10 مارس 2010 21:09
نشأ المخرج الفلسطيني الشاب أمير نزار الزعبي في مدينة الناصرة في منطقة الجليل، حيث لا تزال أشباح حرب 1948 تخيم على المكان وأحاديث البشر، وعلى ذاكرتهم المجروحة منذ اقتُطع جزء كبير من بلادهم وأعطي إلى دولة وليدة اسمها إسرائيل. إنها أشباح من رحل وهجّر وتشرد، تعود وتهوّم في الأمكنة التي أخرجت منها، وبعضها أصبح مدمراً وخراباً، لتبقى في ذاكرة من بقوا واستقروا وكانوا أقلية عربية داخل الاحتلال. الزعبي حاول أن يذكر العالم بخلاصة حكايات هؤلاء البشر في مسرحية “أنا يوسف وهذا أخي”، من خلال حكايات إنسانية متداخلة، تقع في قلبها قصة حب بين أحمد وندى. المسرحية عرضت أخيرا في لندن على مسرح (يانج فيك)، وقدمت سرداً فلسطينيا للنكبة على لسان عرب 48 الذين يعيشون ذلك الحدث يوميا، فهم حراس الذاكرة وحرّاس الأرض.
المسرحية عرضت قبل الآن في الخريف الماضي في مسرح الميدان بحيفا، ثم في مسرح القصبة برام الله في نوفمبر الماضي، كما جالت في العديد من القرى في الجليل والضفة الغربية، قبل أن تصل إلى بريطانيا.
عنوان العرض العربي كان “إذ قال يوسف”، والعنوانان كما هو واضح، مستمدان من الآيات القرآنية في إشارتها إلى النبي يوسف ومأساته مع إخوته. ويوسف في المسرحية شاب صغير يعتبره البعض مجنون قرية بيسامون، لكنه طيب القلب ويملك حدسا قويا، إلا أن ذلك لا يشفع له، عندما رفض والد ندى حبيبة شقيقه علي، زواجهما، خوفا من أن يرث أطفالهما العته من يوسف، ويصير لمختار القرية أحفاد بلهاء.
يظهر يوسف عجوزا في مستهل المسرحية في رام الله عام 2000، وهناك امرأة (ندى العجوز) تحاول أن تقنعه بالحمام لأنه متسخ، لكنه ينادي على أخيه علي يستنجد به، بلا جدوى. وتقود التداعيات إلى العام 1948، قبل النكبة بقليل. يحضر يوسف من خلال ممثلين اثنين، أحدهما يؤدي يوسف الشاب، والآخر يعيش في الحاضر يتابعه عن قرب، نراهما معا في الوقت نفسه على خشبة المسرح. وهي حيلة ذكية من المخرج وكاتب النص لتصوير تداعيات الذاكرة، وربط أحداث الماضي بالحاضر. سنرى “التكنيك” نفسه مع شخصية ندى، المرأة التي عاشت حياتها ترعى يوسف، شقيق حبيبها الذي قتل وهو يبحث عنها في يوم أشبه بيوم الحشر، ضمن من قتلهم رصاص العصابات الصهيونية، في مذبحة تعرضت لها القرية في نكبة 1948.
رسالة المسرحية
جذب العرض اللندني جمهورا كبيرا من المتابعين، وقدمت المسرحية باللغة الإنجليزية المطعمة بعبارات عربية، وهذه كانت تترجم في أعلى خشبة المسرح. واستحق العرض نقدا مسرحيا طيبا في مختلف الصحف، التي نوه بعضها إلى “توجه المسرحية إلى عواطف ووجدان الجمهور وإشعاره بالذنب، بدل بث رسالة كراهية”، بحسب “الجارديان”. والمقصود بالشعور بالذنب هنا، انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، أثناء سيطرة الصهاينة على تلك الأرض. ورغم وعودهم بحماية الفلسطينيين، إلا أنهم تركوهم لمصيرهم التعس، كما تركهم العالم أجمع عندما صوّت على تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة. وهناك مشهد يسخر من امتناع بريطانيا عن التصويت، فلا هي وافقت ولا هي رفضت. كذلك السخرية من وعود قوات الانتداب البريطانية بحماية الفلسطينيين، كما ورد على لسان الضابط روفوس، الذي كان يحلم فقط بسرعة العودة إلى مدينته شيفيلد بإنجلترا.
