بيروت ـ دانيال حصري:
رفيق علي أحمد، ممثل مسرحي يمتلك موهبة السرد والصمت في النص المسرحي، حاذق في صياغة الحوار مع نفسه وكأنه فرقة مسرحية بكاملها، وذلك بفضل رؤيته الفنية الفذة وقدرته الحركية والصوتية· انه أكثر من 'ون مان شو'، مقاوم من خلال فنه، نذر نفسه من أجل الوطن والقيم والفن·
رفيق علي أحمد ليس مؤلفا وكاتبا وحسب، بل مواطنا وممثلا تطارده أفكار يرغب في التعبير عنها·
'هناك جنون مشترك بيني وبين كارول سماحة وأحب العمل معها'·· هكذا تكلم عن التمثيل، أما الفن والموسيقى فقال عنهما: 'لا أحب الأوبرا ولا الموسيقى الغربية واستمع الى الموسيقى الشرقية'· تحدث عن السياسة والفن وواقع الحال، والطفولة وأول زيارة له الى بيروت··· وهنا الوقائع:
؟ من يريدك يجدك في 'القهوة' على شاطئ البحر؟
؟؟ جو ظريف، أرجيلة وفنجان قهوة··· المثقفون يبحثون دائماً عن مكان يعتبر ملتقى لتبادل الأفكار والآراء والنقاش حتى في أوروبا·
؟ هل تطمح إلى أن تكون رجلاً سياسياً؟
؟؟ هناك جانب سياسي في عملي أعبر عنه من خلال المسرح·
؟ هذا يعني ان لديك الوسيلة للتعبير؟
؟؟ الطفل الصغير يتصرف بسياسة، ألا يبكي ليعبر عن جوع أو ألم وهذا يعني انه يحث أهله لتأمين طعامه أو طبابته··· وهذا ولد! من خلال عملي، أقدم سياسة ولكن سياسة واقعية لأني أعرض أفكار الناس وأعلنها وبذلك أتواصل معهم عبر كتاباتي ومسرحياتي·
؟ لديك ولدان، هل ينتقدان أعمالك؟
؟؟ يستفزانني كثيراً لأنهما يتمتعان برؤية فنية ويقولان لي أحياناً ان شباب ستار أكاديمي 'أشهر مني'!
يعطيك العافية·· جائزتي
طفولتي فيلم سريع
؟ اخبرنا عن طفولتك، وكيف تصفها في قرية يحمر الشقيف؟
؟؟ انها فيلم سريع ولا ينتهي او يبتعد عني، اشاهد الولد 'الحافي'، طرقاً غير مزفتة، ارتداء 'شحاطة' أُم اصبع، ورغيف المرقوق او الخبز تحت ابطي وأركض وراء سيارة دخلت قريتي لأول مرة، ثم كبرنا فقصدنا نهر الليطاني··· الآن أشعر بأن طفولتي كانت سعيدة مع أن الوضع كان على 'قد الحال'· لم نكن ميسورين· طفولتي هي خزان ذاكرتي، وكل ما أقدمه الآن يجعلني أشاهد ذاك الطفل الصغير وأسعى الى ارضاء حضوره المحبب، هو النبع الذي أنهل منه 'خبرياتي' وقصصي· أذكر اني كنت أجلس كثيراً في 'البرية'· لذلك كنت انعزالياً ولم أحتك بالناس، بل كنت أراقبهم وأسمع 'خبريات' المسنين وتحديداً ما يقال عن الحرب العالمية· كذلك أحب ان اشير الى ان الامكنة لها أنسنة خاصة، وأسمع صوتها وهي تناديني من ذكريات لا تعوض، هنالك أماكن كسّرت رأسي فيها، وتشاكست مع الاصحاب، وزرعت القمح··· في كل مكان في ضيعتي قصة تناديني لأعود اليها مع حنين ينطوي على غصة او بسمة خفية· طفولتي هي الخزان الذي قدمني ممثلاً على هذا النحو·
؟ يتردد أنك دخلت معهد الفنون وأنت تبلغ من العمر 30 سنة، هل هذا سبب حرجاً لك؟
