الاتحاد-خاص:
حين غاب 'أحمد زكي' بدا وكأنه رحل من كل بيت عربي، الابداع في كل الأدوار، وقدرة تعبيرية هائلة، وكان عندما يتقمص أي شخصية يظهر 'الانسان الأصلي' فيه، لأنه انسان جدا كان فنانا جدا·
لكن خروجه من الفن السابع على ذلك النحو المأساوي، طرح من جديد تلك الأسئلة حول 'أزمة البطل' في السينما المصرية، نجوم مثل 'نورالشريف' و'محمود ياسين' و'حسين فهمي' و'عادل امام' و'محمود عبدالعزيز' يتجهون شيئا فشيئا نحو الشيخوخة، فأين البديل؟
قد يكون السؤال الحقيقي: هل من حاجة للبديل في زمننا الراهن وبعدما بدا، في ثورة الاتصالات، ان الفنان لم يعد خارقا ونزل من برجه العاجي؟
الغياب المأساوي للفنان 'أحمد زكي' طرح 'أزمة البطل' في السينما المصرية بوجه عام والسينما العربية بوجه خاص·
هذه المسألة طرحت حتى في المجلات الأميركية والأوروبية النقدية والفنية، ففي الخمسينات والستينات من القرن الماضي وصولا الى الثمانينات كانت الشاشة تكتظ بالوجوه الكبيرة، 'انتوني كوين' و'آلان ديلون'، و'ريتشارد بيرتون' و'لورنس اوليفييه'، و'كلارك غيبل' و'بيتر اوتول'، و'مارسيلون ستروياني'، و'روجر مور'، و'جيمس ماسون'، و'ايف مونتان'، و'روبرت ميتشوم'، و'جان- بول بلموندو'، و'روبرت ديدفورد'، و'فيتوريو غاسمان'·
نجوم كانت تتناثر على امتداد الشاشة الأميركية والفرنسية والايطالية، الألمان أكثر جدية من ان يولوا الكثير من الاهتمام للفن السابع، 'ديرشبيجل' قالت ان من الصعب على الألماني ان يتخلى عن تقاطيع وجهه، وعلى هذا الأساس، لا تمكن المقارنة، مثلا بين وجهي 'ونستون تشرشل' و'كونراد ادينارو'، المانيا تنتج الفلاسفة والشعراء والموسيقيين الكبار ('جوتة'، 'نيتشه'، 'هيجل'، 'شوبنهاور'، 'هيدجر'، 'فرويد'، 'شتراوس'، 'موزار'، 'بيتهوفن'··)، حتى اذا ما استثنينا 'سماريا شل' و'رومي شنايدر' و'هانا شيجولا' فان المانيا لم تنتج فنانات مثل 'مارلين مونرو' أو 'بريجيت باردو' أو 'صوفيا لورين' التي تقول ان وجود ايطاليا على شاطئ المتوسط هو السبب في تعدد الوجوه: 'تولد الايطالية ومعها خرافة صغيرة·· يجب أن تكون جميلة'، وعلى هذا الأساس، كنا أمام 'جينا لولو بريجيدا'، و'روزانا بوديستا'، و'سيلفانا منجانو'، و'كلوديا كاردينالي'، و'مونيكا بيللوتشي'، و'اورنيلا موتي'، و'مونيكا فيتي'، الخرافة التي تضحك، ولعلمكم فان حورية البحر ولدت على احدى الصخور المتوسطية، ودون ان يغفل أحد ما فعلته بنات الجن مع 'يوليس' وهو يجتاز البحر فيما تنتظره 'بنيلوب' وهي تغزل الصوف دون طائل·
وكان البعض يأخذ على الشاشة المصرية انها تنتج أبطالا من طينة واحدة أو من تشكيلة واحدة، كان 'عماد حمدي' هو النموذج الذي لا يشق له غبار، بعدما حاولت السينما المصرية ان تقدم 'أنور وجدي' الذي اذا ما نظرنا اليه بعين ناقدة فسوف يتبين لنا انه خال كليا من أي موهبة سوى موهبة شاربيه اللذين راح الكثيرون في مدن المشرق العربي، لا سيما بيروت ودمشق، يقلدونهما·
