أحمد النجار (دبي)
أكد الفنان الإماراتي الكبير إبراهيم جمعة، ضرورة تأسيس معهد أكاديمي للموسيقى لصناعة جيل مثقف فنياً، قادر على رفع لواء الأغنية الإماراتية ونقل الموروث الشعبي والتراث المحلي إلى المنطقة والعالم.. وقبل أن يسرد، قلّب جمعة ألبومات صوره سارداً قصصاً ومواقف ومحطات وانطباعات شتى من مشوار الفن الذي يمثل بالنسبة له بيت الذكريات الكبير.
توجه في بداية لقائه مع «الاتحاد» في أحد فنادق دبي، برسالة إلى كافة الدوائر الثقافية في الدولة، مطالباً بضرورة وجود لجان فنية متخصصة، يقودها فنانون كبار، لإجازة الألحان والكلمات المغنّاة والصوت، لتقديم منتج موسيقي ذي قيمة وأصالة، لكي لا يختلط «الحابل بالنابل». وأضاف: «ينبغي تضافر جهودنا كفنانين وتوحيد الرؤى، ولا بد من مواكبة الحراك الفني وتخريج أجيال موسيقية واعدة وواعية من أجل إيجاد فنان مكتمل، وأتمنى أن يتصدر ساحتنا الفنية ملحنون إماراتيون محترفون يملكون زمام التخصص، يكونون مؤهلين ومسؤولين عن إحياء الأغنية المحلية، لاستعادة بريقها الجميل وتجويد إنتاجها، وتصديرها إلى وجدان الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج.
رسالة الفنان الحقيقي
جمعة هو الأب الروحي للملحنين، الذي يمتلك سجلاً إبداعياً حافلاً، ومسيرة كفاح طويلة في حب الفن الرقي، له تاريخ لامع من الإنجازات والمحطات المشهودة التي صنعت فارقاً مهماً في فصول الألحان الشعبية والأغنية الإماراتية أيضاً، وحلقت ألحانه بروائع الثقافة والفنون على جناحي الهوية والموروث في فضاء الانتشار والنجومية.
وقال جمعة: «عندما أقدم لحناً لمطرب عربي، تكون غايتي هي نقل الفن الإماراتي إلى الجمهور من الشرق إلى الغرب، فلا أبتغي من وراء ذلك شهرة أو نيل مكانة خاصة، فما يهمني بالضرورة أن أكون سفيراً لبلدي أكثر من تلميع اسمي، حتى يقال هذا «فن إماراتي»، وتلك هي الأصالة، ورسالة الفنان الحقيقي، وتابع: لديّ استعداد تام للتعاون مع أي فنان غربي لتقديم ألحاني بطابعها الشعبي المحلي مع إضفاء صبغة أوبرالية أو نكهة إيقاعية عصرية، مشيراً إلى أن حسين الجسمي وبلقيس مطربان مؤهلان للغناء بكل الألوان والفنون الموسيقية، وقادران على إيصال المنتج الغنائي الإماراتي إلى العالمية، لهذا آمل أن يجمعنا تعاون فني قريب.
السنع
عن رحلته في عالم الفن، يروي: درست في الكتّاب، ثم انتقلت بعد عامين، حين بلغت السابعة من عمري، إلى التعليم النظامي، أخذتني والدتي للالتحاق بالمدرسة الأحمدية في دبي، فسجلتني باسم جدها الحاج إبراهيم المدني، بينما اسم والدي الحقيقي هو جمعان سرور الغيص، فمن يومها لم أستبدل هذا اللقب، بكوني بالنهاية إماراتي، وكلي ولاء لوطني ولا فرق بينهما، فكلاهما أجدادي، وكان في المدرسة الأحمدية 5 معلمين مواطنين، وقبل التحاقي بالمدرسة بعام، كان والدي قد صحبني إلى الغوص، بهدف التشبع بأدبيات السنع، وكانت تلك عادة يمارسها الأولون مع أبنائهم لتغذية وعيهم بمبادئ الرجولة.
أوبريت
وفي السفينة كانت مهنتي «وليّد» أي خدمة «الغاصة» والسيوب والنوخذة، لإعطائهم الماء ومساعدتهم في بعض الحاجيات، وتعلم بعض القيم والعادات العامة، وكانت استفادتي الحقيقية من رحلات البحر اكتساب الفنون الشعبية، التي كانت تقام على ظهر السفينة على مدار اليوم، تماماً كما لو أنها «أوبريت» وخلال 3 أشهر قضيتها على متن السفينة، التقطت الكثير من المظاهر الشعبية والألوان التراثية واكتفيت بالإصغاء لها واختزانها في مخيلتي ووعي الباطن والتشبع بها دون ممارستها، مثل النهمة والتقصيرة والخطفة والير والتجديف «جرّ المجاديف»، وعند رجوع قوافل السفن إلى الوطن، كانت أجواء دبي تزدهي بالاحتفالات، وكأنها عيد، وتصل السفن واحدة تلو أخرى لترسو في خور دبي، وعند دخولها يبدأ الابتهاج وتتصاعد الأهازيج من جمهور الأهالي والأصدقاء، الذي كانوا يصطفون ويتراصون على جانبي الخور، وأتذكر من تلك الأيام مقطعاً جميلاً لا يزال وقعه يرن في خاطري عند خطف الشراع، «من مدركوه لراس الحد خطفنا.. كلنا صُبيان وياربي تسلمنا» وخطفة ثانية: «دار الهوى شامي يا بو عبدالله.. سنيارنا «مجموعة سفن» سافر وتوكل بالله» وعندما رجعت إلى الوطن، استرجعت كل تلك الذكريات بكل ما اختلط بها من فنون حسية ملهمة، وجلست أرددها مع أصدقائي في الفريج.
