السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أحد العرب الأوائل الذين اهتموا بالدراسات المستقبلية والدراسات الاستراتيجية

أحد العرب الأوائل الذين اهتموا بالدراسات المستقبلية والدراسات الاستراتيجية
28 فبراير 2019 03:13

هاشم صالح

يشكل علم المستقبل أو علم المستقبليات أحد العلوم الأساسية في عصرنا الراهن. والسبب هو أنك لا تستطيع أن تتطور أو تتقدم إلى الأمام إلا إذا خططت لمستقبلك بشكل جيد. وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة أو الأمة بشكل عام. ومعلوم أن الأمم المتقدمة تصرف أموالاً كبيرة على البحوث التي تخطط للمستقبل. إنها تستبق على المستقبل وتحضر له قبل أن يحصل بطريقة مزعجة مضادة لمصالحها ومصالح شعوبها. إنها تحاول تحضير المستقبل الأفضل للأجيال القادمة. فمن لا يحضر لمستقبله يفوته قطار التاريخ. ولتوضيح هذه الفكرة اسمحوا لنا أن نورد النكتة التالية. عندما سألوا أنشتاين عن سبب اهتمامه الشديد بالمستقبل أجابهم بكل بساطة: لأني قررت أن أمضي بقية عمري فيه! ولكن للأسف هناك أناس لا يعيشون إلا في غياهب الزمن المنصرم. إن عيونهم مستديرة كلياً نحو الماضي بدلاً من أن تكون متوجهة نحو المستقبل.

يمكن القول بأن المهدي المنجرة، هو أحد المثقفين العرب الأوائل الذين اهتموا بالدراسات المستقبلية وكذلك الدراسات الاستراتيجية، وهما شيئان مترابطان. ولهذا السبب فقد انتخب عام 1981 رئيساً للاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية. فمن هو المهدي المنجرة يا ترى؟ باختصار شديد: لقد ولد في الرباط عام 1933 وفيها مات عام 2014 عن عمر يناهز الثمانين عاماً. لقد ولد في أسرة محافظة ولكن ثرية جداً إلى درجة أن والده استطاع إرساله إلى أميركا عام 1948 لإكمال دراساته فيها. وكان الأسهل عليه والأرخص بكثير أن يرسله إلى فرنسا القريبة لا إلى أميركا البعيدة، ولكن يبدو أن كرهه الاستعمار الفرنسي هو الذي دفعه إلى ذلك. ثم إنه يمتلك المال الكافي لتعليمه في أي مكان في العالم. ولهذا السبب فإن المهدي المنجرة على عكس معظم المثقفين المغاربة ذو مرجعيات ثقافية أنغلو ساكسونية لا مرجعيات فرنسية، وإنْ كان يعرف الثقافة الفرنسية جيداً. وبعد أميركا قفز إلى إنجلترا ونال فيها شهادة الدكتوراه عن الجامعة العربية. ثم عاد إلى الوطن غدية الاستقلال. وقد رحب به الملك محمد الخامس وعينه مديراً للإذاعة والتلفزيون. بل وعرض عليه مناصب وزارية رفيعة، ولكنه رفضها بحجة التفرغ للكتابة والشؤون الفكرية. في أحد مواقفه يقول المهدي المنجرة إن العالم الإسلامي وصل إلى أسوأ درجة من التقهقر في العصر الحالي لأن المسلمين ابتعدوا عن الاجتهاد والتجديد، وسجنوا أنفسهم في الماضي دون الانفتاح على المستقبل. وهذا كلام صائب لا غبار عليه. ثم يصرح في مكان آخر قائلاً إن هناك اتجاهاً في العالم العربي للفظ الأصولية. فقبل 15 أو 20 سنة لم تكن الأصولية تشكل مشكلاً. على الرغم من هذه الآراء المتطورة إلا أن المهدي المنجرة لم يكرس عمره لنقد العقل الديني كما فعل الجابري أو العروي أو أركون. وذلك لأنه شغل بمسائل أخرى مهمة أيضاً. وفي كل الأحوال فقد بقي مفكراً تنويرياً وحريصاً على نهضة العرب والمسلمين. وقد دافع عن اللغة العربية أقوى دفاع. ومعلوم أنها تتعرض لهجمة شرسة بغية إحلال اللغات الأجنبية بل وحتى اللهجات العامية. وهذا مخطط خطير وقف في وجهه كبار مثقفي المغرب لحسن الحظ من أمثال العروي ومحمد سبيلا وآخرين عديدين. فلا حضارة عربية من دون لغة عربية. نقطة على السطر. ومستقبل اللغة العربية أمامها لا خلفها.