بالطبع، كان هناك 'يحيى شاهين' و'حسين صدقي' و'يوسف وهبي' الذي كان يخاطب حبيبته أو زوجته أو ابنته كما لو انه يخاطب جماهير غفيرة، فيما كان الماكياج يحجب، ببدائيته، الكثير من التعابير وهو ما جعل 'حسين رياض' يعترض على تغيير ملامح وجهه، ولا يقبل سوى بالحد الأدنى من الماكياج، فيما كان 'عبدالوارث عسر' يمثل كل البؤس الذي يلاحق سكان الأحياء الفقيرة·
بعد ذلك، أو بموازاة هؤلاء، كان 'فريد شوقي' الذي استقطب الكثيرين على امتداد العالم العربي، وحش الشاشة الذي يصلح لأدوار العنف التي كانت شائعة جدا في الأفلام الأميركية، وكان هناك 'توفيق الدقن' الذي كان يصر على التعاطي مع وجهه بالكثير من الرشاقة 'لأن الله خلقني هكذا، قبيحا وبملامح تآمرية، فيما أنا أضم بين ضلوعي قلب دجاجة'، ومن هذا النوع من النجوم، بالأدوار الشريرة، كان 'محمود المليجي' الأكثر سطوعا، والأكثر ابداعا في التعبير مع لكنته الخاصة التي تصلح كثيرا للمسرح·
لكن هذا الشرير الذي بلا قلب والذي كان يسيطر على رواد السينما رغم أدواره التي تنتهي به دائما الى الفشل أو الى الموت، ما دام ينبغي على الأفلام ان تتوج بنهايات سعيدة 'رحم الله 'حسن الإمام' الذي كانت أفلامه تنتهي دائما بحفل الزفاف رغم ان المجتمعات العربية كانت تكتظ بأصحاب القلوب المنكسرة، أذهل المخرج الكبير 'يوسف شاهين' وهو يخرج فيلم 'الأرض' الذي حصد سلسلة من الجوائز·
ذاك الفلاح الذي ترتبط دورته الدموية بالأرض وبكثافة تعبيرية مذهلة، 'محمود المليجي' الذي لا شك ان المخرجين استفادوا من أدائه 'الشرير' لأن أدوارا من هذا القبيل تحتاج الى الكثير من البراعة والحنكة واللعب بأشياء الوجه، ناهيك عن ان الممثل يجازف بموقف الجمهور منه في مجتمعات عاطفية تتجه دوما لمصلحة الضحية أو لمصلحة أصحاب الأدوار الطيبة·
كمال الشناوي
مع 'كمال الشناوي' بدأ الشكل الأقرب الى النموذج الهوليوودي الذي يأخذ بالاعتبار جاذبية الوجه الذي يفترض ان يكون مقبولا في كل الأفلام، وكان للنجم معجبوه في كل مكان، عندما يظهر اسمه، لا بد ان يتدفق الناس على صالات السينما، ولكن ليظهر بالتزامن تقريبا 'عمر الشريف' الذي تنتمي عائلته الى مدينة زحلة في منطقة البقاع اللبنانية، وهي المدينة التي وضع فيها أمير الشعر 'أحمد شوقي' قصيدة 'يا جارة الوادي' التي غناها 'محمد عبدالوهاب'·