؟؟ الآن عمري 30 عاماً··· نحن أولاد الفقراء لا يسمح لنا ان نختار مهنتنا أو نأكل في وقت معين· كان لزاماً عليّ أن أبحث عن حالي· كنا ثمانية افراد في البيت ومن عائلة فقيرة· وحينما وصلت الى المرحلة المتوسطة كان يجب أن أبحث عن وظيفة، والوظائف في ضيعتنا هي 'المدرّس' و'الدركي' و'العسكري'، حينذاك تقدمت الى دار المعلمين وعلّمت في ضيعتي بعدما توسط لي والدي لدى احد النافذين· وبسبب ذلك بكيت بكاءً مراً لأنني كنت ارغب في النزول الى بيروت حتى أحقق حلمي كممثل· في الضيعة، تنتهي الحياة بعد أن أنجب طفلاً في حين ان الحياة تبدأ في بيروت· حينما دخلت معهد الفنون كنت في الخامسة والعشرين·
بيروت صدمتني
؟ كيف كان اول لقاء لك مع بيروت؟
؟؟ صدمة، صدمة كبيرة، بيروت كانت لي كلحظة خروجي من المسرح وشاهدت ثلاث نساء يرتدين الفرو وينظرن اليَّ وأنا لا اهتم بهن بل أنظر من طرف عيني، وذلك بسبب متابعتي لقراءة المسرح من خلال الصحف، وهذا ولد عندي يقيناً بأنني أعرف كل الناس· بيروت كانت الضوء الملون، بيروت كانت امرأة تحتاج الى أن اقبل بها··· وصلت بيروت سنة 1978 مهجراً والسكاكين تطعن جسدها الحزين والنحيل والمنكسر، ودخولي بيروت في زمن الحرب غيّر مساري· كانت مدينة حزينة لا تشبه حلمي·
؟ هل هذه كانت اول زيارة الى العاصمة؟
؟؟ لا، زيارتي الأولى كانت مختلفة· بعد حصولي على 'البروفيه' كان يجب ان نخوض امتحاناً شفهياً، وحينما أطلت السيارة على 'مصيلح' الزهراني، نظرت الى الأفق البعيد فشاهدت منظراً غريباً عجيباً ربما كان بستاناً، وصرخت بالركاب 'شوفوا البحر··· هذا البحر'، لم يهتم أحد بي وقالوا: 'الله يرد العقل لأصحابه'··· حينما شاهدت البحر كان عمري 17 سنة بالتمام والكمال·
؟ كيف استقبلك المسرح؟
؟؟ لم أختر المسرح طوعاً، وكشاب في بداية العمر يبحث عن ذاته، كنت ارسم وأعزف موسيقى وأغني وأقف على نهر الليطاني لأتحدى وديع الصافي، واستمر ذلك حتى اكتشفت المسرح، وهو أداة الفقير لأنه يعتمد على جسمك وصوتك، لذلك أتيت اليه ولم أعلم بعد إذا استقبلني·
؟ لمن كانت أول مسرحية مثلّتها؟
؟؟ كانت لمخائيل نعيمة مع يعقوب الشدراوي سنة ·1978 وأعتقد أن يعقوب وروجيه عساف علماني مبادئ المسرح، وثبتا قدميّ فيه·
؟ السؤال الذي يطرح اليوم هو ان الفنان اللبناني في الحرب كان لكل لبنان، وبعد الحرب اصبح طائفياً· لماذا؟
؟؟ كل ثورات العالم تنطلق من المفكرين والمثقفين· في لبنان، فقدت السياسة الصدقية، ورجالات الدين لا يقدرون على عقد حوارات بين الطوائف في لبنان بسبب تركيبة البلد ووضعهم ومصالحهم كما السياسيين، اي السياسي ورجل الدين يتمسكان بـ 'كرعوب' الطائفة، ومثقف اليوم هو الطعم الواجب ان يلتف حوله الشعب اللبناني، ونحتاج الى احزاب علمانية بعيدة عن الطوائف· اين المثقف العربي؟ انه في المنفى او القبر· هناك جانب آخر متمثل بما نراه في الاعلام والفضائيات والانترنت من اموال تنفق على نحو جنوني على هذه الأمور التافهة حتى يقال هذا هو الواقع الثقافي، وهذه هي الثقافة·
؟ اين مسؤولية المثقف في ظل ذلك؟
