وسط صقيع برلين وتحت برد الثلج المتساقط بهدوء، يسري دفء فني صاخب ومختلف في صالات السينما بمقر مهرجان برلين السينمائي، الذي تحولت دورته الثانية والستون إلى كرنفال بصري ومهرجان ثقافي يموج بالألوان والتجارب والقصص، ويحتشد بالآراء والنقاشات التي تسبق عروض الأفلام، والتي يتواصل صداها وينتشر ظلها بعد انتهاء هذه العروض، مع تحقق الوعد المكتمل بسريان الحرارة في جسد المهرجان خلال الأيام التالية، رغم برودة الطقس وتراكم الجليد على أرصفة وشوارع برلين.
بالتوازي مع وجود الوجوه السينمائية الإماراتية في «البرلينالي» التقت «الاتحاد» بمجموعة من الشبان السينمائيين المحليين والمقيمين، والذين جاءوا إلى قلب الحدث كي يكون لهم صوت وحضور خاص في هذا المحفل الفني الكبير، ومن المؤسسات السينمائية التي كان لها حضور لافت في أروقة المهرجان «لجنة أبوظبي للأفلام» التي حملت على عاتقها مسؤولية تطوير صناعة الفيلم الإماراتي، انطلاقا من رعاية ودعم المواهب الشابة، ووضعها في وسط التحدي الفني الذي يحتاج لكثير من البحث والخوض في المغامرة السينمائية المحسوبة والمعد لها جيدا، وهي عناصر ومكونات استندت عليها استراتيجية «لجنة أبوظبي للأفلام»- كما هو واضح- من أجل خلق قاعدة فيلمية قوية في الإمارات تعتمد بالأساس على العنصر البشري، وتغرف أيضا من العناصر الضرورية لصناعة الفيلم مثل التمويل والتسويق والإنتاج والترويج.
دعم للمواهب الإماراتية
وكانت لجنة أبوظبي للأفلام قد أعلنت مؤخرا عن إنتاج ستة أفلام روائية قصيرة واستحدثت مسابقة خاصة لهذه الأفلام، وهي مسابقة أنشئت لتشجيع الكتاب والمخرجين الناشئين، إضافة إلى تشجيع شركات الإنتاج في الإمارات على إنتاج أفلام قصيرة للعرض السينمائي الدولي والبث المستقبلي.
وفي هذا السياق يقول ديفيد شيبرد مدير لجنة أبوظبي للأفلام، إن المشاركة في مهرجان برلين تشكل دعما ثقافيا للمواهب الإماراتية والمقيمة من أجل تعزيز وعيها السينمائي وتنويع أطر ومنافذ المشاهدة السينمائية النوعية، خصوصا أن مهرجاناً بحجم مهرجان برلين السينمائي يعتبر فرصة ذهبية وكبيرة من أجل التعرف على نتاجات سينمائية متميزة والتواصل مع سينمائيين يملكون رصيدا حافلا في الأفلام المميزة والمشغولة بشكل جيد ومتكامل وفقا للشروط القياسية الخاصة بإنتاج فيلم متماسك فنيا وموضوعيا.
ويوضح شيبرد أن هذه المشاركة هي الثانية للجنة أبوظبي للأفلام في مهرجان برلين، حيث تمثلت المشاركة في العام الماضي من خلال مجموعة من السينمائيين والمنتجين المحليين من أجل التعرف على أجواء المهرجان والإطلاع على آليات عرض وتسويق وإنتاج الأفلام في أوروبا.
الترويج لأبوظبي
ويضيف شيبرد: «وجودنا هذا العام في المهرجان جاء بشكل مكثف وأكثر تفاعلا مع أجواء الحدث، حيث اخترنا عشر مواهب سينمائية محلية ومقيمة كان من بينهم عدد من الفائزين في مسابقة الأفلام القصيرة التي نظمناها قبل فترة، وذلك لعرض أفلامهم أمام المختصين والقائمين على المهرجان، وكذلك على عدد من المخرجين الأوروبيين، بالتعاون مع السفارة الألمانية في الإمارات ومعهد جوته الثقافي في الخليج»
وعن الأهداف الأخرى لهذا الحضور الإماراتي في مهرجان حاشد وكبير مثل برلين، قال شيبرد إن هدفنا الآخر والمهم هو الترويج لأبوظبي كعاصمة جديدة لصناعة الأفلام، وكمنصة مثالية لتصوير الأفلام السينمائية، حيث تتوفر في أبوظبي البنية اللوجستية المناسبة والحاضنة لأعمال سينمائية ضخمة، بالتوازي مع ما تملكه أبوظبي من فرص وتسهيلات ومواقع تصوير واستديوهات بالإضافة إلى ما تتفرد به أبوظبي من مكون جغرافي مميز يجمع بين بيئة الصحراء وبيئة البحر، مع وجود المدينة الحديثة والمعاصرة، ما يخلق في النهاية فضاء مريحا، ومزيجا مشجعا لصناع الأفلام من مختلف دول العالم».
