السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أفق وسيع.. ورؤى لانهائية

أفق وسيع.. ورؤى لانهائية
9 يناير 2020 01:43

محمد عبدالسميع

الميزة المهمّة لمهرجان الفنون الإسلاميّة الثاني والعشرين في الشارقة، هي أنّ تعاطي الفنانين المشاركين العرب والأجانب مع عنوانه العريض «مدى» جاء من غير تكلّف أو ثقل تقني؛ بمعنى أنّ حشود الأعمال العالميّة جاءت معبّرةً عن بلدانها وطرق تفكيرها، دون أن يقحم الفنان معرضه لينسجم مع هذا العنوان، ولذلك كنّا مع رسائل إنسانيّة أخذت من الرؤية الفنيّة الإسلاميّة في تقاطع الأعمال «تشاركها»، وربّما ذهبت إلى تطوير الفكرة الفنيّة الإسلاميّة، كالمعمار مثلاً، أو أخذت جانباً نقديّاً من خلال بعث مرونة ما، أو احتفت بتفاصيل معيّنة لجدارتها وأحقيّتها في أن تتمظهر في أعمال معاصرة.
النقطة المهمّة في المهرجان، أيضاً، هي هذا التنوّع الثري في محاور المعارض وعناوينها الفرعيّة في اللوحات التي تشتمل عليها، لنكون مع أرشيف رؤيوي (من حيث الأفكار والمنطلقات والأرضية الثقافيّة التراثيّة أو المعاصرة)، وفنّي (في المعالجات والتقنيات القديمة والحديثة)، ليلتقي الفنان العربي مع الآسيوي مع الأوروبي مع الأميركي مع الإفريقي في الشكل والمضمون، دون أن يفرض المهرجان قيوداً على الأعمال؛ إذ يكفي أن نلمس خيطاً نتتبعه لنصل إلى مشترك ما بين هذه المعارض، صحيحٌ أنّ «مدى»، وهو يوحي باللانهائيّة، أو اتساع الأفق والرؤية، أو حفز السّاكن على أن يكون له مدىً ما وفق تخييل ما، لا بدّ أن يلقي بظلاله على اللوحات وتجهيزات الفيديو والمنحوتات وباقي مفردات العمل الفني، إلا أنّ حالة اليسر(المرونة) التي اتسمت بها الأعمال تجعل من الناقد، والزائر أيضاً، بصفته يسير من خلال المشاهدة على طريق التذوّق والإبداع، يثق بالتكوين الجمالي والفكرة المسبقة التي يتمّ الاشتغال عليها وتقديمها من خلال هذا المهرجان.
لذلك، لم تكن كلّ الأعمال تحتفي بالخطّ العربيّ مثلاً، على أهميّته وجدواه الجماليّة والوظيفيّة كأيقونة للفن الإسلامي، كما لم يكن المسجد حاضراً في كلّ الأعمال أيضاً، على وجاهة تصميم أقواسه ومرجعيّاتها التاريخيّة، مثلما ظلّت السجّادة، بما تنطوي عليه من أسرار بديعة وألغاز جديرة بالتأمل، تروح وتجيء بالتلقائيّة التي برز فيها الخطّ العربي والمسجد أيضاً، وينطبق هذا على الزخرفة الإسلاميّة والجلود المذهّبة وتصاميم الحيوان والنبات والطير؛ إذ ظهر ذلك وفق قناعة الفنان نفسه - بغضّ النظر عن جنسه أو دينه، وهو أمرٌ مهم أن تحتكم الأعمال، ضمن مهرجان كبير للفنون الإسلاميّة، إلى قاعدة الجمال ومعايير الموضوعيّة الفنيّة، فتكون معياريّة الحكم على العمل غير مرتبطة إلا بمسوّغات الذوق الإنسانيّ وتوارد الأفكار الفنيّة الإسلاميّة أو تبادلها بين الشرق والغرب، وهي فنون لها مسارها الزمني وريادتها التي تكون بمنزلة الاستلهام عند فناني العالم.
