5 يناير 2012
يسجل مؤلف جديد بعنوان “إنها مجرد منفضة” سيرة حياة شاعر المقاومة سميح القاسم، باعتباره مناضلاً ورمزاً من رموز الثقافة الفلسطينية والعربية المعاصرة، وصاحب موقف وطني دفع ثمنه من سنوات عمره مضايقة واعتقالاً وسجناً وضنكاً في العيش من مغتصبي أرضه.
والكتاب، الذي يقع في 408 صفحات من القطع المتوسط وأصدرته “دار راية للنشر” في حيفا داخل الخط الأخضر، يتضمن محطات مختارة من مشوار شاعرنا العربي، ويركز على عام النكبة والجرح الذي لا يزال نازفاً ويطرح أسئلة الحياة والموت التي تزداد إلحاحاً بعد أن وصلت قوات الهاجناه قرية الرامة مسقط رأس الشاعر عام 1948.
ماذا سيفعل بنا اليهود إذا بقينا هنا؟ إخواننا النصارى يحميهم الإنجليز ونحن من يحمينا؟ نحن أهل الرّضا والتسليم فهل نتخلَّى عن عقيدتنا؟ ألا يجوز أن تنتهي هذه الحرب باتفاق العرب واليهود وانتهاء المشكلة بسلام؟ لماذا لم نقبل باقتراح علي الحسين؟ لماذا لم نرحل إلى الشام، حيث نستطيع تدبير أمورنا؟
هذه الأسئلة وغيرها ظلت عالقة في الفراغ، هائمة في فضاء البيت مثل دخان الرجال المكمودين فليس من تجربة أقسى من احتقان الطفولة واحتباس وعيها بما يدور فيها وحولها.
الطفولةَ البائسة لا تعني بالضرورة طفولة الحرمان من الثياب والأحذية الجديدة والطعام والحلوى والسرير المريح واللعبة الجميلة والبيئة المحبة المتعاطفة المتجانسة، فبؤس طفولة سميح القاسم وجيله هو بؤس خاص بجيل ضربته الصاعقة وأرجحته بعنف بين الإنشاد “موطني” باللغة العربية إلى الإنشاد “ماري تملك جدياً صغيراً باللغة الإنجليزية إلى الإنشاد “جاء المطر. جاء المطر. جاء جاء جاء المطر” باللغة العبرية في حضرة الحاكم العسكري الطارئ الجديد الغامض المجهول والمرعب إلى حدّ بعيد.
نحن هنا
يروي الكتاب أنه بعد ثلاث سنوات على النكبة قدم أهل الرامة دليلاً جديداً على وحدتهم يوم فجروا “انتفاضة الزيت والزيتون” وتصدوا لقوات الجيش والشرطة اليهودية التي دهمت القرية لمصادرة موسم الزيت والزيتون لمصلحة الدولة ووقع الجرحى والمعتقلون من رجال الرامة وشبانها ونسائها واختلط الدم “المسيحي” بالدم “الدرزي” وضمت الكلبشات زنداً مسيحياً على زند درزي وأطلقت عنقاء الرماد العربية صيحتها المدهشة المدوية: “نحن هنا!”
وفي المدرسة الثانوية البلدية كانت مشاركة القاسم الأولى في “العمل الوطني” بتظاهرة مع زملائه احتجاجاً على زجاج نوافذ المدرسة المكسور وظروف الخدمة الدراسية المتدنّية آنذاك، ويومها تعلم الدرس الأول في أسرار “السياسة” ومعاني النضال.
ويوضح أن محاولات القاسم الشعرية كانت غزلاً في طالبة وهجاء لمعلم إلى أن قبض عليه الأستاذ سعيد بشناق “من أصول بوسنية” متلبساً بالغزل والهجاء فقال له: لديك موهبة ممتازة فلا تضيعها على هكذا مواضيع، واحترم “ملاحظته النقدية” وتذكر ملاحظة معلم الابتدائية الأستاذ الياس الحزوري: لا تذهب إلى القصيدة دعها تأتي إليك.
