السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المجتهدون

المجتهدون
7 مارس 2019 02:35

بعد مرور أكثر من عقدين على إصدار دار الجديد في بيروت لتجارب سعودية في قصيدة النثر تمثلت في أسماء: غسان الخنيزي في ديوانه «أوهام صغيرة»، وأحمد الملا في ديوانه «خفيف ومائل كنسيان»، وأحمد كتوعة في «كرة صوف لفّت على عجل»، وعلي العمري في «فأس على الرف»، وإبراهيم الحسين في «خشب يتمسّح بالمارة»، ويوسف المحيميد في «لا بد أن أحداً حرّك الكراسة».. طرأت خلال هذين العقدين تحوّلات مسّت من العمق البنية الثقافية والأدبية والفكرية للمجتمع السعودي. وأكاد أجزم أن تلك التحولات من فرط أثرها البالغ على ذهنية الفرد والمجتمع معاً أفضت إلى ما يمكن تسميته مجازاً، فيما يخص الأدب تحديداً، «المرايا المصقولة من الغبار» .

حتى نضع هذه التجارب في سياقها التاريخي؛ كي نستخلص منها ما لم تقله لنا وما قالته أيضاً ينبغي:
أولاً، الوقوف على طبيعة التحولات والوظائف المختلفة التي تولدت عنها.
ثانياً، الكشف عن انعكاس كل ذلك على تصوراتنا الفردية والاجتماعية للأدب والثقافة والإبداع على وجه العموم.
ثم سنرى إلى أي مدى ذهبت الكتابة الشعرية في ادعائها بالحداثة؟ وعلى أي العناصر اتكأت في قولها بذلك؟

مقارنة
لا يمكن رصد التحولات إلا من خلال المقارنة بين مختلف الأجيال في طريقة تلقيها للأدب، والشعر على وجه الخصوص، وأثر ثقافتها وتربيتها وظرفها الاجتماعي على ذلك التلقي. وإذا جاز لنا أن نستخدم مفهوم «التجييل» كتحليل إجرائي فإننا نقول: الذين كان خيارهم الانحياز إلى الحداثة من جيل التسعينيات ـ وليس جميعهم ـ كان الشكل الشعري المتمثل بـ(قصيدة النثر) هو المثال الأسطع على هذا الانحياز، باعتبار هذا المثال تقليداً ترحّل من جيل الثمانينيات إلى ما بعده من جهة، وتقليداً آخر جرى ربطه بمقولات الحداثة الشعرية على مستوى الوطن العربي من جهة أخرى، رغم اختلافهما في درجة الانحياز وطبيعته.
والسؤال هنا: ما الشرط الثقافي الذي من خلاله تم استيعاب القصيدة الحديثة، ومن ثم ممارستها عند هؤلاء باعتبارها ممارسة في نظر المجالين الثقافي والاجتماعي تشير إلى عنوان كبير هو الحداثة؟
وما نعنيه بالشرط الثقافي هو مجمل الأسباب التي تجعل هذا المبدع أو غيره ينحاز إلى هذا الشكل الشعري أو ذاك، وكما أظن أن مجمل هذه الأسباب ثقافية بالدرجة الأولى.
وعليه أزعم أن مفهوم التحرر، على سبيل المثال، الذي اكتسب أهميته من خلال ارتباطه الوثيق بالحركات التقدمية في العالم العربي أصبح العامل الأكثر تأثيراً على فكرة التحديث السياسي والاجتماعي والثقافي في عموم الشام والعراق. لكنه حين تسلل إلى ثقافتنا المحلية، فإنه أكثر ما كان ارتباطه قد جاء على مستوى النص الأدبي تحت مسمى مفهوم الحرية الإبداعية الذاتية، وثمة بون شاسع بين مفهوم الحرية والتحرر، حيث يعكس كليهما طبيعة البيئة الثقافية والاجتماعية لحظة تلقي المفهومين. فالحرية هنا سرد ذاتي في حدود النص بينما التحرر هناك سرد التجربة الاجتماعية في حدود المفهوم.
لقد كان الرهان على القصيدة الحديثة والمغامرة في كتابتها يحقق شرط الحرية ويعطيها معناها العام في الوعي الشعري عند كتابها، ومما ساعد على تكريس المعنى هو خلو الكتابة من إكراهات التجنيس والسلطة والتوظيف. الأمر الذي حصرها بالهامش مقارنة بالأشكال الأخرى من الكتابة. لذلك كانت تجاربهم بقدر ما كانت ترصد وعيهم الذاتي وإحساسهم الجمالي بما توفره لهم اللغة من إمكانات هائلة في الكتابة بقدر ما كانوا يغذونها باللقاءات الخاصة من جانب، وبالبحث عن مرجعيات تخص عالم الكتب والمكتبات من جانب آخر، وكلا الجانبين في فترة التسعينيات من الصعوبة بمكان بحيث من أراد البحث عن سردية تفاصيل تلك الصعوبة، سيجدها في محدودية انتشار الكتاب أو التضييق عليه أو منعه، سيجدها في انعدام وسائل التواصل وانحسار العلاقات الثقافية على المستوى الأفقي التي توفرها تلك الوسائل، سيجدها أيضا في غياب الصلة بين تلك التجارب ومتلقيها ثقافياً وجمالياً على المستوى الشعبي، وهو غياب مؤثر بالتأكيد على كلا الجانبين. يضاف إلى كل ذلك موقع الثقافة والأدب بالنسبة للمؤسسات الرسمية التي لا تتوافق والوعي بالنص الشعري الحديث.