لذلك كانت المفردات العربيّة المشاركة، والإسلاميّة أيضاً، تجد في المتاح اليومي أو الشاهد على الحضارة العربيّة الإسلاميّة ما يمكن الاستفادة منه في توليفة فكريّة فنيّة ما، كالنخيل مثلاً، أو فلسفة الدعاء في الحج، أو لانهائيّة الطواف حول الكعبة فيما يتعلق بنقطة البداية في دائرة، أو التأمّل القريب لألوان السجّادة وزخارفها في رحلة يوميّة عبر الصلاة، بل ربّما ذهب فنان أجنبي إلى آفاق فلسفيّة أدبيّة مُستثاراً مثلاً بأشعار جلال الدين الرومي، ليصنع مادّةً فنيّة يحتفي من خلالها بثنائيّة النور والعتمة، وهكذا، فالمعنى أنّ مفردة الفن الإسلامي تفرّعت عن مفردات غير تقليدية (في تكرارها)، وقابلة لأن تحمل فلسفات تراثيّة أو ربّما خروجاً على تراثيّات جاهزة، بحسب مدخل الفنان الإنساني في الرؤية والمعالجة الفنيّة.

التأثر بالفن الإسلامي
ليس هذا معناه أن نجلد ذاتنا، في فنوننا الإسلاميّة، وهي الفنون التي تبدو محلّ تأثير على الفنانين الأجانب في المهرجان، بصفتهم عيّنة مهمّة على الفن العالمي، بالتقاط ثيمنا وأفكارنا، وأيضاً بالاستفادة من تقنياتنا ومعالجاتنا الفنيّة؛ فبالقياس نجد زهواً وإبهاراً للون في أعمالنا، وكذلك زخارف عجيبة، وخطوطاً متقنة جدّاً، ورسومات على المعدن والجلود تبهر في شكلها ومقاييسها الجماليّة، لدرجة أن أفكاراً أجنبيّةً في المهرجان استلفت من الزخرفة الإسلاميّة والفسيفساء وحواف القطع لتأكيد فكرة «الهدم والبناء» والفنيّة الحاصلة بين هذين المفهومين، كانعكاس لما يحيط بنا من فوضى، ومثل ذلك الإفادة من هندسة الحدائق الإسلاميّة وتصميمها، في حثّ الإنسان على التأمّل بإضافة عناصر الرياح والماء والضوء، وليس أدلّ على هذا الاستلاف الفنّي من أن يستوحي فنان أجنبي جلود الماعز والأغنام المذهّبة بروحانيّة الجنّة ووسيلة البحث عن الثروة والذهب، ليقدّم اللوح الجلدي المذهّب هذا في قرطبة، والمزيّن بالفضة المصقولة، والمزخرف بدقّة وأناقة لتصاميم نباتيّة وحيوانيّة وأشجار مزخرفة.
لكنْ، في إطار تأثّرنا نحن، فنّاً إسلاميّاً، في مفردات معيّنة، بالتقانة الحديثة وتبادلنا الأفكار والرؤى، والمعالجات الفنيّة أيضاً، مع فناني العالم،.. هل يمكن أن نتخلّى عن اللون أو نتجه نحو التجريد، أو نكون عمليين في تنفيذ الرؤى فنيّاً فنفقد شيئاً من روحانيتنا اللونيّة المدهشة؟!.. هذا سؤالٌ مطروح، غير أنّ جدارة الخطّ العربيّ وجماليّته وتصدّره المكانة الأوفر في كتابة القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة وتدوين الشعر العربي، وهو تاج الفنون الإسلاميّة ورونقها، تجعلنا نطمئن إلى ثوابتنا ومقاييسنا التي تميّزنا أو نتميّز بها، يزيد هذا تأكيداً ما للزخرفة وأقواس الجوامع من حضور في فضاءات الفنان الأجنبي نفسه الذي نتأثّر به، فنهمس في أذنه، ونحن نُقبِّلُه، أنّ لنا ما نمتاز به وما هو جدير باستعارته، وهذا لا يعني أنّ من شبابنا العرب في المهرجان من ذهب إلى مفردات جديدة عمليّة، ربما نخشى أمامها من طغيان الرسالة على الهدف الجمالي، خصوصاً وهما متكاملان ولكلٍّ منهما هدفه في عقل المتلقي كرسالة، ووجدانه كهدف جمالي وذائقة في المعالجة والاشتغالات.

