لم يدرك الطفل فيصل، ذو الثلاث سنوات، ما يدور حوله سوى أن حشداً كبيراً من الناس تنظر إليه بفرح ثم تقبله وتحتضنه، والواقع أنه حفل عيد ميلاده، الذي احتفلت به الأسرة في قاعة بفندق خمس نجوم بأبوظبي، مع مجموعة من أطفال العائلة والأصدقاء، الذين كانت نظرات الإعجاب والدهشة بادية على وجوههم، وهم يشاهدون تنوع المأكولات والديكورات، إلى جانب وجود مغن يزيد الحفل تميزاً وبهجة. وفيما تعتبر أسرة هذا الحفل تتويجاً لحبها لابنها ينظر إليه مختصون على أنه ممارسة شاذة تعلم الطفل الإسراف والتباهي، ويؤكدون أنه يترجم الفكر الاستهلاكي للحياة المعاصرة.
حفل عيد ميلاد الطفل فيصل نظمته شركة خاصة، ودُعي إليه أكثر من 45 صديقاً للصغير، والكلفة كما تؤكد والدته، وصلت إلى أكثر من 30 ألف درهم تضمنت مصاريف حجز الصالة، وتأمين الطعام وقالب الحلوى، وموّزع الموسيقى، والزينة، الهدايا وصولاً إلى الاختصاصيين في مجال الترفيه عن الأطفال، كل ذلك من أجل حفلة عيد ميلاد «تليق» بالطفل البكر على حد قول والدته. وهذا النموذج من حفلات أعياد الميلاد بات هو القاعدة لدى البعض من الأسر، وكأن حبّ الوالدين لطفلهما بات يُقاس بحجم عيد الميلاد، الذي ينظّمانه له وعدد الأصدقاء الذين يدعون إلى حضوره والمكان الذي سيقام فيه.
سقف المعقول
باتت أعياد الميلاد وغيرها من المناسبات الاجتماعية مليئة بمظاهر البذخ والمغالاة والإسراف، وأصبحت ظاهرة تجاوزت سقف المعقول، مؤكدين أن هذه الحفلات باتت تشكل اضطراباً اجتماعياً يلقي بظلاله على الطفل الذي لابد أن يتعلم معنى الادخار وليس الإسراف والبذخ والمبالغة في المظاهر.
وبحسب، سمير عماد، المتخصص بتنظيم حفلات أطفال، فإنه يستضيف أكثر من 8 حفلات أعياد ميلاد في الأسبوع. ويرى أن معظم حفلات أعياد الميلاد باتت تتم على أساس التفاخر والتباهي بالمظاهر، مؤكدا زيادة عدد حفلات أعياد ميلاد الأطفال المقامة خلال العام الجاري، مقارنة بالعامين السابقين، فالبداية تكون مع عيد ميلاد لطفل واحد، ثم تتكرر الحفلات لطفلين أو ثلاثة من عائلة واحدة.
ويؤكد سمير أنّه من الممكن تنظيم حفل بسيطة وبعدد محدود من المدعوين، لكن ذلك بات مستبعداً بالنسبة إلى عائلات كثيرة تبحث عن مظاهر الترف من خلال الأعياد، حتّى ولو كان ذلك يتجاوز قدرتها المادية. ويؤكد سمير أنّ أعياد الميلاد باتت «تجارة»، إذ تقدّم المطاعم والصالات عروضاً كثيرة للأهالي وتحاول جذبهم إليها، وهم لا يمانعون خصوصاً أنّ الحفلات الضخمة باتت أشبه بواجب يؤدونه تجاه أطفالهم. أمّا الكلفة الأقلّ لتنظيم حفل كامل العناصر من المأكل إلى الترفيه، فيؤكد سمير أنّها تتراوح ما بين 10 و30 ألفاً فما فوق، حسب المكان الذي يستضيف المناسبة. وقد وصلت المبالغ المدفوعة لبعض الحفلات إلى مئة ألف، إذ يقوم الأهل بطلب وجود مغنّين مشهورين أو شخصيات معيّنةّ.
مباهاة وتفاخر
تؤكد بدرية المرزوقي أنه مع كل عيد ميلاد لابنتها الوحيدة بين 3 أولاد، تحاول أن تحتفل به في إحدى قاعات حفلات عيد الميلاد بمطاعم الوجبات السريعة، لكن في هذه المرة الوضع تغير فقد حجزت في قاعة بفندق 5 نجوم، وذلك لتخلق جوا من البهجة والفرح تدعو فيه أصدقاءها وأحبابها وتقيم حفلاً يتحدث عنه الجميع. وتضيف المرزوقي «مناسبة عيد الميلاد أصبحت مكلفة، وما يميز هذا الحدث أن جميع الحضور يحبون تلك المظاهر وكلفة الكعكة وحجمها ومكان الاحتفال وهدايا الأطفال. وتضيف: «لا أريد أن يكون حفل عيد ميلاد ابنتي يختلف عن الحفل الذي أقامته جارتنا لابنها في فندق قاعة «ألوفت» في أبوظبي، فقد كان الحفل خيالياً، ولكن لم يصل لمستوى حفل ابنتي حين تم دعوة أحد المطربين المعروفين للغناء في عيد ميلادها، الإضافة إلى الهدايا القيمة، التي جلبت من إحدى الدول الأوروبية ومن أحد المتاجر ذات الماركة العالمية هناك».
