حنا عبود
معرفة المستقبل Futurology علم يستشرف آفاق التطور من معطيات الحاضر، في أي فرع من الفروع التي يتعامل معها الإنسان. فهناك معرفة النجوم والنيازك ومسار الكواكب لأخذ الحيطة من كارثة كونية، وهناك استشراف لما تكون عليه الثقافة البشرية إن استمر التطوّر على هذه الحال، وهناك معرفة التكوين الجسدي إذا استمر البيولوجيون في اللعب بنظام المورّثات، وهناك معرفة مستقبل نظام سياسي أو اجتماعي أو ديني أو عرقي أو طائفي... من دراسة واقعه الحالي.
على أثر الحرب العالمية الثانية لعلم المستقبل مؤسساته في الدول المتقدمة، وكثر النشاط الفردي فظهرت كتب عن مستقبل العلم والمصير والدين والإنسان والأنظمة والغذاء والدواء والنوم... بل ظهرت كتب عن تصوّر عقول المستقبل وكيف ستكون مختلفة عن عقول الحاضر... والغالب على الدراسات المستقبلية الحالية أنها ذات صفة تشاؤمية مثل «صدمة المستقبل» لإلفين توفلر أو «مستقبلنا البشري» لفوكوياما الذي يرى أن الثورة البيولوجية ستغيّر الإنسان نفسه.
والشائع أن «العقل الحديث» ابتكر هذا العلم ليحل محل التنجيم والتبصير والأبراج النبوئية، وكل أدوات الكهانة القديمة من نبوءات أشعيا إلى جمجمات بيثيا في دلفي أو تمتمات كاهنات دودونا إلى مبصري الهند وحتى ضاربي المندل والودع وقارئي كتب التبصير وشطحات الصوفيين. ولو اعتمدنا منهج كانط في العقل الخالص والعقل العملي لرأينا أن إدراك المستقبل ليس بالعقل وحده، بل يمتد إلى الحس الغريزي، فالبقرة تأكل مشيمتها فوراً، حتى لا تشم الوحوش رائحتها فتلقى هلاكها مع وليدها، والنملة بغريزتها تقسم كل حبة حنطة إلى قسمين، لأنها إن تركتها نبتت من جديد، وخسرت مؤونتها، وبالتالي حياتها. فالقول إن الآباء «الأبرار» يؤسسون بعملهم ضماناً لمستقبل أبنائهم، قول مريب لإخفاء أنانيتهم، كما يرى تشيرنيشيفسكي. وبسبب ضيق المجال سنقدم عرضاً خاطفاً لبرادغما المستقبل في أهم الحضارات التي كان لها تأثير كبير على منطقتنا الشرق أوسطية، متجاهلين «اللوح الزمردي» وكل ما ينسب إلى هرمس أو النبوءات الفردية، التي دحضها شيشرون في كتابه «علم الغيب في العالم القديم».
الحضارة الهندية
في الهند تجد كل حضارات العالم تقريباً، فهي موئل الجماعات التي كانت تتعرض للقهر والاضطهاد، ولذلك نجد فيها كل الآراء المتعلقة بالمستقبل، سوى أن الطابع الغالب على الحضارة الهندية أنه لا يوجد مستقبل، فالمرء بعد موته يدخل في تجربة جديدة، فيثاب على أعماله أو يعاقب، ويعود إلى الحياة من جديد، فهناك دائماً دورة متجددة، وكل الأخلاق في المعتقد الهندي تنبع من هذه النقطة، فهناك التقمص والتناسخ والمسخ، وبحسب أعمال المرء يكون الجزاء، فمن عمل خيراً عاد إلى الحياة بثوب أفضل وأرقى، والعكس صحيح، لذلك نجد صناعة المستقبل تتركز في الأخلاق والتصرف البشري، من أجل عودة جديدة «متطهرة». وقد استغل فريدريك نيتشه هذه الفكرة وطلع علينا بفلسفته في «العود الأبدي» حيث البشرية تكرر نفسها في أدوار وأدوار... الخ.
