8 أغسطس 2007 04:09
ذهبت إلى العمل في جامعة الكويت، أستاذاً معاراً، سنة ،1983 وكنت حديث عهد بدرجة الأستاذية التي هي أعلى درجات السلم الأكاديمي، وأسعدني وجود الكثيرين من الذين كنت أعرفهم من قبل في قسم اللغة العربية الذي بدأت التدريس فيه، مع مطلع شهر سبتمبر من العام نفسه، وقابلت الدكتور عبد الهادي محبوبة، زوج نازك الملائكة الذي كان قد تخرج من قسم اللغة العربية - آداب القاهرة - زميلا لأساتذتي الكبار أمثال : حسين نصار وشكري عياد، فأحببت الرجل على الفور لكريم خصاله وإحساسنا بالانتماء إلى قسم علمي واحد، ولكن المناصب تقلبت به وزوجه - نازك - إلى أن أصبح رئيساً لجامعة البصرة خمس سنوات تقريباً ، إلى أن غادر العراق إلى الكويت، وعمل على تخريج الدفعات الأولى من تلامذتها الذين ظلوا أوفياء له ولزوجه نازك الملائكة التي تركت في نفوس طلابها أعمق الأثر الذي لا يزال باقياً إلى اليوم عند الأحياء منهم، مد الله في أعمارهم، وعرفت أن نازك الملائكة الأستاذة تقاعدت وحبست نفسها في الشقة التي كانت تسكنها وزوجها وابنهما الوحيد، البراق، وذلك في العمارة نفسها التي كنت أسكن فيها وعائلتي· وطلبت من الدكتور محبوبة أن أزورهم لتحية الشاعرة الكبيرة، فعرفت منه أنها مصابة بمرض الاكتئاب وترفض مقابلة أحد، فاحترمت رغبتها وصراحة الرجل الذي ظل صديقاً وفيّاً لي، حتى بعد أن ترك الكويت وانتقل إلى القاهرة مع نازك وابنها وظلت العائلة تعيش في شقة متواضعة إلى أن توفيت نازك الملائكة في العشرين من الشهر الماضي، في القاهرة التي بادلتها الحب·
وكنت أراها وزوجها محبوبة في فترات الربيع، يتريضان معا، واضعة ذراعها في ذراعه كما لو كانت تتكئ عليه، غير مدركة أو مهتمة بما حولها، ماضية تحت قيادته في استجابة كاملة، مذهولة عن الناس الذين يمكن أن تمر بهم، أو يلقوا إليهما بالتحية، فيرد محبوبة التحية بالنيابة عنها، وهي متعلقة بيده، كأنها طفل ضائع، تائه، ذاهل· وأعترف أن هذا المشهد أذهلني إلى أقصي درجة، فما أبعد الفارق بين هذه السيدة المسنة، الذاهلة، الصامتة أبدا التي كنت أراها والدكتور محبوبة يتريض بها، والسيدة الأخرى الجميلة المملوءة بالعافية التي قابلتها مع أستاذتي سهير القلماوي سنة 1966 تقريبا· وكان الفارق رهيبا بين هذه العجوز الذاهلة الصامتة والشاعرة صاحبة النبرات الصافية التي استمعت إليها وهي تلقي قصيدتها شجرة القمر عام 1986وكان يزيد من دهشتي أنها لم تتجاوز الستين إلا بعامين على أكثر تقدير، بينما زوجها الأكبر منها كان لا يزال يواصل التدريس في الجامعة، ويلقي التقدير من كل الذين عرفوه وكان الوحيد تقريبا الذي ربطتني به علاقة ابن بأب في جامعة الكويت ·
