10 مارس 2010 21:48
على امتداد سنوات طويلة حاول العرب اكتشاف ذواتهم بطرق مختلفة، مجربين كلّ جديد قادم من بعيد، معلّقين آمالا كبيرة على الفنّ جاعلين منه سبيلا إلى التحرّر والانعتاق، فأقبلوا على الاشتراكية بحماسة تفوق كلّ ما سبقها لأن المذاهب الحداثية السّالفة كانت تنذر بتشويه الطابع القومي وتوحي بالحياد عن الهويّة. إن الواقعية الاشتراكية مثّلت بالنسبة لهم البديل الأفضل والأمل المؤدي إلى تحقيق أحلامهم ورغباتهم الدفينة في الوصول إلى مجتمع يتمتّع أفراده بالعدل والمساواة والسعادة. ومثل المناهج الأخرى كان للواقعية الاشتراكية أشكالها الفنيّة الخاصة. فهي في معظم الأوقات تبرز “الجانب الإيجابي” للشخصية الروائية أو المثال الإنساني التفوّق وهي أيضا تبرز عيوب الدّول الرأسمالية. لكن هنا في “الزلزال” للكاتب الجزائري الطاهر وطار هذه الرواية الصادرة في 223 صفحة عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالجزائر ضمن سلسلة تكريمية للمؤلف وتجربته الثرية التي استحق عليها جائزة العويس الثقافية لهذه السنة.. في هذه الرواية قلب الطاهر وطّار الموازين وجعل من عدوّ الاشتراكية “بطلا” رئيسيّا يبرز محاسنها ويعرّي سلبياّتها.
ملامح الشخصية
من خلال مجموعة من الشخصيات الروائية أبرز المؤلف الصراع الطبقي والتطوّرات التي طرأت على مجتمع معيّن كان في وقت من الأوقات تحت الهيمنة الإقطاعية الاستعمارية، وقد تجلّى ذلك من خلال ما حكاه “بو الأرواح” عن جدّه مالك الأراضي الكثيرة الذي يقرن شرفه وسلطانه بها ثمّ نشأت طبقة البرجوازية من الاستعماريين الفرنسيين واليهود التجار وبعض التابعين لهم من العرب في تلك المدينة. لقد كان البرجوازيون الصغار حالمين يفتقرون الى النشاط، يعوّلون على طبقة العمال والفلاحين، يستغلونهم ويأكلون الخبز النقيّ الممزوج بماء جلودهم، ولكنّ صمود هؤلاء و تحديهم للصعاب يصيب أفراد تلك الطبقة بالانهيار فيختل توازنهم ويسقطون مثل “بوالأرواح الذي جعله شموخ شباب أزقة قسنطينة وبطاحها يختلّ عقليّا، هو صاحب الأراضي والأموال المتعلّم عن طريق نظام جديد يختلف عن الخرافات التي كبّلت عقولهم على امتداد أزمنة ولا ينبت فوق أضرحة الأولياء. لذلك ترك “عيسى” مقدّم الزاوية زاويته وهبّ لنجدة المحتاجين إلى العون من بني قومه غير عابئ بتهم الإلحاد والزندقة والعصيان التي طالت شخصه. لقد جعل المؤلف هذه الشخصية نامية تتدرّج نحو قمّة فعل الخير منذ خرج “عيسى” إلى الجبال ليصدّ جنود الاستعمار إلى أن أصبح اشتراكيا. جعل المؤلف “بوالأرواح” يعرّي طبقته عن طريق مدحه مساوئها، كما خوّل للقارئ إمكانية اكتشاف الوقائع والأحداث المختلفة: نذكر منها الطائفية، والقبلية والتّبعية الصفات التي أخضعت ذلك المجتمع للاستعمار لسنوات طويلة.
