الجزائر- حسين محمد:
تسبب قرار وزارة التربية الجزائرية بإلغاء شعبة العلوم الإسلامية من التعليم الثانوي في أزمة حقيقية في الجامعات الإسلامية الخمس والكثير من ثانويات الوطن منذ نحو شهرين، وقد بلغت في الأيام الأخيرة مرحلة لم يعد معها الحل الوسط ممكنا، بعد أن شرعت الوصاية في متابعة الطلبة المحتجين قضائيا وهددتهم بالطرد من الدراسة بينما صعد هؤلاء من إحتجاجهم وأعلنوا رفض أي حوار مع الوزارة ما لم تتراجع عن قرارها وهددوا بالخروج إلى الشارع وتنظيم مسيرات ومظاهرات، مما يعني أن الطرفين قد دخلا في لعبة حقيقية ل' عض الأصابع' فمن من الطرفين سيصرخ من الألم وينزل عند إرادة الطرف الآخر؟
بداية الأزمة
في شهر مارس الماضي ، تلقت مديريات التربية ال(48) بالجزائر، مراسلة من وزارة التربية تحمل عنوان 'مشروع إعادة تنظيم التعليم الثانوي ' في إطار مواصلة 'الإصلاحات التربوية' التي شرعت فيها منذ سبتمبر 2003 ، وحينما قرأ مديرو التربية نص المشروع فوجىء أغلبهم بمضمونه ؛ فهو ينص على إلغاء شعبة العلوم الإسلامية من التعليم الثانوي تماما إبتداء من سبتمبر القادم؛ وكذا إلغاء مادة التربية الإسلامية من إمتحانات البكالوريا وتخفيض ساعات تدريسها إلى ساعة واحدة فقط أسبوعيا في التعليمين الإبتدائي والمتوسط ·ولأن أغلب مديري التربية من ذوي الإتجاه الوطني المحافظ أو الإسلامي، فقد نزلت عليهم قرارات وزارة التربية كالصاعقة وسربوا الخبر للصحف الوطنية التي تحمل نفس الإتجاه الإيديولوجي، فقامت بنشر الخبر متبوعا بحملة إعلامية قوية ضد وزير التربية أبو بكر بن بوزيد، وسرعان ما بلغ الخبر أساتذة وطلبة شعبة العلوم الإسلامية في الثانويات وفي الجامعات الإسلامية الخمس التي تتوفر عليها الجزائر، فثارت ثائرتهم وأقيمت الدنيا ولم تقعد على الوزير بن بوزيد الذي اتهمه هؤلاء بالشروع في تنفيذ مشروع تغريبي واسع يستهدف سلخ الأجيال المقبلة من هويتها وجذورها الحضارية وتجهيلها بدينها مما سيؤدي حتما إلى إحدى نتيجتين؛ إما سقوطها في براثن الميوعة والإبتذال والإنسلاخ عن هويتها الإسلامية العربية وإما أن تتلقى 'تعليما دينيا' سقيما من جهات غير رسمية فتسقط فريسة للغلو والشطط وتتكرر الأزمة التي لم تخرج منها الجزائر بعد والتي ساهمت الفتاوى الخاطئة والمتطرفة في تغذيتها وتعفينها·
وبدأ أساتذة الشعبة في الثانوي وطلبتها في الجامعات ينظمون صفوفهم ويوجهون النداء تلو الآخر للوزير بن بوزيد لإلغاء قراراته وتعزيز تدريس التربية الإسلامية في كل الأطوار التعليمية لتلقين التلاميذ والطلبة الإسلام الصحيح المتسامح الذي ينأى بهم عن كل غلو أو تعصب·
ضغط الطلبة
حينما إشتد ضغط الطلبة والأساتذة والصحف على وزير التربية، قرر الخروج عن صمته وتقديم 'توضيحات' لإمتصاص الغضب وتهدئة الأوضاع، فقال إنه اتخذ قراراته تلك' إنسجاما مع سوق العمل' التي لم تعد تتسع لخريجي كليات الشريعة بإعتبار أن قطاعي التعليم والشؤون الدينية يشهدان 'تخمة' ولم يعودا قادرين على إستيعاب المزيد من المتخرجين في السنوات الأخيرة مما فاقم نسبة البطالة في صفوفهم، ولذلك لم يعد هناك مناص من إلغاء هذا التخصص لا سيما وأن 'الإصلاحات 'التربوية الجديدة تركز على التخصصات ذات النجاعة والمردودية ·