وظللنا على هذا الحال إلى العام الثاني من عملي في جامعة الكويت· ولم يكن يرى نازك أحد منا في منزلها سوى المرحوم الشاعر عبده بدوي، الذي كان الوحيد الذي تأنس إليه دون بقية الزملاء الذين ظلوا أوفياء لها· ولذلك لم أندهش عندما استشارني زميلي عبد الله المهنا، مدّ الله في عمره، في أن نشترك في إصدار كتاب احتفالي تتولى طباعته جامعة الكويت، ويساهم فيه كل واحد منا ببحث علمي فوافقته على الفور، وشجعته على المضي في تنفيذ الفكرة التي تحمس لها، وحث الجميع على الكتابة، وظل يستحثهم إلى أن خرج الكتاب إلى النور من مطبوعات جامعة الكويت (عام 1985)، وقد ساهمت فيه ببحث مطول عن رمزية الليل في شعر نازك، كما ساهم فيه عبد الله المهنا، بالإضافة إلى عبده بدوي ومحمد رجب النجار، رحمهما الله· وقد ترك الكتاب أثراً طيباً في نفس نازك الملائكة التي أدركت - بالكتاب - أن حبها وتقديرها ومعرفة دورها بقيت في وجدان الكثيرين، خصوصاً تلامذتها الذين قامت بالتدريس لهم في جامعة الكويت، أو بالتأثير فيهم كشاعرة ومبدعة وناقدة ومضت الأعوام، وعدت إلى القاهرة التي سرعان ما أصبحت منشغلا بمناصبها المتتابعة: رئيس تحرير فصول مجلة النقد الأدبي، ورئيس قسم اللغة العربية، وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة· ولم أنس نازك الملائكة ودورها الرائد، خصوصاً أنها عادت إلى القاهرة، ومعها الدكتور عبد الهادي محبوبة الذي لم يتوقف عن زيارتي ولم أتوقف عن محبته وتقدير مودته· وكنا نقيم الاحتفالات والمؤتمرات القومية والدولية· وكان منها ''مؤتمر المرأة العربية والإبداع'' سنة2002 ، ولم أجد أهم من نازك الملائكة وأحق منها بالتكريم، فاخترت تكريمها بطبع أعمالها الكاملة في أدق وأشمل طبعة غير مسبوقة· وبالفعل، اتفقت مع الدكتور محبوبة الذي تهلل وجهه بالفكرة، وجئنا بالشاعر عبده بدوي الذي قبل، مشكوراً، مراجعة كل شيء وتدقيقه، وواصلنا العمل في حماسة لا أزال أذكرها بإعزاز وفخر، فلم نترك شيئا من إنتاج نازك إلا وحصلنا عليه، وبدأنا الطباعة، وانطلق عبده بدوي في المراجعة، وظللت أتابع العمل إلى أن تم في أربعة مجلدات، اثنان منها للأعمال الشعرية الكاملة، واثنان للأعمال النثرية الكاملة· وضمت الأعمال الكاملة للشعر : مأساة حياة، عاشقة الليل، أغنية الإنسان، شظايا ورماد، قرارة الموجة، شجرة القمر، للصلاة والثورة، يغير ألوانه البحر، الوردة الحمراء· أما الأعمال النثرية فضمت : قضايا الشعر المعاصر، سيكولوجية الشعر، الصومعة والشرفة الحمراء (العنوان الأخير الذي اختارته لدراستها عن شعر علي محمود طه) التجريئية في المجتمع العربي، الشمس التي وراء القمة (وهي مجموعة من القصص التي جمعها الدكتور عبد الهادي بمعاونة ابنه البراق، الذي كان قد حصل على درجة الدكتوراة من أميركا، وكتب لها الاثنان مقدمة دالة)· وهكذا اكتملت أعمال نازك الملائكة التي كانت ذروة احتفائنا بها في ''مؤتمر المرأة العربية والإبداع'' الذي كان - ولا يزال أضخم وأهم مؤتمر في الموضوع· وبقيت المجلدات علامات حب وتقدير من مثقفي مصر لشاعرة رائدة أحبت بلدهم التي هي بلدها فآثرت أن تدفن فيها، وسرت وراء نعشها مع ابنها البراق الذي لم أتركه إلا على وعد بالحصول على مخطوط قديم كتبته بقلمها عام ،1977 وهو رواية بعنوان ''ظل على القمر''· وأرجو أن يجده لكي نضيفه إلى الطبعة الجديدة من الأعمال الكاملة التي تظل علامة عرفان ومحبة للوجه الصبوح الجميل المتوثب بالحياة الذي رأيته مع أستاذتي سهير القلماوي في صباح جميل من صباحات عام ·1966