هذا نموذج مختلف تماما عن 'صلاح ذو الفقار' و'عمر الحريري' عينان شديدتا التوهج، وقدرة على تمثيل الأدوار الصعبة وبتلقائية مثيرة· كل الذين عملوا معه أذهلهم بامكاناته التعبيرية الهائلة التي جعلت النجمة الكبيرة 'فاتن حمامة' تقع في حبه في نهاية فيلم 'صراع في الوادي' بالاضافة الى العينين، كان هناك الصوت السحر، الموهبة حملته الى هوليوود حيث الأفلام الضخمة مثل 'الدكتور جيفاغو' و'لورنس العرب'، في نهاية المطاف عاد الى أرضه ليلعب 'الاراجوز' لكن الناس كانت قد اعتادت عليه بالشخصية الأنيقة، ومن لاس فيجاس الى الكوت دازور، كثيرون اعتبروا ان 'عمر الشريف' لم يكن صالحا للدور أبدا وان كان معلوما ان كل مخرج أو كل حالة سينمائية تحاول ان تصنع نموذجا: 'زوربا' (انتوني كوين)، أحد نوتردام (السير تشارلز لوتون)، السوبرمان (كريستوفر ريف) و'جيمس بوند' (شين كونري)·
في مدننا، وفي قرانا، هناك دائما نماذج مختلفة، رجال 'العقل الآخر'، وحتى 'المزاج الآخر'، العديدون من الروائيين تصدوا لهذه الحالات 'الشاذة' وعمدوا الى اجراء الاسقاطات الاجتماعية والثقافية والانسانية عليها، وان كنا نفتقد الى حد ما هذا النموذج، إلا في حالات محدودة، لدى كاتب كبير مثل 'نجيب محفوظ' الذي كان المجتمع عنده هو البطل الحقيقي·
كما حاولت السينما المصرية التنويع، دون التوقف عند 'فاتن حمامة' و'ماجدة' و'مديحة يسري'، بدأت الشقراوات يظهرن على الشاشة بدءا من 'ليلى فوزي' (وعيني 'لبنى عبد العزيز') وانتهاء بـ'مريم فخر الدين' و'ناديا لطفي'، ما بالكم بـ 'هند رستم' بالشعر الأشقر الذي 'ملأ' الجماهير العربية في 'شفيقة القبطية'؟
التنوع أو التنويع كان ضروريا وان كان اللون الأسمر هو الغالب في العالم العربي، في الغرب يبحثون أيضا عن السمراء وحتى عن الزنجية كونها تمثل ثقافة أخرى، بما في ذلك الثقافة الجسدية، وان بقي الفرنسيون والايطاليون الذين لديهم الكثير من السمرة بعيدين عن النموذج الزنجي الذي رأيناه، على الشاشة الأميركية، يبلغ ذروته مع 'سيدني بواتييه' (إحزر من سيأتي الى العشاء)·
حسين فهمي
كثيرون توقفوا عند 'مريم فخر الدين' و'ناديا لطفي'، ولكن على مستوى الرجال كنا نشاهد 'نور الشريف' أو 'أحمد زكي' أو 'محمود ياسين' أو 'عادل امام' بالنموذج الذي ينبثق عن البيئة المصرية، الى ان اخترق هذا الوضع النجمان الشقيقان 'حسين ومصطفى فهمي'·
في احدى السنوات، ظهر 'حسين فهمي' أكثر من مائة مرة على أغلفة مجلات فنية عربية، والعديد من هذه المجلات وصفته بفتى الشاشة الأول في مصر، مع ان هناك من يجاريه ان في الأداء أو في الموهبة، التركيز كان بالدرجة الأولى على شكله وان كان أحد لا ينكر تمتعه بمستوى عال من الموهبة التي ظهرت في أعمال عديدة على الشاشتين الكبيرة والصغيرة·
ولكن هل حقا انه مع 'أحمد زكي' كان الانسان 'الأصلي' هو الذي يظهر على الشاشة أكثر من الممثل؟
