عصام أبو القاسم (الشارقة)
يقدم كتاب «أنا عبوة ديناميت.. حياة فريدريك نيتشه» لسو بريدو، وترجمة أحمد عزيز وسارة أزهر، الصادر عن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع في 500 صفحة قطع متوسط، صورة وصفية موسعة لصاحب كتاب «هكذا تحدث زرادشت»، وما يلمع أكثر في هذه الصورة حالته كشخص معتل بدنياً، يعاني اختلالات صحية منذ الصغر في أجهزة حيوية بجسمه، إلى درجة يمكن القول معها إنه عاش حياته وقد حمل جسده كعبء لا يحتمل، ولكنه قاوم بلا انكسار.
تتبعت الكاتبة البريطانية سو بريدو (74 عاما) وبحس روائي مشوق، سيرة نيتشه، لكن في محطات محددة: انتقالاته بين البيت والمدرسة والجامعة، ثم أسفاره وما صحبها من لقاءات وقراءات، وبشكل أساسي مواقيت وأصداء صدور مؤلفاته، وفي كل تلك المناسبات ترد دائماً إشارات إلى اعتلاله البدني.
تحكي بريدو وتحلل حياة الرجل الذي عاش في الفترة 1844 - 1900م، وهي لم تكتف بما كتبه نيتشه عن نفسه، وما كتبته أخته عنهما معاً، ولكنها راجعت أيضاً إرث الموسيقي الذي ارتبط به نيتشه وهو ريتشارد فاغنر وعائلته.. فلقد عاينت بريدو رسائل نيتشه فاغنر ونشرت مقتبسات منها، وهي بمجملها عبارة عن تعليقات إما حول مؤلفات.. مقالات، أو تقييمات لمقاطع موسيقية، أو رؤى حول الأوضاع السياسية لأوروبا في تلك الفترة.
وثمة مساحة في الكتاب للجوانب العاطفية لصاحب كتاب «هذا الإنسان»، الذي وصف غالباً باعتباره كارهاً للنساء، ولكن بريدو تقدمه رجلاً يعشق النساء المثقفات.
وبعكس ما يوحي به عنوان الكتاب «أنا عبوة ديناميت» من انطباع مرعب، بدا نيتشه، بين دفتي هذا الكتاب، رقيقاً ويائساً، وضعيفاً لا سيما في علاقته مع السيد فاغنر.. وهي علاقة اختلط فيها الدينوزيوسي بالأبولوني بشكل عجيب، كما تصفها بريدو، وفي مستويات أخرى بدت كعلاقة بين طالب متهيب (نيتشه) وأستاذ مهيب (فاغنر)، أو بين مريد وقديس!
ومما يكشفه هذا الكتاب أن صاحب العبارة الشهيرة «لا توجد حقائق.. توجد وجهات نظر» كان يسعى، بكل طاقته، لأن يجد مكانة بين الموسيقيين الكبار.. كان يحلم بذلك ويحاول بكل جهده، وكان يستاء من الانطباعات السلبية حول عزفه للمقطوعات أمام النخبة في قصر فاغنر.
من يقرأ كتاب بريدو والصورة المرسومة في صفحاته لنيتشه، يتذكر عبارة ميشيل فوكو التي تفيد بأن كل جهد إبداعي خلاق يصدر عن/ أو يترجم/ يجسد حالة «انتقام/ ثأر». قد يصح أن نقول إن نيتشة كتب ما كتبه من مؤلفات في إطار «ثأر» على هزائم في معارك بميادين أخرى لم يربحها، مثل معركته مع جسده، أو صراعه في ميدان الموسيقى، كما في الجامعة حيث كان طلابه ينفرون من منهجه التدريسي ورؤاه الفكرية، وكذلك في مجال الإعلام فنيتشه لم يكن لافتاً مثل بعض أقرانه، وكتبه لم تكن تجد من يعلق عليها عند صدورها.. وكان كل ذلك يحز في نفسه أو يستفزه.
وفي تصويرها لظروف إنجازه كتاب «مولد التراجيديا»، بدا كما لو أن بريدو تود القول إن تأليفه هذا الكتاب كان بمثابة ميلاد ثانٍ له، فلقد فتح أمامه الآفاق وتلقى الكثير من المدح، خاصة بعدما وصلته العديد من الانطباعات حول الطابع الإنشائي لكتاباته التي تفتقر للأدلة الموضوعية.
وبمُقابل تهم «النازية» و«معاداة السامية» التي ارتبطت باسم نيتشه، تسعى بريدو في كتابها هذا إلى تبرئته من تلك التهم، وتدفع باتجاه اتهام أخته إليزابيث التي عاشت لثلاثة عقود بعد رحيله، وورثت تركته الفكرية وأشرفت على ما نُشر من هذه التركة، فهي بحسب بريدو عمدت إلى تلوين نتاجه الفكري بالأيديولوجيا النازية.
إنه كتاب لا غنى عنه لمن يرغب في معرفة الجانب الآخر من سيرة السوبرمان نيتشه.