أكتب هذه الكلمات فور عودتي من باريس بعد اختتام المؤتمر الذي شاركت فيه شخصيات عربية وفرنسية عديدة، أذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر ميشيل دو روزين، السكرتير العام لرابطة الإسلام في القرن الحادي والعشرين، والكاتبة التونسية المعروفة هالة الباجي، وهوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا السابق، وباريزة خياري رئيسة معهد ثقافات الإسلام وعضوة مجلس الشيوخ الفرنسي، وحكيم القروي مؤسس الرابطة الإسلامية للإسلام في فرنسا، وعبد الرحمن بن سليمان السالمي رئيس تحرير مجلة «التفاهم» الصادرة عن سلطنة عمان، الخ.. وقد تمت دعوتي إلى المؤتمر من قبل الدكتور محمد الحداد ومن طرف سيدتين رائعتين هما سابين رينو – سابلونيير، وسيغولين بنجامان.
وقد أشرفتا على حسن سير أعمال المؤتمر بكل براعة واقتدار من البداية حتى النهاية، ولولاهما لما حظينا بكل هذا الاهتمام والرعاية في قلب العاصمة الفرنسية. ولولاهما لما نجح المؤتمر أصلاً، ولا أنسى بالطبع الشاعرة المبدعة لويزة ناظور المسؤولة عن العلاقات مع الصحافة العربية، فهي شاعرة شكلاً ومضموناً!
خصصت الجلسة الأولى للموضوع التالي: الإسلام وحرية الضمير والمعتقد. وقد أدارها الباحث غالب بن شيخ، رئيس مؤسسة إسلام فرنسا. وكان أول المتدخلين فيها الباحث المغربي محمد الصغير جنجار. وهو مدير مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية. ومقرها الدار البيضاء حيث تطل إطلالة رائعة على البحر، ثم تحدثت بعده الباحثة هالة وردي الأستاذة في إحدى الجامعات التونسية. وتحدث بعدها كل من الأستاذ الجامعي الأفريقي يوسف سنغاري، وفريد عبد الكريم. وقدم الكاتب اللبناني أنطوان عساف مداخلة لافتة وشديدة البلاغة والفصاحة في اللغة الفرنسية.
أما الجلسة الثانية، فكانت مخصصة لموضوع: الإسلام والعنف. وقد أدارها البروفيسور جوزيف مايلا أستاذ العلاقات الدولية في الجامعات الفرنسية. وقد ألقى المداخلة الأولى الباحث المعروف رشيد بن زين الأستاذ في إحدى الجامعات الفرنسية والمختص بالدراسات القرآنية والتجديد الإسلامي عموما، ثم تلته مداخلة لكاتب هذه السطور وقد كرست لإيضاح مصطلح واحد: اللاهوت التكفيري أو التكفير اللاهوتي. وكانت المداخلة الثالثة للكاتب والفيلسوف السوري المعروف خلدون النبواني. وهو مختص بالفلسفة الحديثة وبخاصة فلسفة جاك دريدا ويورغين هابرماس. أما المداخلة الرابعة والأخيرة، فكانت من نصيب المؤرخ التونسي رضا تليلي. وفي ختام الجلسة، قدمت السيدة الجزائرية ناديا رمادنا شهادة مؤثرة وقوية فعلاً.
وأما الجلسة الثالثة من اليوم الأول، فقد كرست لموضوع: الإسلام والمساواة، وقد أدارتها الباحثة والطبيبة المغربية أسماء المرابط. وتدخلت فيها السيدة نايلة طبارة مديرة معهد المواطنة وإدارة شؤون التنوع في مؤسسة أديان اللبنانية المعروفة، ثم قدم الباحث المصري المعروف وحيد عبد المجيد مداخلته. ومعلوم أنه مدير مركز البحوث السياسية والاستراتيجية في أعرق جريدة عربية «الأهرام»، ثم تدخلت السيدة سلوى حمروني أستاذة القانون في الجامعة التونسية، وأخيرا تدخل محمد صوير قاسم الباحث في جامعة السوربون. وأخيراً قدمت رزيقة عدناني شهادة خاصة، وهي فيلسوفة ومختصة في العلوم الإسلامية، وعضوة مجلس التوجيه لإسلام فرنسا.
وفي اليوم الثاني والأخير من المؤتمر تدخل طارق أوبرو الإمام الأكبر لجامع بوردو، وهو شخصية دينية وحداثية في آن معاً.. ويا ليت أن كل أئمة الجوامع عندنا من أمثاله علما وثقافة وانفتاحا على الحداثة، كما وتدخل ديدييه ليشي رئيس المعهد الأوروبي لعلوم الأديان. وتدخل أيضاً الفيلسوف التونسي المعروف يوسف الصديق، الخ..