رؤية
لكننا عندما ننتقل بالمقارنة إلى جيل ما بعد الألفين، فإن مفهوم التلقي للنص الشعري لم يخضع كما في الجيل السابق إلى قيود تتنازع ذاته بين وعيه الكتابي من جهة وبين حياته الاجتماعية وتقاليدها من جهة أخرى.
أكاد أزعم أن انحسار مثل هذا التنازع لم يكن سببه عوامل ذاتية بل موضوعية بالدرجة الأولى، تتعلق أساسا بجملة التطورات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي طرأت على بنية التواصل العالمي، ثم تالياً تبني المملكة لرؤيتها الاستراتيجية 2030 وأثرها الواضح على الثقافة والمجتمع بشكل عام.
قد يعترض البعض هنا على ربط النص الشعري بعوامل لا تمت إلى طبيعته بصلة، من قبيل السياسي والاجتماعي والثقافي، وبالتالي على رصد حركته ووعيه لدى كتابه ومبدعيه. اعتراض لا يخلو من وجاهة إذا ما أردنا تجسيد مقولة الدرس النقدي أن البحث عن حياة النص وسماته وتقلباته بين الأجيال لا ينبغي له أن يخرج عن سلطة النوع إلى ما عداه من عوامل أخرى. لكننا هنا في هذا الموقف أكثر ما يخصنا هو تتبع «السمات الدنيوية للنص» على حد تعبير ادوارد سعيد.
قد تكون طبيعة المرحلة الراهنة حررت الكتابة الحديثة من قيود كانت تكبلها من قبيل ما عايشته تجارب التسعينيات كما فصلنا سابقا، ودفعت بالتالي العلاقة بينها وبين كاتبها إلى أن تكون علاقة جموع وليس أفراد. أي أن انفتاح المجتمع والثقافة على التواصل الأفقي بفعل التطور الهائل في العالم الشبكي والرقمي، مكّن المبدع من بناء تصور للكتابة وتلقيها يختلف كلية عن سابقاتها:
أولاً، من حيث كونها مصدراً للتعبير عن ذات ترى إلى نفسها في سياق ثقافي إبداعي مشترك بين ذوات أخرى، وأنها قادرة على خلق نص يرفده كل ما هو متاح بسهولة مطلقة من المؤثرات البصرية والفنية والأسلوبية.
ثانياً، من حيث كونها لا تنهض سوى على التجاور، فالكتابة لا تنمو داخل قلاع معزولة كما سابقاتها، بل في فضاء مفتوح منابعه وروافده متعددة ومتشعبة لم تكن متوافرة كما هي عليها الآن في هذه المرحلة.
كل ذلك أدى فيما أدى إليه إلى وعي مشترك بالكتابة الشعرية الحديثة وفتح الباب بالتالي على غياب مفهوم الخصوصية وحضور النمطية في التصور للشعر قبل كتابته.
وهذا ليس حكماً مطلقاً ولا يقينياً، وإنما هي مجرد تأملات عامة في ظواهر متداخلة بين ما هو أدبي واجتماعي وثقافي وسياسي، تتطلب الأسئلة الجادة والرؤية المنهجية المتميزة.
بيد أن الخلاصة التي نخرج بها انطلاقاً من هذه المقارنة، هو أن تجارب التسعينيات حين أصدرت تجاربها من دار الجدي، كان ينظر إليها في حينها ضمن إطار الجماعة، ليس بسبب الشكل الذي تبنوه في الكتابة فقط ،وإنما يمتد السبب أيضاً إلى الموقف من الحياة والعالم والكتابة. لكن في واقع الأمر لم يفض مفهوم الجماعة إلى غياب الخصوصية في الشكل والأسلوب، بل كان التمايز هو سمة تميز هذه التجربة عن تلك، وسنجد في المقاربة التالية لتجربة الشاعر غسان الخنيزي بعض هذه الخصوصية.

