الإثنين 21 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 36 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عيون النرجس

عيون النرجس
15 ابريل 2009 23:33
كانت حفاوة الشعراء بزهرة النرجس بالغة، وساعدهم رسمها الدائري المنقَّط على ربطها بالعيون، فتفننوا في التمثيل الجمالي والحيوي لها، لكنني لا أعرف إن كان «نارثيس» اليوناني، الذي تنسب إليه أسطورة الافتنان بالذات والتحديق في الماء لتأمل جماله حتى الانكباب والغرق فيه له علاقة بتسمية هذه الزهرة العربية أولا، وليس في الشعر العربي المتقدم ـ على ما أعرف ـ ما يشير إلى هذه «النرجسية» الأنانية البعيدة نسبيا عن مزاج الغزل العربي، فليس هناك شاعر تنطبق عليه سوى عمر بن أبي ربيعة الذي أخذ عليه الدلال والتغزل بالنفس، بينما كان البقية يتفانون في خدمة المحبوب ويعتزون بمذلتهم في عشقه. يقول «جنان المشرق» ابن المعتز في النرجس: وعُجْنَا إلى الروض الذي طلّه الندى وللصبح في ثوب الظلام حريقُ كأن عيون النرجس الغضِّ بينه مداهن دُرّ حشوهن عقيقُ إذا بَلَّهُنَّ القطرُ خلتَ دموعها بكاء جفون كحلهن خَلُوقُ وأعجب ما فى هذه القطعة تركيب الاستعارات، فالصبح ينشب في ثوب الليل كالحريق، ولابد أن شاعر الأطلال إبراهيم ناجي قد اخترق في لاشعوره هذه الصورة حتى قال «وإذا الفجر مُطلٌّ كالحريق». كما يعمد ابن المعتز إلى صوره المترفة التي ضجّ من بذخها الشعراء الآخرون، حيث يصبح النرجس «مداهن دُرٍّ حشوهن عقيق»، ثم لا يكتفي بذلك بل يصير على اعتبار النرجس عيونا حقيقية، فإذ بَلَّهُن قطر الندى تخيلت أنها عيون مكحلة سالت منها الدموع العطرة. وهكذا تبلغ أنسنة النرجس مداها في رؤية ابن المعتز، لكن ابن الرومي يمضي على طريقته الجدلية المنطقية فيصير على المفاضلة بين الأزهار، مقيما الحجة على سبق النرجس وتقدمه على الورد في قوله: للنرجـس الفضل المبين لأنه زهر ونَوْرُ وهو نبت واحد هذه النجوم هي التي ربّتهما بحيا السحاب كما يُربَّي الوالدُ تحكي مصابيح السماء وتارة تحكي مصابيح الوجوه تُراصِدُ فانظر إلى الولدين من أوفاهما شبها بوالده فذاك الماجدُ أين الخدود من العيون نفاسة ورئاسة لولا القياس الفاسدُ وقد روي البيت الأول بثلاث روايات؛ إحداها ما أوردناه، والثانية ما جاء في «زهر الآداب»: للنرجس الفضل المبين إذا بدا بين الرياض طريفه والتالدُ والثالثة في «حلبة الكميت» وتقول: للنرجس الفضل المبين وإن أبى آبٍ وحاد عن الطريقة حائد والفرق بين هذه الروايات هو أن المصنفين المختلفين كانوا أيضا من الشعراء والنظامين فإذا خانتهم الذاكرة ولم تسعفهم المذكرة ابتكروا كلمات على الروي والقافية، لكن ما يعنينا في أبيات ابن الرومي هو انصرافه إلى الحجاج المنطقي العقلاني، فالنجوم هي التي ربّت الورد والنرجس، لكن الأخير هو الأفضل لأنه هو الذي يشبهها، فأفضل الأولاد ما أشبه أباه، ثم يربط النرجس بالعين والورد بالخد، ولا سبيل إلى إنكار أهمية العين وتقدمها على الخد في النفاسة والرئاسة وبهذا يستوفي ابن الرومى خطه من الحجاج بقدر ما ينتقص من جمال الصورة الشعرية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض