الأقل جميلة ومرحة وتقدس الحياة الزوجية. لم تقتصر الطلبات على هؤلاء الكسالى الشحاذين الباحثين عن المال والسيارة والرصيد، وإنما كانت هناك فئة أولاد الذوات الذين يبحثون عن زوجات، وليس لديهم مانع من أن يقيموا معهن في فيلات أو قصور أبائهن وكأنهم بذلك يقدمون تنازلات كبيرة، مع أنهم لا يقدمون شيئاً، ويعلنون أنهم سيدخلون مشروع الزواج «بمجهودهم»، وبالطبع فقدت الأمل تماماً في العثور على عريس حتى لو تغاضيت عن معظم شروطي، فلا يوجد بين المتقدمين من يناسبني، وترددت مرات عديدة على المكتب، وقضيت وقتاً طويلاً في فحص «المعروض»، وأصابني اليأس، وقررت أن أتوقف عن هذا العبث ،إلى أن وجدت ضوءاً في آخر النفق المظلم، عريس ثري لا يقدم أي شروط في العروس المطلوبة، عمره مناسب جداً، فهو يكبرني بحوالي خمس سنوات. كدت أطير فرحاً أو أموت من السعادة، وطلبت أن ألتقي به، وسددت رسوم اللقاء للمكتب الذي لا يقدم أي خطوة إلا برسوم، ولم أصدق نفسي، وأنا أمام شاب تحلم به أي فتاة، وتساءلت بسرعة ما الذي يجعل شاباً مثله يتزوج بهذه الطريقة؟ لكن لماذا أشغل نفسي بأسئلة سخيفة؟ عليَّ أن أعيش لحظة السعادة، لكنها لم تدم طويلاً فبمجرد أن أنهى كلامه والبيانات التي عرفتها عنه ألقى بقنبلة في وجهي، أنه يريد أن يتزوَّج للمرة الثانية بعلم زوجته التي لا تنجب، ويريد امرأة «مستأجرة» للإنجاب فقط، ثم بعدها إما أن تعيش خادمة للطفل أو ترحل بالطلاق، ولم يفته أن يعرض مبلغاً كبيراً في المقابل، وأصبت بالخرس، ولم أجد كلمة واحدة أرد بها عليه غير البكاء والانسحاب من أمامه ومن المكان، مع التعهد بإنهاء التجربة القاتلة القاسية التي كانت أكثر قسوة من الوحدة والفقر. لم تكن صديقتي أحسن حالاً مني فقد واجهت ما هو أغرب من ذلك، واتفقنا على أن العنوسة أفضل من الهوان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©