 (1)
بهدوء الواثق يتسلل الشعر إلى قصيدة الشاعر غسان الخنيزي، وكأنه يعلم أن ثمة كلمات تنتظره على العتبات وعند الدرج وفي الصالة أو بين الممرات، تنتظر عسل المخيلة المملوء به جراره، تنتظر ما يفيض عليها به إلى آخر قطرة من طعمه الشهي.
ثم لا يبقى انتظار بعدها ولا قبلها، الامتلاء هو وحده الذي يتردد بينهما، هو ما تقوله القصيدة وما لا تقوله في نفس الوقت، هو ما لا تراه أثناء اليقظة، وما تراه أثناء الوهم.
خيط العسل الشفيف الذي يتركه الشعر خلفه لا يرى من فرط لمعانه، ولا يترك له أثرا على التراب من فرط صفائه. يدخل الشعر ويخرج من قصيدته كأنه يدخل صومعته اليومية، حيث يتوحد فيها مع نفسه ويناجيها بصوت خافت، لا يسمع فيها سوى نفسه، هو الداخل الخارج والخارج الداخل من غير تمايز أو تفارق.
وكأني بغسان ماسكاً بيد قصيدته، وباليد الأخرى رافعا قبعة التخفي راميا بها فوق رأسه، مغطيا بها جزءا من ملامح وجهه؛ كي لا يقال: هذا هو الشاعر، وهذي هي قصيدته. تماما كما لو أن الشعر لا يريد الكشف عن هويته، لا يريد الكشف عن جوهره الغامض إذا ما جاءت القصيدة سافرة عن نفسها، معلنة عن حضورها بقوة أمامه.
طقوس الحضور والغياب أمام الشعر، قصيدة غسان تجيدها أتم الإجادة. مواقيت المناجاة وأماكنها أيضا من خصائص قصيدته.
لذلك هذا الهدوء الواثق هو الوشيجة الكبرى التي تصل شخصية غسان بقصيدته، وشيجة تفاعل في أغلب الأحيان وليست تطابقاً، وشيجة تسم القصيدة بميسمها، فتنتج خصوصيتها في إطار ما يكتب، وفي إطار ما يراه وما يحسه، وما يلمسه وما يفكر به، كل ذلك في حدود حياته الخاصة وتقاطعاتها مع حياة الآخرين والعالم.
قصيدة غسان لا تتقن الصراخ، ولم تجرب بوقاً في شد انتباه الكلمات إليها. كل ما تتقنه هو أنها تستخدم كل طريقة من شأنها أن تحفز المخيلة على القول، ومن ثم التحليق بها إلى قدر ممكن في الفضاء: تستحضر الجمال، الموسيقى، الرائحة، المكان المأهول بروح الأسلاف، الجسد، التوحد في النظرة إلى الحب والطبيعة، التوق إلى القصيّ والبعيد، إلى ما خلف الأشياء من طاقة وغموض. وقصيدته فيما تختبر نفسها، لا تقترح، أنها فقط تصف روح الإحساس الخارج من العمق معتمدة في ذلك على السرد وتقنياته المتعددة. هكذا هو غسان وهكذا هي قصيدته.