خط ثالث
ماذا فهمنا من كل هذه المداخلات المكثفة التي تتابعت على مدار يومين متتاليين؟ أولا يصعب تلخيصها كلها، ولذلك أعتذر للباحثين الذين لا أستطيع التوقف عند كلامهم الذي لا أقلل من أهميته وجدارته. سوف أتوقف أولا عند المقابلات التي أجريت مع بعض الباحثين على هامش المؤتمر والتي تلخص مواقفهم بشكل جيد. فمثلاً تقول لنا الباحثة المغربية أسماء المرابط بأن هناك خطاً ثالثاً بين الخط التقليدي المتزمت والخط الحداثوي المتطرف على طريقة الغرب. وهذا الخط الثالث يجمع بين الأخلاق الروحانية العالية من جهة، والحداثة الكونية من جهة أخرى. ثم تقول: أنا أتبع هذا الخط الثالث الذي يتيح لي عدم التنكر لمرجعياتي الدينية وهويتي وتاريخي. وفي ذات الوقت فان هذا الخط الثالث يتيح لي أن أعيش إسلاماً مزدهراً ومحرراً من القراءات المتزمتة، ومنفتحاً على كنوز المعرفة البشرية.
من المعلوم أن هذه الباحثة القديرة هي طبيبة ودكتورة في مجال العلوم البيولوجية. كما أنها مناضلة نسائية من أجل حقوق المرأة في المجتمعات الإسلامية وفي المغرب على وجه الخصوص. وكانت قد نشرت عدة كتب كان آخرها كتاب بعنوان: «الإسلام والنساء: الأسئلة المحرجة أو المزعجة». منشورات غاليمار. 2018. وهي ترى أنه ينبغي نقد التأويلات البطريركية عندما يتعلق الأمر بمسألة المرأة في الإسلام. ومعلوم أن البطريركية تعني ذلك النظام من البنى والعلاقات الاجتماعية، حيث يهيمن فيه الرجال على النساء ويقمعوهن، وقد برهنت في ذلك الكتاب اعتمادا على محاجات قرآنية على الشيء التالي: وهو أن عدداً كبيراً من الأسئلة المحرجة أو المزعجة ناتجة ليس عن الدين ذاته، وإنما عن أقوال بعض الفقهاء القدامى وفتاواهم المتخلفة. فهؤلاء فسروا النص الأعظم طبقاً لسياقهم الاجتماعي الثقافي البطريركي ومحدوديتهم العقلية. وقد بلوروا تفسيراً صارماً متشدداً بعيداً جداً عن الرسالة الروحية والأولية للقرآن الكريم. وهكذا قدمت الباحثة المغربية بديلاً عن التفسير التقليدي للدين وذلك بواسطة قراءة إصلاحية وكونية للنص المؤسس، ورأت في القرآن الكريم نصاً ذا أبعاد تحريرية رائعة بالنسبة للمرأة والرجل على حد سواء.
الإصلاح والمصالحة
أما الدكتور محمد الصغير جنجار، فيرى أنه لا يمكن للمسلمين، بعد اليوم أن يتحاشوا القيام بعملية إصلاح ديني ضخم وعميق لتراثاتهم وتصوراتهم الأيديولوجية. فعملية الإصلاح هذه أصبحت ضرورية جدا بغية مصالحة وعيهم الديني مع عصرهم والعالم الحديث الذي يتشاطرونه مع بقية البشرية. وهذا يعني أن المسلمين مدعوون لقراءة نصوصهم التراثية على ضوء عصرهم وإمكانياته المعرفية لا على ضوء العصور الغابرة التي مضت وانقضت والمختلفة كليا عن ظروف عصرنا. ثم يرى هذا الباحث القدير أنه إذا ما تبين وجود تناقض بين ظاهر النص الديني والعقل فإنه ينبغي علينا إعادة تأويل النص لكي يتلاءم مع العقل كما قال ابن رشد قبل 800 سنة أو يزيد، وفيما يخص ظاهرة الراديكالية الدينية والعنف يرى محمد الصغير جنجار أنها أصبحت ظاهرة كونية تخص العالم الإسلامي والعالم الغربي والشرقي في آن معا. وظاهرة التطرف الديني ذات أسباب متعددة من اجتماعية – اقتصادية، وأيديولوجية، ودينية، وجيوبوليتيكية. وينبغي أن نشير أيضا إلى نواقص النظام التربوي وبرامج التعليم المقررة في المدارس والجامعات العربية. فهي تشجع على نمو ظاهرة التطرف التي تحاول الدولة مكافحتها، يضاف إلى ذلك أن التهميش الاجتماعي والفقر المدقع يجعلان الشبيبة لقمة سائغة لدعاة التطرف والإرهاب وشيوخ الظلام. كل هذا يلعب دوره في نمو ظاهرة التطرف الديني التي نعاني منها حاليا.
إعادة صياغة
وأما الدكتور محمد الحداد، فيقول لنا ما معناه: لا ينبغي أن يكون الإسلام رهينة لفترة من الفترات دون سواها، وهذا يعني أنه ينبغي على المسلمين أن يقبلوا بمبدأ التغيّر والتأقلم مع العصور المستجدة، وهذا ما أفضل تسميته بالإصلاح الديني. الرسالة ذاتها أبدية ما دامت مستمرة في إثارة اهتمام الناس العائشين في فترات بعيدة جدا عن الفترة الأولى التأسيسية. وإلا فإن الرسالة تصبح رهينة لفترة غابرة مضت وانقضت. ولكن مشكلتنا اليوم هي أن الكثيرين يخلطون بين المثل العليا للإسلام من جهة، والخصوصيات المرتبطة بمساره التاريخي. بل إن المثل العليا ذاتها تنبغي إعادة صياغتها طبقا للاكتشافات والتحريات البشرية المستجدة. فمثلا المساواة كمثال أعلى تتخذ مدلولات جديدة داخل السياقات التحررية التي نعيشها اليوم. وبالتالي فلا ينبغي أن نخشى من إعادة صياغة المعايير الفقهية والدينية بغية إعادة تحيين المثال الأعلى، ودفعه إلى الأمام أكثر.
ويرى محمد الحداد أنه حصلت منذ القرن التاسع عشر تساؤلات وانفتاحات جديدة في كلا العالمين العربي والإسلامي. وتالياً لا يمكن بعد اليوم خنق حركة التجديد والإصلاح في بلادنا. وهذا يعني أن مواقف المسلمين تتطور حتى لو كان العنف الديني يتفاقم. لماذا يحصل كل هذا العنف؟ لأن بعض الأوساط تشعر بأنها فقدت احتكار الدين لصالحها. ولذلك فهي ترد بواسطة طريق العنف على حركة التحديث التي تتسع أكثر فأكثر في العالم الإسلامي. ينبغي الاهتمام أكثر بالأصوات الجديدة وكذلك الممارسات الجديدة في العالم العربي. صدقوني الحالة أقل جموداً مما نتصور. فمثلاً النساء أصبحن يتدخلن في عملية التفكير المتعلقة بشؤون الإصلاح في الإسلام. وهذا الشيء ستكون له انعكاسات لا يستهان بها.
على الهامش
وفي المحصلة ماذا سأقول عن هذا المؤتمر العتيد؟ سأقول بأنه أتاح لي فرصة الاستماع إلى مداخلات محترمة في أغلبيتها. وقد استفدت كثيراً من المناقشات الجارية على هامش المؤتمر مع بعض المشاركين والمشاركات، وأحيانا تكون المناقشات الجارية خارج الأروقة الرسمية بذات أهمية المناقشات الجارية داخلها إن لم تزد. إن مثل هذه المؤتمرات الكبرى تتيح لك الالتقاء بشخصيات عديدة ما كان ممكنا رؤيتها لولاها. نقول ذلك وبخاصة أن هذا المؤتمر عقد في أكبر مركز ثقافي وحضاري في العالم: اليونيسكو، بل وفي أفخم قاعاتها وأكبرها.
يضاف الى ذلك أن هذا المؤتمر أعادني أربعين سنة الى الوراء. ففي منطقة اليونيسكو وبرج إيفيل بالذات أمضيت السنوات الثلاث الأولى من حياتي في باريس بين عامي 1977 ـ 1979. وبالتالي فلي فيها صولات وجولات، وقد غصّت بي الذكريات. كانت أولى سنوات الانفتاح على عالم جديد كليا، كانت سنوات الدهشة والمفاجأة والاستكشاف: استكشاف الكتب والشوارع والحياة، حيث تسكعت كثيراً وضعت طويلاً ويا ما أحلى الضياع! ولا بأس من التحدث عن المغامرات! ينبغي أن تقذف بنفسك في أحضان التجربة الحرّة أو المرّة لكي تعرف نفسك بنفسك. وحتى لو حصلت أخطاء ومفاجآت مزعجة أو مرعبة فلا بأس. فهذا ثمن الاستكشافات والمغامرات المفتوحة على المجاهيل. أعتقد أنني عشت آنذاك حياة حرة، بوهيمية، انفلاشية أو انفلاتية تشبه انفجار البراكين.. وقد حررتني من ذاتي، من تراكماتي.
أخيراً صرخت في إحدى المجموعات على سبيل المرح والاستفزاز: يا الهي ما أجمل الحياة! أكاد ألتهم الوجود التهاما: الماء والهواء وأشعة الشمس الذهبية في هذه الأيام الربيعية قبل الربيع.. أكاد أطير في السماء..
انفجرت في وجهي إحداهن قائلة: رجاء وفر علينا فذلكاتك سيد هاشم. بصراحة شبعنا منها، انتفخنا، انفلقنا. أصبحنا نحفظ معزوفاتك وألاعيبك عن ظهر قلب. نحن أشخاص بسطاء لا نفهم في الفلسفة والفذلكة..
وهكذا أفحمتني تلك السيدة الحسناء ولم أجد جواباً.