اتساع المعرفة
فيما يخص الوضع الكوني يرى المهدي المنجرة أن عصرنا الحالي يتميز بعدة سمات أهمها تسارع حركة التاريخ. فالمعرفة العالمية تتضاعف كل سبع أو ثماني سنوات وفي كل دقيقتين تصدر مقالة علمية في إحدى مجلات العالم. فمن يستطيع أن يستوعب كل ذلك؟ وأي عقل جبار قادر على الإلمام بالمعرفة الهائلة حالياً؟ هنا يطرح المهدي المنجرة معضلة حقيقية. يقال بأنه حتى هيغل كان المثقف قادراً على الإلمام بكل ثقافة عصره. أما اليوم فأصبح ذلك مستحيلاً. ولذلك لا بد من الاختصاص. فأنت لا تستطيع أن تفهم كل شيء. وهناك عبارة رائعة لنيتشه يقول فيها ما معناه: هناك أشياء كثيرة لا أريد أن أعرفها. وذلك لأن الحكمة تقتضي وضع حد حتى على المعرفة. ألن ينفجر دماغك إذا ما حاولت أن تعرف كل شيء؟ ولكن نيتشه يقصد شيئاً آخر أيضاً. إنه يقصد أن هناك مؤلفات تافهة كثيرة لا ينبغي أن تضيّع فيها خمس دقائق من وقتك. وبالتالي فأهم شيء قبل البدء بعملية القراءة هو حسن الاختيار. بمعنى هناك كتب تستحق أن تُقرأ وكتب لا تستحق على الإطلاق.
هذا وقد نبه المهدي المنجرة إلى تزايد أهمية الثقافة ومجتمع المعرفة في عصرنا الحالي. ففي مؤتمر شمال/‏‏ جنوب الذي انعقد في روما عام 1978 قال هذا الكلام المهم: إن الجانب الأكثر سياسة والأكثر حسماً في العلاقات بين الشمال والجنوب هو ذو أصل ثقافي لأنه يخص القيم. لتوضيح هذه النقطة سوف أقول معلقاً وشارحاً متوسعاً: لقد حذر الرئيس البولوني مؤخراً أبناء شعبه من اتباع كل موضات الغرب وصرعاته وبالأخص الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها. وهذا ما فعله ليش فاليسا من قبله وما فعله فلاديمير بوتين أيضاً. وقال الرئيس البولندي إننا لسنا آسفين لدخول الاتحاد الأوروبي وسنبقى فيه ولكننا لن نسمح لأحد بأن يفرض علينا انحرافاته الأخلاقية أو أمراضه. هذا الكلام ليس صادراً عن رئيس عربي أو مسلم لكي يتهموه بالأصولية والتخلف ومعاداة الحداثة والحضارة. وإنما هو صادر عن رئيس أوروبي بل ومسيحي كاثوليكي. لماذا أقول هذا الكلام؟ لأن الانحرافات الأخلاقية أصبحت حقيقة راسخة في الغرب بل ومعصومة لا يمكن مسها ولا حتى مناقشتها. وأنا هنا أغامر بنفسي وأعرضها للتهلكة. ولذلك قال المفكر الفرنسي المحترم جان كلود غيبو في كتابه: «خيانة التنوير»، بأن الغرب تخلى عن أهم مبدأ من مبادئ التنوير والحداثة مؤخراً عندما أصبح دوغمائياً يرفض عرض تصرفاته على العقل النقدي لكي يمحصها ويتفحصها كما أوصاه فيلسوف التنوير الأكبر إيمانويل كانط. بمعنى آخر لا يحق لك مناقشة الغرب لأن كل تصرفاته معصومة لا تناقش حتى ولو كان انحرافات خطرة تؤدي إلى تدمير المجتمع. الرئيس البولوني وكثيرون غيره من حكماء أوروبا والغرب المستنير الأخلاقي يرفضون هذه الهرطقة الجديدة المدعوة: بزواج المثليين أي الشواذ. ولا يريد لشعبه أن يُعدى بهذه الأمراض «الحضارية» جداً!. وهذا من حقه. بل ومن واجبه أن يحمي شعبه. ما هذه البدعة التي لا بدعة قبلها ولا بعدها؟ ما هذه الهرطقة؟ ما هذا الشر المستطير؟ شكراً للرئيس البولوني. شكراً للقائد التاريخي ليش فاليسا. شكراً للرئيس بوتين لأنه منع إدخال هذه السخافات والانحرافات إلى روسيا. شكراً لكل حكماء الغرب وعقلائه الذين يحاولون أن يقفوا سداً منيعاً ضد هذا التيار الجارف، ضد هذا الوباء، ضد هذا الطاعون الأسود الذي يكتسح الغرب من أقصاه إلى أقصاه. ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن علم المستقبليات مفتوح على جميع الاحتمالات، على الخير كما على الشر. إنه يعني أن مستقبل البشر، حداثة البشر، على المحك. ففيها الغث وفيها السمين. والبشرية قد تسير في طريق الانحراف والفساد والدمار والشهوات الإباحية المطلقة، وقد تسير في خط التحرر العقلاني والأخلاقي الذي يحترم المرأة والرجل على حد سواء. ولكم الخيار.