مرّت الشخصيات والأماكن والأزمنة في هذه الرواية بتحوّلات كثيرة، آخرها تحوّل الأغلبيّة نحو الاشتراكية وقد كانت الحكومة تتعاون مع مساكني المدينة الروائية لتحقيق أهدافهم المتغيّرة وأعني بذلك أن هذه الطبقة التي تفتقر إلى كلّ شيء والموعودة بالكثير عن طريق الاشتراكية ستظل تطلب من الحكومة: إذا حصلت على الأرض ستطلب المعدّات الفلاحيّة وبعد أن تنمو المحاصيل تطلب أسواقا لترويجها ثمّ تطلب المدارس والمصحات وبعد أن يتوفّر لها الضروري الملموس تطمح إلى المعنوي الروحي مثل الحريّة، الكرامة، والديمقراطية، لذلك كانت رؤيتهم تثير حقد “بو الأرواح” واشمئزازه، كان يفضل التنصير والتهويد اللّذين كانا يثيران سخطه قبل بروز الاشتراكية فيتمنّى “أن تتحرّك هذه الصخرة، فتذوب بمن عليها، فلا تجد الحكومة لمن تعطي الأرض”.
يقصد بالصخرة هنا مدينة قسنطينة. ويتّهم الحكومة، “يسرقون من الأغنياء، ويبذرون على الحفاة العراة، الرعاة”.
يبرز المؤلف على لسان “بوالأرواح” في هذا المقطع الهجائي محاسن الاشتراكية بطريقة غير مباشرة.
لم تسقط الواقعية هذا النص في السذاجة بسبب بعد المؤلف عن الانبهار بالاشتراكية والتزامه الحياد وعدم تدخله في شؤون الشخصيّات ووضعها تحت هيمنته الفكرية الخاصة مظهريا. فهو لم يتغنّ بالاشتراكية وإنما سمح لبطل روايته المعادي لها بأن يسلّط عليها مجهرا ناقدا يبرز نواقصها إلى جانب محاسنها مع العلم أن هذه الرواية قد بشّرت بانطلاقة الاشتراكية في تلك المدينة وما رافقها من تشويهات وإصلاحات.
إن المعلومات التي يقدمها المؤلف تضيئ ملامح الشخصية وتفصح عن تجربتها في الرواية مما يتيح فرصة تقديمها إلى القارئ الذي سيكتشف اهتمام السارد بالمناجاة والاسترجاع، الأمر الذي أدخل على الأحداث حركيّة وحيويّة جعلت الأوضاع تسير في اتّجاهات متغيّرة من حال إلى آخر، فيصبح “بو الأرواح”، الجشع الذي تعوّد الأخذ ولم يتعود العطاء يبحث عمّن سلبهم أراضيهم قبل عشرين سنة ليوزّع عليهم أرضه، مدفوعا إلى فعل ذلك بيأس تولّد عن حالتين:
الأولى نبأ تأميم الأراضي من طرف الحكومة الاشتراكية، والثانية انتفاء أمله في الحصول على ابن من صلبه، وهما أمران جعلاه يتحوّل من جامع أراض إلى باحث عمّن يهبهم إياها.
من ناحية أخرى تحوّل “عيسى” من مقدّم زاوية إلى قائد نقابي يكافح من أجل استرجاع حقوق العمال الضائعة وتحوّل “الطاهر” النشّال عن حرفة النّشل في رحبة الجمال إلى ضابط سام يربط ويحلّ، وتحوّل “عبدالقادرالغرابلي” إلى أستاذ يدرس الأجيال و”البرادعي” إلى إمام مسجد، كما أن الراوي لم يبرز هذه التحوّلات بطريقة علنيّة بل جعلها تبرز ضمنيّا، إذ جعل “عيسى” ينساق إلى حركة النقابيين عن طريق الصدفة عندما زاره أحد العمال يشكو مظلمة مؤجره له فتجذبه القضيّة بعد أن يزوره عمال آخرون ويقرّر مغادرة الزاوية ملتحقا بهم رغم بحث السلطات عنه والخطر الذي يترصّده.