في كل الأدوار وصل الفنان الراحل الى الذروة، لكنه تعرض للانتقاد بسبب دوره في فيلم 'ناصر '56 باعتبار انه كان على الفنان ان يتدرب أكثر على 'سحر الزعامة' في شخصية الرئيس 'جمال عبدالناصر'، حتى اذا ما تقمص دور الرئيس 'أنور السادات' كان واضحا ان لهجته تخضع لميكانيكية معينة أفقدتها التلقائية التي كان يتصف بها الرئيس المصري الراحل، وبعيدا عن مأساوية السنوات الأخيرة من عمر 'أحمد زكي' والتي هزت مشاعر العرب في كل مكان، كان هناك من يسأل: 'لماذا استهلاك الرجل بهذه الطريقة؟ وهل باستطاعة فنان واحد ان يجسد شخصيات 'جمال عبدالناصر' و'أنور السادات' و'عبدالحليم حافظ'·
التجربة الدنماركية
سؤال طرحه نقاد موضوعيون، وبعيدا عن المشاعر الذاتية، وعن الموهبة الاستثنائية للفنان الراحل الذي طرحت وفاته، فعلا، ما بات يعرف بـ 'أزمة البطل'·
'محمود ياسين' بات يلعب أدوار كبار السن و'محمود عبد العزيز' للأدوار نفسها تقريبا، وكذلك 'نور الشريف' و'فاروق الفيشاوي'، كما ان 'عادل امام' كرس نفسه في 'التجربة الدنماركية' كأب لشبان كبار، والأمر ينسحب على 'محمود قابيل' و'صلاح العدل'، فهل يمكن تصنيف 'عماد عبد الحليم' و'هشام سليم' و'محمود حميدة' في مستوى نجوم الجيل الذي سبقهم؟
الحقيقة ان مفهوم البطل تغير كثيرا فيما القصة والسيناريو يلعبان الآن دورا أكثر أهمية في اجتذاب المشاهد مع تطور التقنيات الضوئية التي تجعل نجمة مثل 'فاتن حمامة' تجاوزت السبعين تظهر كما لو انها عادت عشرين عاما الى الوراء·
لا مجال للحديث عن العمالقة والسبب بسيط، فثورة الاتصالات التي أنتجت التلفزيون والانترنت كان لها دور مهم في ازالة الجدران التي كانت قائمة سابقا، وأبناء الأجيال الماضية يتذكرون كم انهم كانوا مفتونين بممثل مثل 'جون واين' في أفلام الغرب الأميركي، وكانوا يرون في الفنان شخصية خارقة، الآن لم يعد الأمر كذلك، ولم يعد الجمهور يبهر اذا شاهد أحد الفنانين يتسوق في سوبر ماركت أو ينتظر في عيادة طبيب بسبب اصابته بالروماتيزم·
المهم ان يكون الفنان موهوبا ومؤثرا في آن، بالطبع لا يزال الجمهور يعطي الأولوية للممثل البهي الطلعة أو الجذاب، ولا شك ان 'أحمد زكي' كان يجمع كل المزايا التي لا يمكن القول انها تتوافر في 'حسين فهمي' الذي طالما ركز المخرج على شكله، فيما كان 'أحمد زكي' يتمتع بحيوية نادرة، يستطيع ان يلعب، ابداعيا دور 'الزعيم الخالد' وبالمستوى نفسه يلعب دور المتسكع أو المخبول أو المتهتك أو الشحاذ·
كان الأول دون شك، ودون الاستهانة بموهبة 'نور الشريف' أو 'حسين فهمي'، ولكن ليست هذه هي المشكلة، فالفن السابع في مصر يتراجع على نحو مخيف فعلا (تابعوا الفضائيات ولاحظوا كيف تتكرر الأفلام وتتكرر على ذلك النحو البشع)، البطل يتراجع، هذا في كل مكان آخر من العالم، الشاشة تلتصق بالأرض، لم تعد في البرج العاجي، عادة في آخر الفيلم، البطل هو الذي ينتصر، الآن في آخر السينما، لا حاجة للبطل·