أما خارج هذه العقيدة فقد انحصرت قراءة المستقبل في تخمين الطالع الفردي، فظهر لديهم التبصير والتنجيم وضرب المندل واستخدام الأرقام في كتابة الرقى والتعاويذ. وبلغت الأرقام الهندية من القدسية (تقديس الثلاثة والسبعة والتسعة والاثني عشرية والأربعين...) إلى درجة أن المشرق العربي ظل يستخدم مع اللغة طبعاً حتى اليوم، باعتبارها قادرة على التأثير في المستقبل وصياغته بحسب التصوّرات المسبقة.
مثل هذه الفلسفة جعلت التسامح سيّد الأخلاق، فكلما كان المرء متسامحاً ضمن عودة سعيدة وعيشة مديدة، إلى أن يصل إلى درجة النرفانا، مستقبل الأبرار.
الحضارة المصرية
إذا كان لقب «أم الدنيا» ينطبق على مصر، فإنه بسبب تلك الميثولوجيا الهائلة التي جعلت الحياة الحقيقية تكون في الآخرة وليست في الأولى. مستقبلك أيها الإنسان في الآخرة، وكل اندفاع لحيازة في هذه الدنيا يبعد الإنسان عن الوصول إلى الحقول الإليزيه السعيدة، فلن تسمح له «ماعات» ربة العدالة أن يصل إلى هذه الحقول، إذا لم ترجح كفة الخير بعد أن تضع ريشتها المشهورة في ميزان أوزيريس. وبما أن حياة المرء محدودة في الدنيا، بينما غير محدودة في الآخرة، فإن المستقبل يتركز في هذه الآخرة، التي لا يصلها إلا كل زاهد في متاع الحياة. وقد انتشر هذا المعتقد انتشاراً كبيراً في مصر والشرق الأوسط، بل حتى في أوروبا. وهذا المعتقد نفسه وراء كل الآثار المصرية التي نراها اليوم، فما الأهرام سوى «بيت الآخرة» حيث الحياة الأبدية السعيدة.
الحضارة البابلية
على النقيض من المصريين لم يؤمن البابليون بالعالم الآخر، والخلود خاص بالآلهة، باستثناء نيبتوشليم الذي انصاع لتعاليمهم وصنع الفلك ونجا. وفي ملحمة جلجامش تصريح كامل بذلك على لسان فتاة الحانة. ونصائحها لجلجامش خلاصة للفكر البابلي. ولذلك كانت الآثار التي تركتها هذه الحضارة صغيرة بالقياس إلى ما ترك المصريون، لا القبور ولا القصور ولا تماثيل الآلهة ولا أي شيء يقارب الآثار المصرية الضخمة والهائلة. وليس من الغريب أن يصدر أول قانون «مادي» في العالم أيام حمورابي من بلاد الرافدين. إن آثارهم ترجمة دقيقة لموقفهم من المستقبل، الذي لم يؤمنوا به في يوم من الأيام، وإنما الحياة مقتصرة على هذه الأرض.
في اليهودية
جمعت اليهودية تراث هذه المنطقة الأدبي والثقافي، ولكنها لم تجسد هذا التراث في أي شيء سوى التقاليد، فلا توجد رسوم ولا تماثيل ولا مسرح ولا صور ولا نقوش ولا زينة، حتى الموسيقى والرقص اعتبرا من الخطايا الكبرى، فعندما رقص داود أمام تابوت العهد على إيقاع الموسيقى، احتقرته زوجته ميكال بنت شاول، فدعا عليها بالعقم. لقد أبعِدت كل الفنون من هذا التراث. وهذا أول تراث في العالم لا تتجلى معالمه في الآداب والفنون. وقد انقسم الفكر اليهودي إلى فئتين: الفريسيين المؤمنين بفردوس سماوي في أحضان إبراهيم، والصدوقيين الذين لا يؤمنون بالآخرة ولا بأي شيء يتعلق بالآخرة. فكان لكل فريق باردغماه الخاص في تصوّر المستقبل، وبحسب هذا الباردغما توضع قواعد السلوك التي تضمن السلام.