إن من يتابع شخصيّة “بوالارواح” يذهله انتقال هذا البطل من الصدق والأمانة إلى الكذب والجشع والتسلّط وقد اتضح ذلك من خلال المشهد الاسترجاعي للقائه ب”ادير” مرابي “رحبة السباط” واقتراضه المال منه قبل سنوات طويلة وهنا قد يعني ذلك أن كثرة المال تعمي الإنسان عن فعل الخير أحيانا بينما يجعله الفقر قريبا من ذاته شفافا. في الاتجاه نفسه يكتشف القارئ أن ل “بو الارواح” مقاييس خاصة لتقييم الخير والشر والحلال والحرام وذلك من خلال مزاجه الذي يحرّم الأعمال النقابية والدفاع عن الحقوق الإنسانية ويحلّل الربي أو “الكسابة” والقتل والنهب والطرد التعسفي.
لقد شكّل انتقال “بو الأرواح” من شخصية فظّة قويّة تنتفي من قلبها الرّحمة والشّفقة إلى شخصية مضطربة، ضعيفة تلاحقها الأشباح في خاتمة الفصل الأخير من الرواية إلى حدّ محاولتها الانتحار خللا.. قد يصعب على القارئ تفهّم هذه الشخصية ومجموعة المتناقضات التي تدور في مدارها، إن مشاعر الحقد والكره التي يكنّها “بوالارواح” للفقراء قد تجاوزت كلّ حدود، وحبه لذاته وللأرض أكبر من حبّه لأيّ شيء آخر. انطلق “بوالارواح” في بداية الرواية كشخصية متصلّبة، قاسية واثقة من وجودها ومتماسكة ثم انتهى في آخرها إلى شخصية منهارة، ضعيفة تلاحقها الأشباح وضحكات الأطفال والهذيانات. ولا يقف لعب الكاتب على المتناقضات إلى هذا الحد بل يتواصل مع نقطة أخرى جمع فيها المؤلف نقيضين: العلم والجهل في شخص “بو الارواح” هذه الشخصية المعقّدة التي أخفت تحت جلباب العلم والدين شخصية أخرى غير واعية تؤمن بالوهم وتتمسّك بخيوطه فيعوّض الولي الصالح الإله وتمتزج الخرافة بالحديث النبوي.
نساء “بو الأرواح”
مثلت المرأة في الرواية رمزا للاضطهاد والخنوع فهي تتزوج في سنّ مبكرة مثل “عائشة” زوج “بوالارواح” الأولى التي تزوجها في التاسعة من عمرها واغتصبها أبوه ثم خنقها، ومثل مصيرها لاقت “حنيفة” وابنة الخمّاس وغيرهنّ. إن المرأة في عالم “الزلزال” لم تتجاوز البضاعة أو الدمية التي يلعب بها طفل شرس وعندما يملّها يلوي عنقها وهو يبتسم. لقد بدت المرأة هنا سلبيّة، تابعة، مسلوبة المصير، فاقدة لأيّ حيويّة وبجانبها يقبع الطفل اليتيم ابن الشّهيد الذي تحوّل إلى ماسح أحذية “ممزق السروال عليه مريول باهت رسمت على صدره وظهره صورة “غيفارا”، عيناه زرقاوان، وجهه جميل، شعره على كتفيه، أصفر لامع، لو كان ولدي”.
رغبة التملّك تسيطر على “بو الارواح”، تجعله يطمع في الحصول على كلّ ما تراه عينه. ومثلما احتوت الرواية شخصيات نامية، متحركة استطاعت أن تقفز من الحضيض إلى القمّة فقد تضمّنت أيضا شخصيات قبعت في مكانها أو تراجعت إلى الوراء، كانت من الطبقة البرجوازية الصغيرة زمن لاستعمار وفقدت الجاه والثروة بعد الاستقلال، من بين هذه الشخصيات نذكر “بالباي” الذي تحوّل من صاحب مطعم فخم إلى مالك لمحلّ يقدّم طعاما خفيفا و”نينو” رجل الأعمال الذي كان يعمل في المخابرات الفرنسية ووشى بابنه وتسبّب في استشهاده أمام عينيه، تحوّل إلى دلاّل بالسوق ولكنه لشدة ندمه على ما صدر منه و حسرته على ابنه، كان قانعا بما صار عليه.