معادلة خاطئة
في مكان آخر يقول لنا المهدي المنجرة ما معناه: المعادلة التي تقول بأن الحداثة تساوي التغريب خاطئة ولا معنى لها. وتجربة اليابان أفضل مثال على تكذيبها. والمثقفون اليابانيون يقولون لك ما فحواه: منذ الآن فصاعداً ينبغي أن ننظر إلى العالم بشكل مختلف بعد أن نجحت اليابان في كسر احتكار الغرب للحداثة الصناعية والتكنولوجية. بعد الآن ينبغي أن نخرج من تصنيفات الغرب والإمبريالية الأميركية، فالنظام العالمي الجديد سيكون نظام تعددية الحضارات أو أنه لن يكون. ولا توجد حضارة واحدة قادرة على قولبة العالم كله في صورة نمطية. ماذا نستنتج من هذا الكلام؟ نستنتج أنه يحق للعالم العربي والإسلامي صياغة حداثته الخاصة بالذات. وهي حداثة ينبغي أن تحافظ على مثاليته وأخلاقيته وروحانيته الجميلة. لا ريب في أنه توجد في حضارة الغرب أشياء كثيرة رائعة يمكن تبنيها بعد تبيئتها مع الشخصية العربية الإسلامية: كالتنوير الديني، والإشعاع الفلسفي، وحرية التعبير والتفكير والنشر، وحرية الضمير والاعتقاد، وتحرير المرأة ضمن حدود معقولة وأخلاقية، الخ.. ولكن هناك أشياء أخرى نرفضها. وبالتالي فلنأخذ الصالح ولنترك الطالح، لنأخذ الإيجابيات ولنترك السلبيات. لسنا مجبرين على أخذ كل شيء ولا على رفض كل شيء.