؟؟ على المثقف مسؤولية كبيرة رغم هذا الحصار الكبير والخطير· هنا في لبنان يسمح لك بالحديث عن كل شيء، ولكن لا يسمح لك ان تلتقي آخر على الطريق، لا يسمح لك بترجمة كلامك·
؟ هل لهذا السبب استقلت من نقابة الفنانين المحترفين؟
؟؟ استقالتي موقف، لأن المشهد اللبناني بما هو عليه طائفي بعيد عني ولا دور لي فيه، اعتقدت ان اسمي حجر عثرة في توحيد القانون المهني· استقلت لأُحدث صدمة ايجابية، ولكن يبدو ان المواطن اللبناني يحتاج الى 'فولتاج' عالٍ حتى ينصدم· كذلك لا أوافق على ان الفنان اللبناني بعد الحرب اصبح طائفياً، فموضوع النقابة يمر في المصالح الشخصية وتجمعات وشلل· الفنان اللبناني غائب وليس صاحب موقف مع النقابة، ثلاث سنوات في النقابة اجتمعت في خلالها مع اغلب المسؤولين وحينما استقلت لم يسأل احد، لا صحافي ولا مواطن ولا فنان· الفنان غائب عن مصلحته·
؟ لماذا؟
؟؟ ما من عمل فني يغير المجتمع او السلطة، رغم ان السلطة تخاف العمل الفني· الفكر والثقافة يغيران نتيجة تراكمات· وما حصل عندنا مؤسف وبعيد عن التراكمات الثقافية· ذهبت الى وزير في دولتنا الكريمة طالباً 'سبونسر' لمسرحيتي واشرت الى ما قاله ادونيس، فرد الوزير ان المشهد الثقافي في ألف خير في لبنان، فقلت له انني اشك في ذلك، وإذا كان لدينا ثلاثة معارض للكتب فعلينا معرفة ما هي اكثر الكتب مبيعاً اذ نجد ان الابراج وكتب الدين والطبخ هي التي تتصدر ثقافتنا، وكأن مستقبل المواطن اللبناني في الابراج والاكل· اليوم لا وجود لمشهد ثقافي ولا يوجد صالة مسرح حتى لا نقول مسرحاً· اليوم لا نجد من يتبنى المسرح بينما اي عابرة سبيل لها ساقان طويلتان نجد امامها وخلفها ومن حولها آلافاً ليتبنوها وهي تتدلع عليهم·
؟ ما العمل؟
؟؟ اعمل مسرحية حتى انقلها الى الخشبة وليس لوضعها في 'الجارور'· لست مؤلفاً، عندي مسرحية جاهزة كتبتها قبل عام، وذهبت الى اكثر من مسؤول والجميع انشرح لزيارتي، والابتسامة غلفت لقاءاتهم وظلّ الكلام في الهواء· المسؤول لا يؤمن بالثقافة ولا يعترف بها، وهنالك جهل كبير في قيمة الثقافة وربما يقصدون عدم تنشيط الثقافة حتى لا تفضح ما يعملونه في سياساتهم مع ان الامور مكشوفة، اضافة الى ان هنالك محاولة لتغييب هذا المجتمع عن حضارته وتاريخه وناسه وشخصيته الأساسية·
؟ هل وصلت الى مرحلة القرف وقررت الهجرة؟
؟؟ لست قرفاناً من الوضع في لبنان، ويتابع ممازحاً ساخراً، ولم افكر في السفر بسبب الحالة الاقتصادية، والحمد لله المجتمع اللبناني والنظام اللبناني بألف خير· نظامنا حر وديمقراطي وسليم· واللبناني تؤمن له كل وسائل المعيشة الشريفة والمريحة، والصحة والطبابة بالمجان، والمدارس لكل الناس ولكن عجقة السير هي التي جعلتني افكر في الهجرة·
؟ عملت مع الرحابنة رغم ان علاقاتهم جيدة مع كل السلطات هنا وهناك، كيف تفسر هذا؟
؟؟ ما يهمني هو العمل· اعمالهم جيدة ولا تهمني علاقاتهم· هنالك ناقد لا يعجب بأعمالي وعلاقتي به جيدة جداً· ربما يغار مني ومع ذلك لا اناقشه، ماذا افعل له؟
الخطيفة والزواج
؟ هل تجاوزت مسرحية 'الجرس'؟