ويبين الكتاب كيف استقبل سميح القاسم العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وما سبقه من محاولات حكومة بن جوريون لفرض التجنيد الإلزامي على المواطنين العرب ثم الاكتفاء بالمجموعات الصغيرة كالدروز والبدو والكاثوليك والشّركس وصدور قانون التجنيد الإجباري في العام نفسه على الشبان الدروز، وأدرك أن مؤامرة التفرقة الطائفية وسياسة “فرق تسد” تشهد تصعيداً خطيراً فكان قراره بالمواجهة، وبدأ فكرة تنظيم الشبان في حركة مضادة. وتمكن عام 1958 مع صدور مجموعته الشعرية الأولى “مواكب الشمس” من تأسيس منظمة الشبان الدروز الأحرار شبه السرية التي استمدت اسمها من وهج “الضباط الأحرار” في مصر والتألق القومي الناصري.
وجراء موقفه من الاحتلال طرد من وظيفته كمدرس في وزارة المعارف وكتب قصيدة “خطاب من سوق البطالة” التي اشتهرت لاحقاً باسم “سأقاوم”:
حملت الجوع زوَّاده
ورحت مبكرا للشغل كالعاده
فلم أعثر على عملي
ولا وردي ولا خبزي ولا أملي
أنا جنديك المجهول يا أسوار طرواده!
باي باي تل أبيب
ويحكي القاسم تفاصيل انتسابه للحزب الشيوعي الإسرائيلي داخل الخط الخضر ولقائه جورج طوبي من قادة الشبيبة الشيوعية ومحرر “مجلة الغد” على فنجان قهوة : لماذا لا تأتي للعمل معنا؟ قلت: لست حزبياً. قال: لكنك صديق قريب جداً وما يجمعنا أكثر بكثير ممّا يفرقنا.
واتفقا على العمل وباشر مهمّة التحرير في “الغد”، لكن الشقاء على ما يبدو كان بانتظاره في “الغد” فلم يدم عمله طويلاً جراء نشره على غلافها صورة مكشوفة الصدر للنجمة الإيطالية صوفيا لورين او جينا بريجيدا؛ فقد تعرض لانتقاد شديد باستثناء جورج طوبي الذي وقف معه، وأصرت القيادة الصارمة على إطفاء الحماس للعمل في المجلة الشبابية الثورية والمتزمتة في آن.
وبعد شهور قليلة من البطالة اتّصل صالح برانسي من “قادة حركة الأرض” قائلاً إن اليساري الإسرائيلي أوري أفنيري يرغب في إصدار طبعة عربية من مجلته الشّهيرة “هعولام هزيه” وتعني بالعربية “هذا العالم” وإن رئاسة التحرير مضمونة إن كنت راغباً، فقال له سميح القاسم: أوري أفنيري يقيم حركة سياسية وينوي خوض الانتخابات للكنيست وأنا قومي تقدمي مستقل ولا يمكن أن أنضم لحركة يقودها أفنيري.
فأجاب صالح: لا شروط عليك تستطيع أن تظل مستقلاً لكن الرجل قريب منّا جداً، وهو ضد التمييز العنصري والحكم العسكري ومصادرة الأراضي العربية ويدعم حركة التحرر الفلسطينية والعربية.. فماذا تريد منه أكثر من ذلك!!.
ووفق الكتاب باشر شاعرنا العمل رئيساً للتحرير، وحققت مجلة “هذا العالم” نجاحاً كبيراً وسريعاً، لكن وظيفته لم تكمل سنتها الأولى؛ ففي العام 1966 زار البلاد “فلسطين المغتصبة” شخص يقول إنه حفيد البطل عبد القادر الجزائري ويحمل إسمه، وراح يطلق التصريحات المعادية للقومية العربية والمتعاطفة مع إسرائيل والصهيونية، ووصفته وسائل الإعلام العبرية برجل السلام في محاولة لتوظيفه واستغلاله في دعايتهم وتجنيده في حربهم الإعلامية الشرسة، مما حدا بسميح القاسم لكتابة مقال بعنوان: “إحذروا الخائن” احتج عليه أفنيري معلقاً: لماذا تتهمون كل داعية سلام بالخيانة؟ وجاء رد شاعرنا سريعاً وحاسماً: هذا الشخص ليس داعية سلام إنه مزور للتاريخ ومضلل ومعاد لحركة التحرر الوطني الفلسطينية وحركة التحرر القومي العربية، وهما حركتا سلام قائم على الحق والحرية والعدالة التاريخيّة.