السؤال النقدي للتراث
ويبدو السؤال النقدي الذي يحمله الفنان العربي في المعرض واضحاً، في محاكمة الظاهرة قيد التجسيد أو الاشتغال الفني أو طرحها للجمهور؛ كالاشتغال على (السّبحة)، مثلاً، فهي تفصيلة مهمّة من تفاصيل روحانيّات التراث العربي الإسلامي؛ نظراً للطقسيّة العتيقة حين تهرول حبّات السبحة بين أصابع تعتقد بالروحانيّة التي تنطوي عليها، وهي روحانيّة بين العبد وربّه، فلا ندري حقيقةً ما هو موقف الفنان من هذه السبحة، هل يؤيّدها أم يؤكّدها، أم ينقل التفاصيل فقط كجزء من إظهار تفكير الناس؛ باعتبارها وسيطاً يبعث على الاطمئنان؟!.. ويشفع لنا في ذلك أن ثمّة تطويلاً للسبحة يحيلنا إلى منزلتها العالية في التراث الديني أو الذهنيّة الدينيّة العربيّة، ولذلك جاءت حبّاتها الصفراء أو المذهّبة المصنوعة من سعف النخيل لتزهو قيمةً وجماليّاً في عين الفنان، التي هي عين المعتقدين بها، ولإبراز تفاصيل ربما تبهر المتلقي، إذا ما علمنا مثلاً أنّ للسبحة عند عند الجدات وكبار السّن والأولياء خرزاً يصل المئة، ويرتبط هذا الخرز أحياناً بنقش أسماء الله الحسنى، فهي بيئة دينيّة إسلاميّة، وفكرة ربما تكون غير ملتفت إليها في التجسيد أو المعالجة الفنيّة.
لكنْ، من جهة مقابلة، نجد أنّ موقفاً احتفائيّاً للفنان الأجنبي من المفردة التراثيّة الإسلاميّة، ودليل ذلك أن يستوحي معرض أجنبي مشارك قيمة الجوهر «الباطن» من قيمة الجوهر لدينا في الفنون والأفكار الإسلاميّة، وذلك باستخدام الورق والألوان المائيّة والورق المذهّب والخشب، لنكون مع لوحة غاية في الأناقة والتجانس والزخرفة التي توحي بجوهر الأشياء الداخلي أو القلب، كاهتمام فكري إسلامي فني وهندسي، يربطه الفنان بفكرة اللانهاية أو المدى البعيد الذي يجب أن ننفذ إليه في كلّ شيء، فعراقة الجوهر في المفهوم الإسلامي، كفكرة فلسفيّة عميقة، يتم تجسيدها كرسالة يحملها الفن؛ وهو ما يحسب للثراء الفني والمعرفي والفلسفي لدينا في فترات سابقة ما تزال محط اهتمام ونقل وتجريب من العالم الأجنبي.

البحث عن آفاق
وإذا ما أنعمنا النظر في أعمال المعرض العربيّة، فإنّ ثراءً كبيراً قد تحقق بالفعل في التساوق الفني، وفي الرؤية أيضاً، مع مفهوم (المدى) أو (اللانهائيّة) التي طرحها المهرجان في دورته الحاليّة؛ إذ حفز الفنانين إلى ما يلتقطونه برؤى غير جامدة أو ساكنة، فبحثوا لها عن ظلال، خصوصاً حين تشتغل فنانة على صوت الأذان؛ باحثةً عما وراء هذا الصّوت من معانٍ وطاقات يحملها كدعوة للصلاة، كفكرة ثقافيّة تراثيّة دينيّة تسمح بالانطلاق إلى (آفاق) أو (آماد) في تلبية النداء الروحي الذي تم الاشتغال عليه تكنولوجيّاً وبرمجةً رياضيّةً، بالإفادة من طاقة الصوت والضوء في مواد بسيطة ومتاحة ونابهة لهذا العمل.