نقاشات مع سينمائيين
ومن جانب آخر مواز لقيمة ونوعية هذا التواجد تحدث مجموعة من السينمائيين الإماراتيين والمقيمين لـ«الاتحاد» عن أجواء وانعكاسات مشاركتهم في مهرجان برلين، حيث أشار المخرج الإماراتي الشاب عادل الجابري إلى أن مشاركته لن تقتصر على الحضور فقط في المهرجان من أجل مشاهدة النتاجات السينمائية الجديدة، ولكنه سيتواصل أيضا مع عدد من الجامعات والمعاهد السينمائية المتخصصة، بالإضافة إلى مشاركته في ندوات وجلسات ونقاشات مع سينمائيين شبان من مختلف دول العالم، وكذلك مع المنتجين وصناع الأفلام الألمان، للبحث عن فرص ومنافذ جديدة تتعلق بإنتاج وتمويل وتسويق الأفلام.
وعبر الجابري عن سعادته بهذه المشاركة لأنها سوف تضيف له زخما معرفيا وبصريا مختلفا ومتنوعا، وهذا- كما قال الجابري - ما يحتاجه أي سينمائي شاب حتى يستثمر موهبته ويوجهها في مسار واضح ومضيء منذ البداية، كي يكون قادرا على إنتاج أفلام متماسكة ومعبرة عن خصوصيته وهويته في المستقبل، وبالتالي يمكن لهذا السينمائي الشاب والواعد أن يعزز من حضور السينما الإماراتية في المناسبات والمهرجانات الخارجية.
تفاعل حيوي وحقيقي
ومن جهتها أشارت المخرجة الإماراتية الشابة ريم الفلاحي إلى أهمية التواجد في مهرجان كبير مثل برلين، من حيث الزخم السينمائي الهائل الذي يتميز به المهـرجان، وتوفــره على قدر كبير من التنوع في البرامج والفعاليات المصاحبة، وأكدت الفلاحي أن تخصصها في الإعلام بكلية التقنية بأبوظبي وشغفها بإنتاج الأفلام دفعها إلى البحث عن فرص أكبر وأوسع للتعرف على صناعة وعرض وترويج الأفلام عن قرب، وهو ما تحاول أن تتلمسه وتتواصل معه بشكل تفاعلي وحيوي وحقيقي من خلال تواجدها في برلين.
وأضافت الفلاحي، أن حضور مثل هذه الفعاليات السينمائية الكبرى، يزيد من الرصيد المعرفي والبصري للسينمائي الشاب، ويعزز من الحوار مع الآخر من خلال وسيط بصري عالمي هو السينما.
وما تتضمنه هذه السينما من لغة إنسانية راقية يتشارك الكل في التعبير من خلالها عن هواجسه وأحلامه وذكرياته والقصص التي تحيط به، والتي يتمنى السينمائي الشاب أن ينقلها بحرفية وتمكن إلى الشاشة الفضية».
«سن الأمل»
يرى نزار صفير الذي قام بإخراج فيلم روائي قصير بعنوان «سن الأمل»، وهو فيلم من إنتاج لجنة أبوظبي للأفلام، أن المشاركة في مهرجان برلين تتيح لصانع الفيلم الشاب والهاوي فرصة كبيرة للتعرف على الأجواء الاحترافية وتفاصيل التنظيم الدقيق للبرامج والفعاليات المصاحبة في المهرجانات الكبيرة ومتخصصة. وأوضح صفير أن مشاركته من خلال لجنة أبوظبي للأفلام وفر له فرصة لعرض مشروعه السينمائي أمام المتخصصين في صناعة الفيلم في ألمانيا وأوروبا، ما يجسد قيمة ومغزى السينما عموما وهو إنشاء جسور ثقافية مع الشعوب والحضارات الأخرى، وتأكيد دور الفيلم في الوصول إلى الآخر من خلال لغة فنية سلسة وعالية، ولكنها تحتاج ــ كما أشار صفير ــ للكثير من الشغل الذاتي والبحث والإطلاع على التجارب المتقدمة سينمائيا، وهي شروط لا تتحقق إلا بحضور هذه المهرجانات العريقة، والدخول فعليا في أجوائها والتعرف على صناع الأفلام الآخرين والاستفادة من خبراتهم في هذه المجال.