شاعرية الرواية
يحسب للعرض ابتعاده عن الصخب السياسي والشعارات، واستخدامه الفكاهة وخفة الظل في تمرير قضية شائكة مثل هذه. كذلك ابتعاده عن التهجم المباشر على اليهود، وهؤلاء لا يحضرون بقوة على خشبة المسرح، باستثناء مشهد قصير لرجل وابنته من المهاجرين الجدد الذين سيحلون محل المهجرين من أهل البلاد، وكانت الفتاة الشابة تحذر العرب من حولها بصوت مرتجف، يحث على الهروب وينبئ بالمذابح. وفي مشهد معبر، يحمل يوسف شجرة بيته على ظهره، لأنه لا يريد أن يتركها للمحتل يتظلل تحتها أو يقطف منها ثمرة، وهي التي شهدت تحت أغصانها ذكريات عائلته وأحبته. من جهة أخرى، اتسم العرض عموما بلغة شاعرية، خصوصا باستخدام كورس من النساء شكل فواصل بين المشاهد المختلفة، وهو يحمل جرار ماء، ويغني غناءً شجياً من التراث الفلسطيني. الشاعرية حاضرة أيضا في الديكور البسيط المستمد من قماش الخيمة، هذا القماش أعطيت له وظائف الفصل بين زمنين، والفصل بين منطقتين، مثلما حدث عند تقسيم فلسطين بقرار من الأمم المتحدة. ولا ننسى حسن استخدام الإضاءة التي أكملت دور بساطة التصميم. كما تجدر الإشارة إلى عنصر الماء المستخدم في العرض، فللمرة الأولى أرى ماءً كثيرا على خشبة المسرح، ماءً ينسكب من الجرار الفلسطينية كأنه ذاكرة أهلها، وماء يذكر بالبئر التي سقط فيها يوسف وهو طفل، عندما ارتطم رأسه بجدراه وأصيب دماغه برضوض وسمته بالغفلة. الماء يرمز أيضا إلى البحر، وحلم الشخصيات في زيارة شواطئ حيفا وبحرها، وهو ماء يخوض فيه الفلسطينيون في حركتهم ويدلل على تخبط القرار، بين البقاء أو الخروج من الأرض من غير رجعة. حدث ذلك في أيام كانت أشبه بيوم الحشر حوصروا فيها بالمذابح، فسار الأهالي في اتجاهات مختلفة، ما بين مهاجر إلى البعيد، ومهاجر إلى الداخل، وبين رافض لفكرة الخروج، وضياع الأحبة والمعارف في تلك المعمعمة، وهجرة بعضهم إلى السماء.
ولا ننسى أن المخرج وكاتب المسرحية أمير نزار زعبي، ليس بعيدا عن الشاعرية، فقد قدم قبل الآن عرضا من وحي أشعار محمود درويش، بعنوان “جدارية”، شارك بها في مهرجان المسرح في دمشق عام 2006، ولا ننسى إشارة درويش إلى النبي يوسف في قصيدته الشهيرة “أحد عشر كوكبا”.
مسرح فقير
قد تعتبر بعض المؤسسات العربية الداعمة، المسرح، نوعا من البطر، ضمن ظروف التمويل وصعوبة توفير الظروف الملائمة للعمل المسرحي. وبقراءة السيرة المهنية للممثلين والمخرج أيضا، نعرف أنهم درسوا في معاهد واستوديوهات تمثيل إسرائيلية، وعندما يتخرج الفلسطينيون من تلك الجهات، لا يجدون وظائف في فرق عربية، لندرتها، ولصعوبة التمويل أيضا، مما يضطر بعضهم للعمل في أعمال تلفزيونية ومسرحية وسينمائية إسرائيلية. وتكمن المفارقة في أن يتعلم هؤلاء الشباب كيفية إدارة قضيتهم، دراميا، في مكان تابع للمحتل. والفرقة التي قدمت عرضها في لندن، تحمل اسم (شبر حرّ)، وهي فرقة تأسست أخيرا في حيفا، وفي نيتها تقديم عروض مسرحية للفلسطينيين المحرومين من مسرح يعبّر عن هواجسهم وأحلامهم، خصوصا وأن هذا الفن شكل حديث في ثقافتهم المعتمدة على الشعر.
يقول زعبي في كلمته التي صدرت دليل المسرحية باللغة الإنجليزية، أن أبيه الطفل في عام 1948، صحا يوما ليجد سماء بلدته الناصرة وقد تحول من اللون الأزرق إلى اللون الأصفر، ويرى المكان صار بين يوم وليلة مخيما ضخما للاجئين. في صباح ذلك اليوم، شعر الطفل، إن قشة تسكن عينه وتؤلمها. وربما، أراد زعبي، أن يحكي عن تلك القشة وذلك الألم، عن مواجع البشر الذين بقوا لسنوات، لا يسمع العالم الخارجي حكاياتهم، في مقابل علو صوت الرواية الإسرائيلية. لكن الفلسطينيين وجدوا في السنوات الأخيرة، لحسن الحظ، من يريد أن يستمع لروايتهم، ومن بين تلك الجهات، مسرح (يانج فيك) المهتم بتشجيع مشاريع الشباب المسرحية، لذا، فان عرض “أنا يوسف وهذا أخي” جاء إلى المكان المناسب تماما، وقد حصلت الفرقة على دعم من جهات وشخصيات بارزة، من بينها الفنانة القديرة فانيسا ريدجريف، التي وجهت لها فرقة (شبر حر) تحية خاصة في الكتيب المرافق.