وتبدو هذه (اللانهائيّة) أيضاً من خلال اشتغال عدد من أعمال المهرجان على الفكرة بين زمنين أو ثقافتين وطرح مسألة المعاكسة، أو السير بالضدّ من دورة الوقت، فكأنّ دعوةً لقراءة الثقافات في موضوع «تدمير الثقافة» أو استبدال القديم بالحديث، وهذا معناه فكريّاً أنّ كلّ شيء قابل لأن يُناقش أو يتم التجديد فيه، تبعاً لظروف الحياة ومتغيراتها، وهو ليس إلا السؤال النقدي من الثقافات والنظر إلى تحنيطها أو مواكبتها أو تطويرها من خلال العمل الفني؛ يزيد هذا تأكيداً العنصر الجمالي المستفز للذائقتين الفكرية والفنيّة؛ حين يتم التعبير عن ذلك بحشو أقمشة منسوجة في مكعبات إسمنتيّة، ومطالعة هذا الحشد من الدوائر والزخارف التي ربّما- من وجهة نظر الفنان- تسبب الجمود.
في الجانب الفني والفكري للأعمال المشاركة، ليس من الضروري أن يُجهد الفنان نفسه بإعادة المكرر من الأعمال؛ إذ يكفي أن تلتقط عين الفنان أو أذنه- لأنّ من الأعمال ما اشتغل على جانب موسيقي كتعبير عن الانسجام- فكرةً طريفةً يمكن أن تحمل الرسالة ويتم التعبير عنها بأبسط المواد والألوان إذا صحّت النيّة في معالجة جوانب نعيشها كلّ يوم؛ ومن ذلك، على سبيل المثال، معالجة فنان عربي لمحرّك البحث الشهير على الشبكة العنكبوتيّة (جوجل) من خلال الشراكة مع الزوّار وإتاحة الفرصة أمامهم لطباعة ما يردّ به «جوجل» على أسئلتهم التي يبدو أنّها لن تنتهي (وفي هذا أيضاً ما يحمل فكرة المهرجان اللانهائيّة)، فهم قطاع مجتمعي يمثلوننا أيضاً- فنكون أمام أكوام من الورق التي تملأ المساحة، وفي الوقت ذاته نحن أمام سؤال نقدي أمام دقّة المعلومات التي تردنا من محرّك البحث هذا الذي ملأ على الناس أوقاتهم، وربّما صرفهم عن مطالعة كتاب أو التخصص في موضوع بالاعتماد على ما لدينا من قدرات. لكنّ فطنة الفنان قادته أيضاً إلى موضوع نقدي ديني؛ بحيث تكون الأسئلة الموجّهة إلى (جوجل) هي أسئلة تتعلّق بالدين الإسلامي، عبر هواتف الزوّار الذكيّة، فنكون قد حققنا أكثر من عنصر في عمل فنّي يحمل فكرة طريفة.

الإفادة من التقانة
في جانب المعالجات الفنيّة كان الفنانون أمام أكثر من خيار، فلم تكن بينهم وبين وسائل التقانة الحديثة (التكنولوجيا)أيّ قطيعة؛ فأن يذهب فنان عربي إلى الاستفادة من التطوّر التكنولوجي في خدمة الصورة الفوتوغرافيّة، فهذه إضافة نوعيّة ودخول واثق للاحتفاء بقيمة المفردة الإسلاميّة التي تخضع لعمل فنّي، وذلك بتحفيز الدماغ على التحرّك وفق تقنية الصورة ثلاثيّة الأبعاد، وهي تقنية تعطي شعوراً بالحركة والانسجام مع الصورة، ولذلك فقد أفادت صورة المسجد في خدمة تفاصيله، في القبّة والمئذنة، والزخرفة الإسلاميّة، والضوء المنبعث من الفوانيس، وهذه خدمة عظيمة لصورة يعيش معها المتفرج أو الرائي، بوساطة كاميرات خاصّة، في رحلة جماليّة ذهنيّة مدهشة، وذلك يدخل في باب تجويد الصورة لدى عين المتلقي بزوايا متخصصة ومدروسة. فهي إفادة العلم للصورة التي تحمل المنحوتة، أو المنظر الطبيعي الإسلامي أو المسجد، أو أيّ ملمح من ملامح الفنون الإسلاميّة قيد العرض.