ونتيجة الخلاف حمل سميح القاسم حقيبته معلناً: “باي باي تل أبيب.. باي باي “هذا العالم”.. باي باي أوري أفنيري.. باي باي حفيد عبد القادر الجزائري”.
غيبوبة 1967
دخل سميح القاسم في غيبوبة عقب الانكسارات واحتلال الجيش الإسرائيلي لأراضي ثلاث دول عربية عام 1967، وفقد الاتصال بمن حوله ورأى نفسه ولداً بدوياً يمسك بزمام بعير هائج في صحراء بلا حدود وثمة عاصفة تهب في جو أَغبر مسيج بأفق أحمر.. لكنه عاد إلى نفسه وقال لها: إما أن أنتحر أو أن أعتزل الدنيا، وأعتكف في كهف من كهوفنا الجبلية متصوفاً منقطعاً عن العالم لكن زاهي كركبي اقترح حلاً أكثر ثورية بقوله: آن الأوان يا سميح لتنضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي وكتب طلب العضوية على ورقة من كيس اسمنت.
لم تبدأ العلاقة بالحزب في العام 1967؛ ففي عام 1958 توترت العلاقات بين القوميين العرب والشيوعيين على خلفية صراع النظامين المصري والعراقي وبدأ الصراع محليا بين الحزب الشيوعي وحركة الأرض والعناصر القومية الأخرى، وكان حزبي “مباي” و”مبام” الإسرائيليين يستغلان الصراع لصالحهما حتى أن “أبو ضيا” محاسب بلدية الناصرة، وكان صهيونياً على المكشوف سار في مقدمة مظاهرة قوميّة عربية ضد النظام العراقي وضد الشيوعيين المحليين والاتحاد السوفييتي.
ويروي الكتاب الوقائع بضمير المتكلم فيقول: كان صديقك الشاعر راشد حسين آنذاك محرراً في جريدة “المرصاد” ومجلة “الفجر” اللّتين يصدرهما حزب “مبام” الإسرائيلي واستكتبك، وتضمن مقالك تحذيراً واضحاً للشيوعيين والقوميين من مغبة الصراع وتسلل الأحزاب الصهيونية إلى الجماهير العربية من ثقوب هذا الصراع وصدوعه، داعياً لتجاوز الخلاف والبحث عن صيغة للعمل المشترك؛ فقضايا العرب ليست نسخة حرفية عن قضايا الوطن العربي، ولا ينبغي أن تكون صراعات العالم العربي نموذجاً يحتذى به عند الجماهير العربية تحت الحكم الإسرائيلي.
وحول عضويته للكنسيت جاء في الكتاب أنه غير معني بعضوية الكنيست ولا يستطيع تجاهل المانشيت في صحيفة عربية يوم دخل الشاعر توفيق زياد الكنيست: “شاعر المقاومة الفلسطينية عضو في برلمان العدو الصهيوني”.
في العام 1968 اقترح الحزب الشيوعي عليه ومحمود درويش المشاركة في مهرجان الشباب العالمي في صوفيا، وهي المرة الأولى التي تتاح له مغادرة البلاد والسفر خارج الاعتقالات وإجراءات الإقامة الجبرية والرقابة العسكرية والقمع والإذلال. وكما جاء في الكتاب كان شاعرنا في حالة بين “الحلم والعلم” والشك واليقين والغبطة والألم فقد فرح الشبان العرب بوجود سميح ودرويش بيد أن آخرين قرروا مقاطعتهما وتشويه صورتهما، وقال بعضهم إن الشاعرين الحقيقيين معتقلان في السجن الإسرائيلي، وأنكما شخصان آخران ينتحلان شخصيتي شاعري المقاومة!!