فنون البحر
وبينما كان جمعة يقلب ألبومات ذكرياته، تناول رشفة من قهوته وهو يبتسم كمن يحاول العودة إلى الوراء، فقال،: «نشأت منذ بداياتي على فنون البحر، وهي عميقة جداً، وتعبر عن ردة فعل المعاناة بما تتضمنه من فراق ولوعة ووله واشتياق، تلخص بمجملها كل الأوجاع الفنية الراقية، بوصفها دندنات وونّات وآهات للترويح عن النفس غناءً، حيث إن ترديد تلك الترانيم يداري شدة التعب. وفي الإعدادية بدأت ممارسة الفن من المشاركة في معسكرات خليجية، وتمثيل إمارة دبي، كنت أصغر موهوب في المجموعة، وكان أبرز رفاقي هم المواطنان بلال خميس وجمعة غريب، وانصقلت موهبتي بدروس خصوصية للموسيقى في ثانوية دبي، وبدأت انطلاقتي الحقيقية من الكشافة، ففي الصف الرابع الابتدائي، اكتشفني الأستاذ عبدالرحيم قدورة، سوري من أصول فلسطينية، وكنت أتمتع بموهبة في الإيقاع والغناء في ليالي سمر الكشافة.
أغنية وطنية
وكان زميلي الأقرب يومها هو الفنان عبدالله بالخير، كان يغني وأنا أرافقه على الإيقاع، ثم تطور التعاون بيننا إلى تأليف أغانٍ من الفنون الشعبية مع إضافات بكلمات مغنّاة لها، وقمت بصياغة ألحان تم تسجيلها محلياً مثل أغنية «زنجبار» و«صابني جو صابني»، وكانت «عاشت مصر» أول أغنية وطنية من تأليفي أدّاها عبدالله بالخير، إلى جانب أغنية عاطفية أخرى، وأثناء دراسة عبدالله بالخير في معهد الموسيقى بالقاهرة، التقى ملحنين كويتيين كباراً، أمثال الدكتور يوسف الدوخي ويوسف مهنا والموسيقار غنام الديكان، وفاجأني أنه تم تسجيل أغنياتي بطريقة الأوركسترا بقيادة الفرقة الماسية مع الفنان أحمد فؤاد حسن الذي كان يرافق الفنان عبدالحليم حافظ، ثم تبنت الكويت تلك الأغاني، ليتحقق لي الانتشار العربي والخليجي.
منعطف فني
وقال: «في عام 1967، تطوعت في إنجاح حفل أقيم في دبي أحيته الفنانة وردة الجزائرية، وساهمت في تلحين بعض الأغاني للفنان عبدالله بالخير الذي شارك في الحفل أيضاً، وذهب ريعه لصالح المجهود الحربي للشقيقة مصر. وبعد ذلك لمع نجم بالخير، وتسابقت شركات الإنتاج الموسيقي على أغانيه التي هي من تلحيني، حينذاك قررت التفرغ للفن، وبدأت في أواخر السبعينيات بجمع التراث الشعبي المحلي، وقمت بتنقيحه وإضافة كلمات مؤلفة عليه بأسلوب يتناغم مع ذائقة الجيل، إلى أن قابلت الدكتور الفنان عبد الرب إدريس في معهد رمسيس للموسيقى بالقاهرة، وخلال مشاركتي بحفل لطلبة الإمارات عرضت على إدريس أغنية «يامن بحبه بلاني» فأعجب بها، واندهشت حيث أخبرني بأنه قام بتلحينها للفنان الراحل أبو بكر سالم، وكان العمر حينها 24 عاماً، ثم صحبني بزيارة إلى منزل الفنان أبو بكر، وبعد تأكده من قدراتي على تكييف النص على اللحن، فاجأني أبو بكر بعد يومين من لقائنا باتصال أخبرني أنه قرر أن يضم أغنيتي في شريطه الرسمي «حجة الغائب»، كانت معظم أغنيات الألبوم من ألحان الفنان عبدالرب إدريس، بعد ذلك توثقت علاقتي بأبو بكر وتعاملت معه بألحان خاصة، من ضمنها «طارشي ما جاب الخبر» و«أصيل والله أصيل».
ألحان تتغنى بالسلام
قال جمعة إن آخر لحن له كان عنوانه «التسامح» من كلمات الشاعر كريم العراقي، وغناء الفنان حسين الجسمي وبلقيس، وكان للجسمي نصيب الأسد من كل الأغنيات التراثية والشعبية التي كانت من ألحاني، وتمنى جمعة أن تتوفر له في المستقبل فرقة أوركسترا خاصة لأنه يعتزم تسجيل أغنية من ألحانه تتغنى بالحب والسلام، يشارك فيها مطرب من كل دولة عربية، وسيقوم بصياغة ألحانها بما يتناغم مع تراثها الأصلي.
انطلاقتي
قال إبراهيم جمعة: «امتدت انطلاقتي إلى الكويت والبحرين والسعودية مع الفنان راشد الماجد، وتعاونت مع الدكتور عبدالرب إدريس في أكثر من عمل، وقدمت لحناً لأغنية «جيهان» للفنان ماجد المهندس، لحن آخر لأغنية «مريم»، والتي أداها أيضاً الفنان جورج وسوف بصوته، وهي من كلمات الشاعر الإماراتي الراحل محمد بن حاضر، وقدمت ألحاناً كثيرة للفنان جابر جاسم والفنان الكويتي عبدالله الرويشد ونبيل شعيل، وقدمت ألحاناً للفنانة سميرة سعيدة والفنانة اللبنانية لورا خليل، وأضاف: كنت ثاني فنان يلحن كلمات للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه، التي أدتها الفنانة التونسية لطيفة.