؟؟ لقد تجاوزتها، ولكن من شاهدها لم يتجاوزها بعد·
؟ هل تسمع رأي زوجتك كثيراً؟
؟؟ نعم، هي الناقدة الاولى لي، كل المسلسلات التلفزيونية التي تأتيني لا أقرأها بل هي التي تقرأها· اثق بها وبرأيها·
؟ لماذا تجلس دائماً في مقهى شاتيلا؟
؟؟ لا أحب الأماكن المغلقة، ربما لأنني من الريف· جميل أن تجلس في بيروت وتجد تحت قدميك حبة تراب وكم حصاة صغيرة· هذه القهوة كالحرية، ساعة مع الناس وساعة وحدك مع التراب والشجر وعصافير الدوري، هي لي مكتب عمل·
حكم الرعيان
؟ هل تفضل أعمالك الخاصة على الأعمال التي تقدمها مع الآخرين؟
؟؟ الموضوع هو الأهم عندي، لو لم أقتنع بعمل منصور الرحباني الأخير لما قدمته خاصة انه يوافق قناعاتي·
؟ ماذا تقول عن مسرحية 'حكم الرعيان'؟
؟؟ مسرحية جيدة جداً، ولكن هنالك نقاداً ولدوا على الرصانة وفكر محدود ومعين والحوارات الشكسبيرية لم تعجبهم· وهنا أذكر حكاية صديقي الصحافي الذي كان في بداية عمله الصحافي وهاجم في مقال له أحد رموز الشعر العربي، وحينما ذهب الى رئيس التحرير قال له هذا الأخير 'طول بالك على حالك شوي'، وأقول للشباب الجدد والنقاد العظماء أن يطولوا بالهم على حالهم شوي· النقد فكر ومسؤولية وسعة اطلاع· واليوم، ينتقدون المسرحية وغداً ينتقدون المسرحية الجديدة ويعجبون بالقديمة بعد أن هاجموها لدى عرضها· ثمة شبه اجماع على ان 'حكم الرعيان' تحاكي مسرحيات الرحابنة، والجميع قال اننا قضينا ساعات ممتعة· شخصياً لدي نقد على المسرحية، ولكن أن نمسك القلم بغية التجريح للتجريح، فهذا لا يجوز· هذه المسرحية لها موقع خاص عندي اذ انني كممثل رقصت وغنيت ومثلت· مسرحية ممتعة ومشوقة وقائمة على فكرة معاصرة مقدمة بطريقة جميلة هي فانتازيا· وفي الاخير لكل عمل سلبياته وايجابياته·
؟ هنالك جمهور واسع لم يقتنع بوجود المطربة لطيفة في المسرحية مع وجود أصوات لبنانية افضل منها؟
؟؟ لا عنصرية في الفن· رغم كذبة القرية العالمية الصغيرة لوجود واحد قوي وآخر ضعيف، من المعيب ان يقال هذا لبناني او مغربي وهذا تونسي أو فرنسي· منصور الرحباني اتصل بفنانة لبنانية فرفضت الدور لأسباب خاصة فاستعان بلطيفة بعدما وجد انها مناسبة للشخصية· حتى في مسرحية 'المتنبي' جاء بجمال سليمان وصباح عبيد، وأنا ذهبت الى سورية وقدمت 'سيف الدولة'، كما ان منصور الرحباني ليس لبنانياً بل هو عربي· لطيفة او غيرها ليسوا غرباء عن المسرح الرحباني بل عاشوا فيه·
؟ هل صحيح أن شخصية عربية فاعلة فرضت لطيفة على المسرحية؟
؟؟ هذا كلام لا يليق بالفن، هذا يحصل مع السياسيين· ولكننا لا نستطيع صناعة الفنان·
الافضل
؟ ما افضل اعمالك؟
؟؟ التي سأعملها قريباً· ولا وجود لعمل مفضل عندي بل هنالك مشاهد مفضلة·
؟ ما الدور الذي تحب أن تلعبه؟
؟؟ يوحنا المعمدان، في داخله أحاسيس وفكر باطني كبير، وغليان· لا بد من تقديمه·
؟ بمن تأثرت؟
؟؟ لم اتأثر بأحد، بل هنالك من أحبهم· لا يوجد مخرج مسرحي وحيد معجب به بل معجب بأكثر من مخرج·