(طيران..
في الصبح بيني وبينك نومة، أو محيط أطلسي، فيه مدن وأفعال ومراكب وسهوب وغدران وأناس صغار. كنا نورسين أو غيمتين، حين سقطت مياه من سماء غرفتك ومن وجهك، وصارت تنساب في الزوايا والمخلوقات الصغيرة احتمت بالتضاريس وبالشراشف من سيول وزوابع ، لا ترى بالعين، عصفت بالنيكروبات، وبالعثة التي في الأثاث.
كان لا بد من روحك الشقوفة عليهم، كان لا بد من مسرب لكل ذلك، كجارور أو إناء معدني، كان حرياً أن تستحمي بتلك المياه. ارفعي جسدك قليلاً لينفرد شعرك على البلاط، كان حريا أن أكون نورساً ويكون ظهرك غيمة بيضاء).

(2)
وإذا كانت قصيدته في «اختبار الحاسة أو مجمل السرد» لا تضع الجسد قبالة العالم كمجس لتصل من خلاله إلى القصي من جماليات الأشياء فقط، بل وهي تنوس في هذا الفضاء، تجد نفسها إزاء الكلمات في قلق دائم، قلق الشفيف الذي يقلب بصره على نار هادئة، حتى كاد أن يفوته السرب. «في الحقل أو في غياب الحقل» (ص60) «ما كان لذلك الباب أن يفتح كاملاً ولا أن يغلق» (ص93).
وإذا كانت هذه القصيدة أيضا لا ترى في الأوهام سوى رؤية يتحقق من خلالها حلم اللغة الشعرية كي تصبح متوحشة وفطرية «حيث تتواجد الأوهام أتواجد»، أو «سأفصح عن لغة توائم وهما أكثر إيغالا في الفطرة والتوحش» (ص71). فإن قصيدته «أوهام صغيرة» لا تفصح عن هذه الرؤية إلى الأوهام بوصفها حلما قابلا للتحقق، بالقدر الذي يتحول فيه من خلالها إلى عين راصدة مشغولة بنفسها عمن سواها، مشغولة بالأمكنة والأمهات والجدات والأب والأخ واصطياد الأخيلة والعودة للطفولة واستحضار الطقوس.
وهذا الانشغال في مجمله يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعنى الذي تعطيه قصيدة غسان في «أوهام صغيرة» للشعر، وقد ألمح العنوان إلى هذا المعنى بطرف خفي «أو التي تراود الموهوم في الحمى» وكأن الهذيان الصادر من مريض الحمى هو لغة الشعر في فطرتها وتوحشها.
وكأن الشاعر هو المريض الدائم بالحمى. وهكذا تصور إلى الشعر والشاعر يحيل إلى نظرة لا تنفك تأخذ من التصوف فكرة الانفلات من إسار اللحظة من جهة، وتأخذ من تفاصيل الحياة فكرة الإصغاء إلى الشيء وضده في نفس الوقت، من جهة أخرى. وكلا الجهتين يكونان الخيط الذي يشد شعرية القصيدة إلى نفسها، ويعطيها الخصوصية التي ارتبطت بتجربة غسان بشكل عام، وأكثر ما يتضح ذلك في نص «روح شاردة» ونص «الآخر في سباته»: «سيضيء أنصاف الوجوه، كما أضاء سبعون قمراً ليالي دفننا، لنرى إلى النباتات من الشق، تكبر رعباً أو هناء»، أو «كما هي بئر وردناها بعمق، لحظة النعيم، ولحظة الهاوية من الحياة»، أو «وأي جهة تختارين ترينهما واحدا خلف الآخر، لم يكن لهما أن يختلطا ولا أن يفترقا، كما لم تتمازج حيواتنا أو تفترق».
بيد أن هذه الخصوصية أيضا أفرزت فكرة الوهم باعتبارها رؤية إلى الحياة حينما يتأمل الشاعر عالمه عن قرب، وكأنما الفكرة نفسها تطابق الموقف من الكتابة أو تتولد عنها بطريقة أو بأخرى، فالقصيدة عند غسان في عمقها إحساس طاغ بتحويل الوهم إلى حقيقة بحيث ترتبط بشبكة من الدلالات والمعاني داخل القصيدة. «وهمي الأكثر حدة، عطاياه مثله تنبئ عن وسائد، عليها نحصي النجوم»، أو «بين أيديهم، ما يوائم استواء الليل، ووهم قديم، في النوافذ المسدلة، قد أودعوه»، أو «أنا صندوق قديم يكتظ بالأوهام، وحيد كمعبر بين أشجار ذاوية».
إن هذا التنوع في الدلالة يعكس الهاجس المحفز على الكتابة عند غسان، فسر الكلمة (أوهام) لا تكمن فقط في تعدد شبكة معانيها في قصيدته، والتي هي ليست سوى نتيجة لسبب، بقدر ما تكمن في الارتباط الوثيق بالمرجعيات الثقافية والتربوية الاجتماعية والأدبية الفكرية التي اتسمت بها حياة غسان في سياقها العام.
تلك المرجعيات لا تعني بالنهاية سوى المواقف والتصورات والرؤى إزاء الحياة والعالم والنص واللغة التي يتخذها الشاعر، وغسان في أشد حالاته فرحا أو ألما، تذكراً للماضي أو وصفاً للحاضر لا ينفك يحيل دائماً على تلك التصورات والرؤى والمواقف، فأنت لا تستطيع إلا أن ترى هذا الأثر بارزا في قصيدته، وحتى في اختياراته في الترجمة ثمة ما يشي بهذا الأثر لكننا لسنا هنا في الوقوف على تفاصيله.
خلاصة ما أود الإشارة إليه في هذه المقاربة للتجربة هو قدرة قصيدة غسان على أن ترينا العالم بأكثر الكلمات خصوصية في حياته، وأقلها صخبا. قدرتها على أن تقول ما لا يسعها أن تقول عند غيره. وهي فيما تشير إلى حياته بإشارة غامضة في أغلب الأحيان، فإنها تجسد لنا جميعا كقراء:
كيف تكون الكتابة الشعرية الحديثة طريقة حضور لكل ما هو متناهي الصغر في حياة الإنسان، المحسوس منه وغير المحسوس، العابر أو المستقر منه في العمق من الروح؟!