وتعلن نوال فخري أنها تحرص على إقامة حفل عيد ميلاد ابنها في أفخم المطاعم على أعلى مستوى وذلك لتشعر ابنها بالتميز عن أصدقائه. وتقول: «حبي لابني يدفعني لذلك، ومع توافر القدرة المادية أعمد إلى إقامة حفل عيد ميلاده في أحد الأماكن الراقية، فابني يستحق، ووضعي الاجتماعي يتطلب مني إقامة ذلك»، وتوضح: «بالفعل منذ أشهر تم حجز أحد قاعة المطاعم لإقامة حفل عيد ميلاد ابني ذي الخمس سنوات، وتمت دعوة الكثير من المقربين والأصدقاء، كما وزعت هدايا قيمة على الحضور بالإضافة إلى هدايا الأطفال».
إسراف وتبذير
تنتقد فاطمة سجواني، موجهة الخدمة النفسية في منطقة الشارقة التعليمية، البذخ في إقامة حفلات أعياد الميلاد، مشيرة إلى أنها أصبحت تقليداً انغمست جذوره في المجتمع، وأصبح عادة لدى الكثيرين بغض النظر عن ما تحمله هذه المناسبة من معان واعتبارات، حتى باتت وسيلة للتفاخر والتباهي أمام الغير. وتقول: «يتخلل الاحتفال تكاليف كثيرة يظهر فيها الإسراف والتبذير جليا، خاصة للذين يعمدون للاحتفال بها في فنادق راقية ومطاعم باهظة الثمن، وقد تنفق بعض الأسر التي تبحث عن المظاهر مبالغ طائلة من أجل أن يقال: إن حفل عيد ميلاد ولدهم كان على مستوى راق ومميز».
وتنتقد سجواني هذه الممارسة بشدة، وتقول «الكثير من الأسر ذات الإمكانات المتوسطة تبحث عن المباهاة في إقامة حفلات عيد الميلاد لأبنائهم من أجل المباهاة والتفاخر، ورغم أن تاريخ ميلاد أي طفل هو حدث ليس عادي، لكن للأسف يتحول هذا الحدث إلى مجرد «بريستيج» لا يحمل المعاني الحقيقية، فالطفل هنا يتعلم منذ صغره التباهي والإسراف».
وتشرح السجواني تأثير ذلك على الأطفال، موضحة أنه يؤثر عليه من الناحية التربوية والنفسية، وتختصر المسألة بمثل شائع هو «الزائد أخو الناقص»، أي أن إحاطة الطفل بمظاهر البهرجة والترف هي تماماً في مستوى حرمانه من عيد ميلاده، ففي الحالتين هناك ضرر يلحق بنفسية الولد. وتؤكد سجواني ضرورة أن يعرف الطفل قيمة الأموال التي تصرف على مثل هذه الحفلات، ومدى أهمية كل هدية تقدم له لأن عدم توجيهه في هذا المجال يمكن أن يدفع به إلى الاستهتار والشعور باللامبالاة تجاه ما يقدمه له الأهل. وتنصح سجواني الأهل ألا يسعوا لتحقيق ما افتقدوه في حياتهم من خلال أطفالهم، وإنما يجب مساعدتهم على فهم الواقع كما هو وأنهم محبوبون لشخصهم وليس لقدرتهم على تنظيم الحفلات، والأهم أن يكون عيد الميلاد احتفالا بالحياة بالنسبة للأطفال، بدل أن يكون مناسبة للتظاهر بمكانة اقتصادية.
شبه عرس
يرفض سالم الحوسني، أب لخمسة أبناء، المبالغة في إقامة حفلات عيد الميلاد، والتي تقام في أفخر قاعات المطاعم أو الفنادق، وذلك من أجل التباهي والمظاهر البراقة، على حساب الأبناء، الذين لابد أن يتعلموا الاعتدال وعدم الإسراف والتبذير.
ويقول: «أضحت تلك الحفلات تقام بالقاعات وتجلب لها الفرق الموسيقية وتحضر المقبلات والحلويات، وتتحول إلى «شبه عرس».
ويضيف: «أصبحت إقامة تلك الحفلات تحصيل حاصل لدى أغلبية العائلات، لاسيما وأن بعض المحال اختصت في عرض لوازم إقامة تلك الحفلات على غرار البالونات المتنوعة الألوان والمعلّقات المختلفة إلى غيرها من اللوازم الأخرى التي تخص الاحتفال، ولم تعد بعض العائلات تجد أي إشكال في إرسال الدعوات لحضور عيد ميلاد أحد أفراد العائلة وكأنها تدعو إلى حفل زفاف»، موضحاً: «هذا النوع من حفلات أعياد الميلاد يزيد من أعبائها المادية لما يلزم لتلك الحفلات من تحضيرات مكثفة، والتي قد تدخل في خانة التبذير».