ورغم ذلك كان بين الوفود العربية من يدبر لقاءات سرية.. وحين سمع القاسم بوجود الشاعر محمد مهدي الجواهري أصر على لقائه فهو أخوه جعفر ومن خاطبه في قصيدة :
عذرا يـا عملاق الكلمهْ
إن شابت ألفاظي عجمه
أنا جعفر في أرض أخرى
يمتص فم الطّاغي دمه
وذهب برفقة محمود درويش ومحمد ميعاري الشخصية الوطنية في فلسطين 1948 لمقابلة “سرية” مع الجواهري وتحولت الزيارة إلى صداقة جميلة نبيلة، وكان ودوداً مع أعضاء الوفود العربية الذين “اعترفوا” بأنك كنت قاسيا مع المهرجين “المزعبرين”: “غبار حذائي يشرف من هم على شاكلتكم من المحيط إلى الخليج”.
ويشير الكتاب إلى الموقف النبيل الذي برز فيه الشهيد غسان كنفاني حين هب مدافعاً عن “جناحي شعر المقاومة الفلسطينية”.
ويتحدث الكتاب عن تعرف القاسم إلى الصحفي المغربي علي بن عاشور في إحدى رحلاته إلى باريس الذي عرض عليه لقاء قائد الثورة الجزائرية أحمد بن بله؟ ليجيب: سأكون سعيداً جداً بلقاء الرجل وسأشم فيه رائحة الجزائر ورائحة جمال عبدالناصر أيضاً.
وكان اللقاء حميمياً واضطروا لإعادة تسخين طعام الغداء أكثر من مرة لأن ذكريات بن بله وأفكاره تتدفق وشهية التاريخ أقوى أحيانا من شهية الطعام، وقبل المغادرة أهدى بن بلله صورته وكتب على ظهرها “من رب السيف إلى رب القلم”.
ويكشف الكتاب لقاءه رئيس الوزراء السوري يوسف زعين عقب أمسية شعرية بالمسرح الملكي في استكهولم الذي أخبر القاسم ودرويش بصوت خفيض: “قصائدكما كانت عزائي في السجن”.
ويقول الكتاب إن القاسم آمن دائماً بضرورة الحوار مع الآخر ورفض الزّج بمعنى “الحوار” في مقولة “التطبيع” فالحوار “واجب والمثقف الذي يهرب من الحوار كالجندي الذي يهرب من المعركة”.
شطري البرتقالة
ويتحدث الكتاب عما اصطلحوا على تسميته بأدب الرسائل وهي المتبادلة مع الراحل محمود درويش، وأطلق عليها الشاعر محمد علي طه عنوان “رسائل بين شطري البرتقالة” أيام كانت تنشر في صحيفة بلال الحسن “اليوم السابع” في باريس و”الاتحاد” الحيفاوية.
ويقول إنه في واقع الأمر فقد بدأ الأمر لعبة بين صديقين لكن الإقبال الواسع لدى القراء على متابعة هذه الرسائل جعلها ظاهرة “أدبية” استثنائية. وعلى مائدة محمد حسنين هيكل في القاهرة أفصح الصحفي الكبير بأنه من متابعي الرسائل المتحمسين ومستعد لتقديمها إلى القراء في كتاب، وأبدى أكثر من فنان رغبته في مسرحة الرسائل التي “تؤرّخ” روحيا لفترة مهمة من حياة الشاعرين القاسم ودرويش.
ورغم حياته المشبعة بالدموع والابتسامات لا يحقد سميح القاسم على أحد، وإن كانت تلم به نوبات غضب عابرة على قاتلي شعبه وقامعي الشعوب وأعداء السلام والحضارة والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، لكنه لا يسمح بتجريده من إنسانيته كما جاء في “إنها مجرد منفضة”.
الكتاب: إنها مجرد منفضة
المؤلف: سميح القاسم
الناشر: دار رايه للنشر، حيفا، فلسطين المحتلة