وكان بن بوزيد ينتظر أن تساهم 'توضيحاته' في تهدئة الوضع ، بيد أنها زادته تأججا وإحتقانا وفهم منه الطلبة أنه يمهد لإلغاء الجامعات الإسلامية الخمس في السنوات القادمة بنفس الذريعة؛ أي 'عدم الإستجابة لسوق العمل' ، فازداد الغضب الطلابي وبدأت تنظيماتهم تلوح بالمرور إلى 'الفعل' وتجاوز مرحلة البيانات والتصريحات، ولما لم تكترث الوزارة بتهديدهم، شرع طلبة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، منذ منتصف شهر مايو، في تنظيم إعتصام داخل الجامعة وإضراب عن الدراسة ومقاطعة الإمتحانات ، ثم امتد اللهيب إلى جامعة العلوم الإسلامية بالخروبة بالجزائر العاصمة التي بدأ طلبتها إجراءات مماثلة منذ أيام ، وقد حاول مستشار بن بوزيد ثني طلبة قسنطينة عن إعتصامهم إلا أنه فشل في وساطته لإصرار الطلبة على إلغاء قرارات بن بوزيد جملة وتفصيلا·
تهدئة الأوضاع:
بعد أن بلغ الإحتقان أوجه، حاول الوزير بن بوزيد مجددا تهدئة الأوضاع فنزل إلى الإذاعة الجزائرية وصرح بأنه لايستهدف تخصص الشريعة الإسلامية بل إن كل ما قام به هوإلغاء 'التخصص المبكر' في الشعبة و'تأجيله' إلى الجامعة وأضاف أن الإلغاء مس 8 تخصصات من مجموع 14 تخصصا كانت موجودة بالتعليم الثانوي لسنوات ولم تؤت أكلها مما تطلب التراجع عنها في إطار مشروع 'إصلاح' المنظومة التربوية·
ومع أن بن بوزيد تراجع عن تصريحاته السابقة المتعلقة ب'سوق العمل' وكان أكثر مرونة هذه المرة ، إلا أن العاصفة لم تهدأ ورفض الطلبة المقارنة بين شعبة حساسة كالعلوم الإسلامية وشعب 'تقنية' أخرى،بل إن الغضب الطلابي زاد تأججا حينما قام بعض مديري التربية بتسريب نص الوثيقة التي بعثها إليهم وزير التربية في مارس الماضي؛ إذ ورد في الصفحة 41 من الوثيقة تبرير إلغاء الشعبة ، ويقول التبرير:'إن أطفالنا يتلقون مبادىء دينهم تلقائيا في الوسط العائلي والمحيط اليومي والوسط الإجتماعي فيتزودون بالعقيدة الإسلامية والمبادىء الروحية والإنتماء الموروث لأن الجزائر بلد مسلم والحضارة الإسلامية لاتحتاج إلى برهان'؟
وقد أثارهذا التبرير الوزاري نقمة وسخطا واسعين،فإمتدت رقعة الغضب على بن بوزيد لتشمل عددا من الأحزاب والجمعيات والشخصيات الوطنية والدينية والفكرية وأئمة المساجد ، وكثرت البيانات المنددة بقرارات الوزير وتعززت صفوف الطلبة والأساتذة بالمزيد من المؤيدين، وبلغ الإستياء إلى صفوف أحزاب من التحالف الحكومي ومؤسسات رسمية، حيث إنتقد نواب حركة مجتمع السلم وبعض نواب جبهة التحرير قرارات وزير التربية واستغلوا فرصة عرض حصيلة الحكومة بين 22 و25 مايو لتوجيه إنتقادات لاذعة له، ودخل 'المجلس الإسلامي الأعلى' وهو هيئة إستشارية رسمية على الخط فوجه بدوره نقدا شديدا لإبن بوزيد ودخل مع الوزارة في ملاسنات حادة، كما اشتدت الهجمة الإعلامية على الوزير وسخرت صحف من اطروحة تلقي الطفل ل' العلوم الإسلامية' من 'الوسط العائلي والإجتماعي' وتساءل بعضها بإستغراب: متى كان الشارع الذي يسميه بن بوزيد ب'الوسط الإجتماعي' أستاذا ممتازا يلقن التربية الإسلامية الصحيحة للتلاميذ؟
أويحيى ينجد بن بوزيد:
شعررئيس الحكومة أحمد أويحيى أن الوزير الذي ينتمي لتشكيلته السياسية الحاكمة(التجمع الوطني الديمقراطي) بات منهكا من هذه الأزمة، فقرر دخول المعركة بنفسه ومطالبةالمحتجين،ضمنيا، بالكف عن إستهداف بن بوزيد وتوجيه الحملة إليه، فقال بمناسبة عرض حصيلة حكومته يوم 22 مايو إن قرار إلغاء شعبة الشريعة أتخذ لأنه 'لا ينسجم مع سوق العمل' ولا يمكن لأية 'مناورة' الوقوف في طريق 'الإصلاح التربوي'·
وبعد ثلاثة أيام رد أويحيى على الإنتقادات الحادة لنواب المعارضة ونواب الحزبين الحليفين له في الحكومة ، بصرامة كبيرة وقال إن القرار لا يعود لإبن بوزيد بل هو قرار الدولة الجزائرية ولا تراجع عنه ولن يتم التسامح أكثر مع الإحتجاجات ، والطلبة والأساتذة الذين يواصلون إحتجاجهم سيطردون ويتابعون قضائيا·
وقد تم بالفعل تحريك دعوى قضائية مؤخرا بقسنطينة ضد الطلبة المعتصمين، كما هدد طلبة بالخروبة بإجراءات مماثلة إن لم ينهوا إعتصامهم وإضرابهم عن الدراسة ويقبلوا قرارات الوصاية·
بيد أن تهديد رئيس الحكومة وبداية الضغط المعاكس على الطلبة لم يكن لهما أثر على الحركة الإحتجاجية؛ حيث توعدوا بالمزيد من التصعيد وتقدم طلبة قسنطينة للإدارة بطلب رخصة لتنظيم مسيرات تجوب شوارع المدينة وهددوا بالسير عنوة والتظاهر إذا رفضت الإدارة طلبهم، كما شرع الطلبة في حملة لجمع التوقيعات وإرسالها إلى رئيس الجمهورية تناشده التدخل لإلغاء القرار·
عض الأصابع
الواضح أن الطلبة المحتجين والوصاية قد دخلوا لعبة 'عض الأصابع' التي لابد أن تنتهي بصراخ أحد الطرفين والنزول عند
إرادة الطرف الآخر· فمن يغلبه الألم ويصرخ راميا المنشفة؟ الطلبة يتوعدون بمواصلة إحتجاجاتهم مهما كان الثمن لأنهم سيتخرجون بعد سنوات قليلة فلا يجدون شعبة في الثانويات تسمى العلوم الإسلامية يدرسونها لطلبتها؛ وبالتالي المسألة عندهم مصيرية وتعني العمل أو الضياع الحتمي ، أما بن بوزيد فيوصف في الجزائر بأنه'الوزير الذي لا يذهب بذهاب الحكومات' وهو يقبع في هذا المنصب منذ بداية التسعينيات بسبب نفوذه بحسب بعض المصادر، وبالتالي من المستبعد ذهابه وتقديمه ككبش فداء لإنهاء الأزمة ،ثم إن القرار يعود فعلا لرئيس الحكومة وليس لابن بوزيد وقد إستهدف أويحيى خريجي الشريعة منذ سنوات حينما أصدر قرارا بحرمانهم من دخول مسابقات القضاء بذريعة ترك السلك لخريجي كلية القانون وحدهم بينما كان في الواقع يستهدف' تطهير' سلك العدالة من الإسلاميين، والآن يقوم أويحيى بمواصلة المهمة ضد هؤلاء بالقرارات السابق ذكرها ومن المستبعد تراجعه عنها لأنها تعد مسألة مصيرية بالنسبة له هو الآخر في صراعه المتواصل مع الإسلاميين منذ سنوات عديدة كما هو معروف·
وإزاء هذا الإنسداد ، يأمل الإسلاميون أن يتدخل رئيس الجمهورية مجددا ويحسم المسألة لصالحهم كما فعل مع قانون الأسرة الجديد في مارس الماضي؛ فقد أقيمت الدنيا آنذاك ولم تقعد على مشروع القانون الذي تقدم به أويحيى والذي ينص على إلغاء شرط الولي في زواج البكر، وأثناء إنعقاد مجلس الوزراء فاجأ الرئيس بوتفليقة كل المتتبعين بإلغاء إقتراح أويحيى وتثبيت شرط الولي، وهو ما استقبله الإسلاميون آنذاك بإرتياح عظيم، وهم ويأملون الآن بأن يكررها الرئيس بوتفليقة مجددا مع قرارات بن بوزيد- أويحيى · فهل يفعلها الرئيس؟ أم يترك الوضع على حاله لإحداث نوع من 'التوازن'بين الإسلاميين والعلمانيين؟