1 ابريل 2009 02:41
ظل الذاكرة
ظلت العديد من مفردات الذاكرة الشعبية المحلية تنتقل من جيل إلى جيل عبر النقل الشفاهي من الآباء والأجداد إلى الأبناء لفترة طويلة من الزمن، وإذا كان بعض الكتاب الإماراتيين قد بذلوا جهداً كبيراً للحفاظ على هذه الثروة التراثية، إلا أن هذه المحاولات لم تكن كافية، وظلت اجتهادات فردية يخفت مداها بتراجع حماس أصحابها باستثناء محاولة جادة قام بها الأديب الشاعر أحمد راشد ثاني الذي أصدر ثلاثة كتب هي «حصاة الصبر»، «دردميس»، و»إلا جمل حمدان في ظل بارك» دوّن فيها بعض هذا التاريخ من أفواه كبار السن على شكل حكايات كما سردوها. وهناك العديد من قصص الحب والحرب وغيرها كانت تنقل للأبناء عن طريق الجدات، والجميل أن هذه القصص متشابهة في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية الممتد، فتجد فكرة القصة نفسها موجودة في الإمارات مثلها في قطر أو السعودية أو البحرين أو الكويت، لكن تفاصيلها مختلفة وسياقها الأدبي أيضاً. من هذا التراث قصة حب جمعت بين شاب يدعى «الفاضل ولد العنزي» وبين فتاة كان والدها أوهم من حوله بأنها ليست بنتاً بل هي ولد لصرف الأنظار؛ لجمالها الفائق.. ولم يكشف سر الفتاة التي كانت ترتدي ملابس الرجال عندما تخرج إلى السوق إلا بائعة سمراء متجولة تسمح لها مهنتها بدخول البيوت والقصور عندما اكتشفت جمال الفتاة العجيب وباحت بالسر إلى الفاضل، الذي قرر أن يتنكر في زي بائعة متجولة ويدخل قصر الفتاة المكتظ بالحراس، وأثناء الحوار بينه وبين الفتاة التي تميزت إلى جانب جمالها بقدر كبير من الذكاء وقدرة أكبر على تمييز الأشخاص، حيث لمحت الفتاة جبين البائعة فأنشدت تقول شعراً:
«يلال يا يلال.. والله يا يلال أنك كذيبُ
وقلبي عليك يا يلال من تحت الثياب يذيبُ..
وأن مت يا يلال في دارنا لأنك غريبُ..
فرد قائلاً:
غريباً ومستغرباً وقضاي حاجة
وعسى الله يقضي حاجات كل غريبُ
بعد فترة، قرر «الفاضل» خطبة الفتاة وجاء إلى القصر بوفد عالي المستوى من قبيلته لخطبة الفتاة من والدها الذي رد على الوفد بأن ليس لديه بنت، وأنهم ربما أخطأوا في العنوان.. وهنا حدثت المفاجأة التي لم يتوقعها الأب عندما أنشدت الفتاة بأجمل كلام قائلة:
إلا يا اب ما تنظر إلى عيني تقرحت
وأنا يا اب من الفرقا عميت
أول أنا يا اب صلاتي طويلة
واليوم أنا من ذيج الفروض أنسيت
و إلا تزوجني الفاضل ولد العنزي
و إلا أنا يا اب جنيت جنيت
هذا ما روته لي والدتي -يرحمها الله- التي لم تكن تجيد الكتابة والقراءة ولكنها كانت تحفظ هذه الذاكرة عن ظهر قلب. في لقاء مفتوح جمعني بالدكتور عبدالله عبدالكريم الريس مدير مركز الإمارات للوثائق والبحوث تحدث بإسهاب حول تسجيل الذاكرة الوطنية المتمثلة في الأغاني والشعر والشوارع والمساكن والأمكنة من الأشخاص الذين عاصروا حقبة زمنية شكلت فيما بعد هوية وطنية، الأجيال الحالية في حاجه لها وأشار لى أن المركز أسس قسماً خاصاً للتاريخ الشفاهي وسيتعاون مع كبريات الجامعات في العالم لتأسيس هذا القسم وأنه تم استقطاب أشخاص متخصصين في هذا المجال لتدوين التاريخ الشفاهي للإمارات. إلى جانب تدريب مجموعة كبيرة من الخريجات كباحثات في هذا القسم سيقومون بإجراء مقابلات مع الذين عاصروا هذه الذاكرة وتسجيلها بشكل منظم، وأرى أن يبدأ المركز فوراً بتسجيل هذه الذاكرة، وأن لا يستهلك الوقت في التأسيس قبل أن يرحل عن دنيانا ما تبقى من هذه الذاكرة المحلية الراقية