وفي موضوع تأثّر الفنان الأجنبي بالتقنيات والملامح الفنيّة الإسلاميّة، كثيراً ما كنّا نجد هذا التأثّر واضحاً في الإفادة من «الأرابيسك» وجمالياته، وذلك بتتبّع الزخارف من نقطة باتجاه نقاط أخرى، باتخاذ السجاد الإسلامي نموذجاً لفلسفة التتابع الزخرفي في العمارة الإسلاميّة والإفادة من إبهار السيراميك وانسجامه؛ ففكرة التصميم هذه، كفن إسلامي لها ما يبررها جمالياً بعين فنانة أجنبيّة مثلاً، ترى أنّ توسّط الدائرة في السجادة وما يحيط بها ليس إلا عملاً احترافيّاً، يوحي من خلال تأمّله برحلة من الأمل والتوقعات، وفق رؤية تحترم هندسة السجادة والطاقة الروحانيّة التي تتخللها بطبيعة الحال، إذا ما علمنا أنّ السجادة الإسلامية برسوماتها تؤدي غرضين مهمّين ومرتبطين معاً، غرضاً وظيفيّاً وآخر جماليّاً، ولذلك تبرز مفاضلات الشراء في الجماليّة والإفادة من المادّة الأصليّة و«المشغوليّة» التي تتوافر عليها كفن إسلامي شرقي مميز.
وفي هذا الجانب، لجأت أعمال أجنبيّة إلى الاستفادة من تقنية «الأرابيسك» أو فكرة التكرار، بمواد متاحة بكثرة لتجسيد أو تأكيد فكرة قويّة تتساوق مع فكرة المهرجان العموميّة التي تسير ضمنها الأعمال المشاركة، باستثمار الورق بهذه التقنية - كتقليد فني إسلامي- للنفاذ إلى طبقات أشبه ما تكون بتجاويف الأرض، في ملمح ساحر ويعطي انطباعاً بالعمق أو اللانهاية أو المدى، وبالفعل يعيش المتأمّل لحظات نفسيّة هائلة في كل طبقة وفي المجموع الكلي للطبقات، وكل ذلك يصنعه الورق الموجود بين أيدينا وغير المنتبه إليه في كثير من الأحيان.
وحين ينظر فنان أجنبي إلى حضارتنا الرائجة في فكرها وفنونها التي كانت محلّ اشتهار، فإنّ في ذلك شهادةً على أنّها يمكن أن تحمل ثقافات الآخرين وتتأثّر بها وتستوعب التجديد، فمن خلالها نحن أمام أبعاد فنيّة يمكن التعاطي معها، وأمام تجريب بالتأكيد تقبله حضارتنا الإسلامية، وهو ما يمثّله عمل أجنبي يحمل «المدى» بإظهار الفضاء الكبير للأقواس والأعمدة في المساجد، كتقنية فنية إسلاميّة توحي للمتأمّل بمسافات وفضاءات لانهائيّة ولها طاقة عظيمة كتقليد إسلامي تاريخي قديم.