برادغما اليونان
في التاريخ ثلاث ثورات: الزراعية والصناعية والمعلوماتية. ويرى الأنتروبولوجيون أن التفكير المستقبلي ظهر مع الثورة الزراعية، بعد أن ضمن الإنسان استمرار وجوده، ومال إلى الاستقرار. وفي هذه المرحلة، استنبت الإغريق من الميثولوجيا، التي سعت إلى تفسير الواقع، كل النشاطات الفكرية الأخرى، من فلسفة وعلم وفن ومسرح وأدب. والإغريق أول شعب فكر تفكيراً جاداً في المستقبل، فاعتمدوا على ثلاثة أشياء، قانون يضبط التصرف البشري، ونظام يضبط المؤسسات، وبرنامج تربية يقوم على الفنون والآداب. قبلهم لا نجد شيئاً مثمراً، وإنما محاولات فاشلة، ومن مسعاهم انطلقت كل برامج التربية في العالم، بهدف ضمان مستقبل بعيد عن الوحشية على هذه الأرض وليس في عالم آخر. وبلغوا من الدقة في حماية الديمقراطية أنهم ابتكروا «القرعة» لاختيار الناجحين في انتخابات الهيئات التشريعية والتنفيذية، بحيث لا يكون من أنفق الأموال في ترشيحه أوفر حظاً ممن لم ينفق دراخما واحدة. وفرضوا على الأغنياء الإنفاق على النشاط الأدبي والفني، إلى درجة أن صار من يتفرج على المسرح يتقاضى أجر يومه. إنهم لم يكتفوا بقوانين ليكرجيوس ولا قانون صولون. إنها تضبط الحاضر، أما الفنون والآداب فهي التي تضمن السلوك البشري الراقي، الرصيد الحقيقي لصناعة مستقل آمن. وفرضوا رقابة شديدة على المؤسسات، وساعدوا المجتمع المدني، وجعلوا الإنسان هدفهم الوحيد، فلا ضمان لمستقبل من دون تربية أدبية راقية، فهي أشد تأثيراً في الوجدان من القوانين الموضوعة. ومن البرامج اليونانية انطلقت حركة النهضة الأوروبية «الإنسان مقياس كل شيء» وأي خلل في هذا المخلوق يعني ضياع المستقبل. إن اليونان هي التي علمت البشرية القيم المطلقة: الحق والخير والجمال، وهي التي حددت الفضائل البشرية بالعدالة والشجاعة والعفة والحكمة، وعلى هذا الأساس يبنى المستقبل، وليس على برادغما الكارتيلات والتروستات والحيتان العملاقة. وهذا ما انطلق منه طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر». كان اليوناني يعيش الحياة عريضة، فقام بخلق ما يمكن تسميته «صناعة الفرح». فلا شيء يثير الخوف من المستقبل إلا الإنسان، فهو الوحيد القادر على الفساد والإفساد والفتن والحروب... وليس هناك ما يكبح ذلك إلا صناعة الفرح، حتى أن أعيادهم تجاوزت عدد أيام السنة، وكلها أعياد تقوم على الفنون الجميلة والمباريات الأدبية والرياضية... وهي التي يحاول العالم الحديث استعادتها.
خلاصة
اعتمدت اليونان على الأدب والفنون الجميلة لخدمة الإنسان الحي في الزمن المعاش. ومن هذا البرادغما ينبثق الفرح، وهو أكبر ضمان للمستقبل. المغيظ والمستغل والشره والأناني... لا يمكن أن يأتي إلا بالنكد وبمستقبل كئيب ومريع. وهذا ما جعل اليونان قدوة أمم الأرض بسبب برادغماها العظيم.
وما ذهب إليه هيغل من أن عصر الحرية قادم حين ينتهي التاريخ بتطابق الفكر المطلق مع الواقع، أو ما جعله ماركس عصر الشيوعية، حيث لا يكون ثمة صراع بين طريقة الإنتاج وأدوات الإنتاج، فيزول الصراع الطبقي، وبالتالي الصراع بين الأمم... بات في رأي المفكرين الساخطين، من اشبنجلر حتى نعوم شومسكي من اليوتوبيا لا يختلف عما كتبه اليوتوبيون أمثال أفلاطون والفارابي وكامبانيلا... وموقفهم من هذه التصوّرات يشبه موقف أرستوفانيس من التصوّرات اليوتوبية في أيامه في مسرحيته «الطيور»...