زمن الرواية
بدت البنية الزمنية لرواية “الزلزال” معقّدة رغم أنّها ترصد مجرى وعي شخصيّة واحدة، وذلك لأن المتابعات التي قام بها “بوالارواح” لكل ما اعترضه داخل مدينة قسنطينة جعلت الأزمنة تتداخل ويكثر فيها القفز والتقديم والتأخير وتنوع الصيغ الزمنية العامة. رغم أن الراوي قد استخدم الساعة العادية معيارا فان الزمن تدحرج في غفلة منه إلى ما وراء العادي من خلال تحولات الشخصيات وتنوع الأمكنة والضغوطات التي أحاطت بالأحداث، وصاحب التنوّع الزمني تعدد الأمكنة والملامح والروائح والأصوات التي رصدها المؤلف عبر منظار لم يمسكه بصفة مباشرة بل وظف له رقيبا استخرجه من عمق الشخصيات ذاتها، التي كان يستدرجها إلى فعل ذلك مرتكزا على هشاشة وجودها الخاص لصالح وجوده هو كمسيّر خفيّ لكل تصرفاتها التي جعلها تحصد نتائجها وحدها في النهاية وهذا تجلى خصوصا مع الشخصية الرئيسة في الرواية “بوالارواح” الذي استدرجه المؤلف إلى الجنون وبقية الشخصيات المحيطة به مثل “طاهر” النشال و”عيسى”، وقد اهتم الكاتب بتسيير هذه الشخصيات التي بدت للوهلة الأولى تنعم بحرية التعبير عن ذواتها كلّ شخصية على حدة منتقلا من واحدة إلى أخرى، محاولا دمجها في العالم الروائي الذي خططه لها، والمتمثل في زعزعة الراهن وتغييره والتوجّه به إلى هدف واحد ألا وهو الزلزلة التي ستقلب كل شيء وتغير الأمكنة تحت أقدام الشخصيات من الأسفل إلى الأعلى وبالعكس. من أجل هذا كثف المؤلف المناجاة لأنها أكثر الطرق جدوى في إبراز التطوّرات الدّاخلية للشخصيات وصلتها بالزمن.. ما يجعل الرواية لا تضم زمنا واحدا بل تحتوي أزمنة نفسية متعددة، لكل شخصية من شخصياتها زمنها النفسي المختلف عمقا ومأساوية وصلة بالحاضر الروائي، إلى حدّ جعل البنية الزمنية تتعقد وتتداخل فتكثر الاسترجاعات والخطابات الذاتية والأسئلة فيها. لكنّها مثلما أسلفنا من حيث الزمن الخارجي للرواية لم تتجاوز بضعة أيام بمقياس الساعة العادية: ينطلق الراوي من الحاضر، يصل “بوالارواح” مدينة قسنطينة ويبدأ تجواله فيها ثم يتدحرج تدريجيا نحو الماضي فتحيله الأماكن إلى أحداث وأزمنة وروائح وملامح عرفها سابقا وأصبحت مختلفة رغم احتفاظها بالأسماء نفسها. كما أن كلمة “زلزال” المتكررة على امتداد النص في حد ذاتها تسببت في هزات نفسية عنيفة كانت تسكن روح “بوالارواح” الذي كان يخطط لعملية انتحاره منذ أن فكر في الجسر وما تحته ومنذ أن أصبح يقارن بين السقوط والارتفاع ما يجعل القارئ يستشف سيطرة المكان على الشخصية وانتصاره عليها، والمكان هنا ينقسم إلى نوعين: الأمكنة الخارجية الجغرافية التي تعلن عن وجودها وتوهم بواقعيّتها، وأحيز أخرى نفسية تجسّد من خلال اللغة وعبرها تسكن الروح وتتمثل في الانعكاسات التي أثارتها التغيرات والتحركات على نفسية الشخصيات: التجوال الذي كان يقذف بهم من مكان إلى آخر، النظر الذي كان يثير العواطف، العلوّ والانحدار وأصوات الباعة الخ.. كلها حركات لغوية تفاعل معها “بوالارواح” إلى حدّ التأزّم ومحاولة السقوط في القاع، والانتحار.