الرسالة الفلسفية
إنّ البحث عن الطريف والنادر في الرؤى يحيلنا إلى أفكار ومفارقات لطيفة، منها على سبيل المثال أن يعمد عمل من أعمال المهرجان إلى الاشتغال على فكرة الصندوق والعمل الفنّي، في أحقيّة الصندوق بالاهتمام؛ خصوصاً وهو يحمل أغلى الأعمال الفنيّة وأهمّها، فهو ملازم لها في كلّ الأحيان، ولذلك كان احتفاء الفنان الأجنبي بهذا الصندوق في نحت خشبي هو التفات ذكي وفلسفي إلى ما نحسبه ثانويّاً، في حين أنّه يلعب كلّ الدور، ويشابه هذا أيضاً عمل يعاين موضوعي الكتاب والغلاف، بمنح الهياكل القديمة للكتب حياةً جديدة، وفق تقنيات التجليد والأغلفة المميزة التي تكون محلّ انطباع الزوار وإحساسهم الكبير بما ينطوي عليه هذا الغلاف.
في مهرجان الفنون الإسلاميّة كنّا بالفعل مع رحلة فكريّة وثقافيّة وفنيّة ورسائل جديرة بالاهتمام.. كنّا أمام الورق واللون والتجانس والزخرفة والهندسة والتفكير من بوابة اللانهائي والإلحاح الفلسفي العميق والمعرفة الإنسانيّة والتاريخ، ووقفنا أمام التجريب والتأثير والتأثّر والشكل والمضمون أو الجوهر والظاهر، وكنّا مع انتظام فسيفسائي، وهدم متعمّد لخلق حالات جديدة، ومع الحفاوة بما هو مهمل نحو بناء جديد، واستفدنا من تطوير الحرفة اليدوية باتجاه أعمال احترافيّة، وكان المجاز أو الإسقاط يوسّع من دائرة التلقي، كما كانت درجة اليقين والإيمان تفرض نفسها بوضوح على هيئة أعمال فنيّة ليست اعتباطيّةً أو مكرورة، أما الطبيعة فظلّت تظهر بكلّ مساحتها اللونيّة وعناصرها المائيّة والهوائيّة والضوئيّة وتكويناتها الصخريّة، وكان سؤال المدى ملحاحاً للسير فيه، وأحسسنا أنّ ثمّة مراجعة لثقافات معماريّة تقليدية، وكان النصّ الديني المقدّس يظل حيّاً في الخط والتجريد وهو يحمل تراتبيّة الخطاب القرآني، كخطاب ثقافي معاصر.
وفي المهرجان حضر أيضاً النخيل والنحت وتصميم المجوهرات والأزهار، وحضرت العلاقة القويّة بين العبد وربّه من خلال سجّادة الصلاة، كما طمى البحر بإيقاعات أمواجه في لانهائيّة بعيدة، وظلّت الـ«نحن» الإنسانيّة (اللانهائيّة) أمام الـ«أنا» الفردانيّة في احتكاك وسؤال فنّي تحمله مبررات الضوء.
كما حضرت الحرب وثقلها على الفنان العربي الذي عانينا معه التشريد والتدمير وهو يستعيد مآسيه ويؤثث أبنيته بما هو متاح، وقام الورق بأعباء فلسفيّة عميقة كاشفاً عن فجوات إنسانيّة نفسيّة بعيدة، وحضر الغيم والمطر والسحب والنجوم، وكانت المشربيّات سبيلاً لرؤية حقيقيّة بين الجسد والروح في سؤال الوجود. وفي الأعمال المشاركة كنّا في جولة في الغابات والأنهار الجليدية، تحت مظلّة السماء، وفي المهرجان كنّا أمام مبانٍ نامية ممتدة، نستعيد روح المدينة، ونحزن للحيرة الإنسانيّة أمام الكراهيّة عدوّاً للفرح والتصالح. لم يكتف الفنانون المشاركون بذلك، بل أفادوا من المجرّة والتروس المسننة في أعمال ولمسات وقفت على تناقضات التوتر والراحة والمدّ والجزر، مثلما ركبوا السّفن ولوّحوا للطيور ورسموا الزنابق،... في مهرجان تنوّعت فيه التقنيات واتسعت خلاله المساحة «اللانهائيّة» من الحلول الإبداعيّة التي تحمل فكر الفنان وشغفه الدائم بقراءة التفاصيل والوقوف عليها في هذه الحياة.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©