ضياعُ النظرة في يوم غائم
شعر: غسان الخنيزي

المشوارُ الذي آخذه كلَّ يوم
لحظةَ ترين ضياعَ نظرتي
أكون هارباً من غيابهم المزمن
لأنهم يموتون كلَّ لحظة تَـذَكـُّر
ويلطّخُـني توجعهم، وأنينهم، وضيق نفسهم، وغيبوبتهم
ولأنكِ تنظرين حينها بحنانٍ، وتطيلينَ النظر إلى النقش البارز
لريحٍ
ووردةٍ
وطائر
في النقش الذي هو المنظر الطبيعي الغائم الذي يستيقظون فيه
لأنهم في الأصلِ، غيوم في الذاكرة.
وفي هروبي،
يكون موضعُ النظر هو الحنان الناجم عن وصف الصورة
التي هي بدورها وصفُ حواسِّـنا
لريحٍ
ووردةٍ
وطائر
يخترقون سنواتٍ لا نحصي عددها، تجعلهم كالمنظر الباهت، ليومٍ غائمٍ، يضيع في النظرة الموجهة إليه
لأنني عندما أحييهم في الذاكرة فإنهم يموتون أيضاً
وينتهون، غيوماً في غيوم، مكررين مشهد الموت ذاته
ويتجولون، أمواتاً، ميتين، في كل دعوة نهارية، وكل صلاة نافلة.
ضياعُ النظرة هو المنظر الطبيعي ضائعاً في الهدوءٍ
وانعدام الصوت الذي تكـوُنُهُ:
الريحُ
والوردةُ
والطائر
الذين يكوِّنون المنظر الطبيعي الغائم.
أيها الغيم الأسود،
وأنت تذرع أماكننا،
خذْهمْ معك
ادفع بهم معك، حقاً، وليكن غياباً لا رجعةَ منه،
ولا أثرَ لذكرى،
وخذ، أيها الغيم، المنظرَ الطبيعي للذكرى نفسها: الريح والوردة والطائر.
ضياعُ نظرتي هو المنظر الطبيعي ذاته.

محمد الحرز
كاتب سعودي

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©