اختلال توازن
فيما يخص الأوضاع الصعبة للعالم الإسلامي يقول لنا المهدي المنجرة ما معناه: إن العالم الإسلامي هو الأقل اهتماماً بالبحث العلمي والطبي والصيدلي والتكنولوجي. وبالتالي فنحن عالة على الغرب فيما يخص المخترعات والمكتشفات والأدوية التي قلصت من آلام الإنسان بل وزادت من عمره سنوات عديدة. وهذه فضيلة للغرب وينبغي أن نعترف بها. الغرب ليس كله مساوئ وشرور كما تدعي القوى الظلامية عندنا. وعلى أي حال فإبداعيتنا ضعيفة إنْ لم تكن معدومة في مجال علم الفيزياء والكيمياء والفلك والبيولوجيا الخ.. والثقافة الأدبية تطغى علينا وليس الثقافة العلمية. وبالتالي فيوجد هنا اختلال توازن فظيع وينبغي تصحيحه يوماً ما. وهذا ما يدعو إليه أيضاً الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشيل سير.
ثم يطرح المهدي المنجرة هذا السؤال المهم: كيف يمكن للمرء أن يعتبر نفسه مسلماً وهو يجهل أول آية أنزلت في القرآن: «اقرأ باسم ربك الذي خلق»؟ فهل يمكن لأمة اقرأ ألا تقرأ؟ وهل يمكن أن نسكت على الأمية المتفشية في مجتمعاتنا بعد اليوم؟ يقول لنا العديد من الباحثين الفرنسيين المنصفين بأن الحضارة العربية الإسلامية كانت أعظم حضارة على وجه الأرض. وكان الإسلام دين العلم والعقل والفلسفة والاكتشافات والاختراعات. فكيف انحدرت بنا الأمور حتى وصلنا إلى عصر الإخوان المسلمين وبقية الظلاميين الكارهين لنور العلم وضوء الفلسفة؟ وهل يعقل أن نظل نكفّر ثلاثة أرباع البشرية في القرن الحادي والعشرين وعصر العولمة التي ربطت البشرية كلها بعضها بالبعض الآخر؟ لحسن الحظ، فإن الإمارات العربية المتحدة ترفع عالياً راية الإسلام الحقيقي، الإسلام الصحيح الذي لا يحرم أحداً من رحمة الله. إنها ترفع عالياً راية الإسلام الحضاري الوسطي المتسامح في خضم كل هذا الظلام والظلاميات والإخوانجيات التي تحيط بنا من كل الجهات. إنها تريد إعادة العصر الذهبي للإسلام مرة أخرى، عصر بغداد والمأمون، عصر قرطبة والأندلس الزاهرة التي تعايشت فيها كل الأديان والمعتقدات في ظل إسلام تنويري، سمح، عظيم.. والإمارات إذ تفعل ذلك تخطط للمستقبل، تستبق على المستقبل، تصنع المستقبل. ولكن أكثر الناس لا يعلمون..

من أقوال المهدي المنجرة:
* العالم الإسلامي وصل إلى أسوأ درجة من التقهقر في العصر الحالي لأن المسلمين ابتعدوا عن الاجتهاد والتجديد وسجنوا أنفسهم في الماضي

* عصرنا الحالي يتميز بسمات عدة، أهمها تسارع حركة التاريخ، فالمعرفة تتضاعف كل سبع أو ثماني سنوات، وفي كل دقيقتين تصدر مقالة علمية في إحدى المجلات

* الجانب الأكثر سياسة والأكثر حسماً في العلاقات بين الشمال والجنوب هو ذو أصل ثقافي لأنه يخص القيم
* المعادلة التي تقول بأن الحداثة تساوي التغريب خاطئة ولا معنى لها وتجربة اليابان أفضل مثال على تكذيبها

* العالم الإسلامي هو الأقل اهتماماً بالبحث العلمي والطبي والصيدلي والتكنولوجي، وبالتالي فنحن عالة على الغرب فيما يخص المخترعات والمكتشفات

* كيف يمكن للمرء أن يعتبر نفسه مسلماً وهو يجهل أول آية أنزلت في القرآن: «اقرأ باسم ربك الذي خلق»؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©