استرجاع التاريخ وتأمل احداثه، خاصة المؤلم منها، يكون جرس انذار في بعض اللحظات حتى لا تتكرر المشاهد، وهذا ما يأخذنا إليه كتاب ظهر مؤخرا عن محاكم التفتيش في إسبانيا، عنوانه طويل نسبيا ولا يدل بدقة على ما فيه “من أوراق الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في اسبانيا”.
يعد البابا اينوسنت الثالث الأب الروحي لمحاكم التفتيش في أوروبا، في القرن الثاني عشر، فقد أمر باضطهاد كل مسيحي يشتبه في هرطقته، والاضطهاد هنا يعني ان يحرقوا أحياء حتى الموت، قبل اينوسنت الثالث كانت الكنيسة الكاثوليكية تكتفي بمصادرة بيوت واملاك من يتهم بالهرطقة، وصارت محاكم التفتيش نظاما راسخا ومعتمدا او مؤسسة كبيرة في القرن الثالث عشر مع البابا جريجوري التاسع.
تهمة الهرطقة
الطريف ان الكنيسة وقت ظهور محاكم التفتيش، كانت مشغولة بالاعداد للحملة الصليبية الرابعة ضد المسلمين وانتزاع بيت المقدس من أيدي العرب والمسلمين، لكن البابا اينوسنت رأى ان الهرطقة اخطر واهم بالنسبة للكنيسة، ذلك ان المسلمين برأيه يهددون المسيحية والكنيسة من الخارج، اما الهراطقة فإنهم يهددون المسيحية من داخلها ومن ثم فهم اخطر عليها وتهديدهم لها اشد.. ورأت الكنيسة ان الهرطقة منتشرة في جنوب فرنسا اكثر، ربما بحكم القرب من المناطق الاسلامية والتأثر بها.
ورغم ان محاكم التفتيش ظهرت في فرنسا اولا، ثم ايطاليا وبريطانيا، فإن محاكم التفتيش في اسبانيا، التي عرفت هناك متأخرا كانت الاشهر في التاريخ ويتحدث الناس عنها أكثر، ويرجع المؤلف د. رمسيس عوض ذلك إلى ان اسبانيا او شبه الجزيرة الايبيرية عرفت الكثير من الغزوات، غزاها الرومان ثم العرب، ويبدو لي ان هذا التفسير غير مقنع، والسبب عندي ان محاكم التفتيش في اسبانيا ادت إلى استئصال العرب والمسلمين نهائيا من اسبانيا وكذلك اليهود، والمعنى ان محاكم التفتيش في بلاد أوروبا كانت مهمتها رد المارقين إلى الكنيسة واسترجاعهم تماما، لكن محاكم اسبانيا كان هدفها الاستئصال والإبعاد او الازاحة التامة لديانتين واتباعهما من اسبانيا، الديانة الاسلامية والديانة اليهودية، مما ترتب عليه ان اسبانيا التي كانت في العصر الاسلامي بلدا للتعايش بين الاديان الثلاثة والتسامح الديني، فضلا عن الانفتاح الثقافي والفكري، تحولت مع التعصب إلى بلد غاية في التزمت والعنصرية وكراهية الآخر.
في العصر الاسلامي بالأندلس كان المسيحيون الذين يعيشون في المناطق الخاضعة للحكم الاسلامي يعرفون باسم “المستعربين” وكان المسلمون الذين يسكنون مناطق تحت الحكم المسيحي يطلق عليهم اسم “المدجنين” وكانت التحالفات العسكرية تعقد بين الولايات بغض النظر عن ديانة طرفي التحالف، الملك فرديناند الذي حكم “كستيلا” قرابة ربع قرن ـ من 1230 حتى 1252 ـ أطلق علي نفسه ملك الاديان الثلاثة “المسيحية واليهودية والاسلامية” بينما كانت أوروبا على اعتاب قرون الظلام والتعصب الديني، ولعل هذا ما دعا أحد المؤرخين، من القرن الثالث عشر إلى القول ان الصراع المسلح الذي بدأ في اسبانيا بين المسيحيين والمسلمين، لم يكن صراعا على العقيدة او بسبب الدين، لكنه كان بسبب التنافس على امتلاك الارض والتمتع بالخيرات.
وهناك آثار ثقافية تدل على مدى التسامح والتعايش والانفتاح الذي عاشته اسبانيا ففي ظل الصراع بين المسيحيين والمسلمين وضع فيلسوف من كاتالونيا اسمه “رامون ليل” ـ توفى عام 1351 ـ حوارا باللغة العربية بين مسلم ومسيحي ويهودي، وهناك اعمال أخرى تدل على عمق الصلات الفكرية والروحية، وكانت اسبانيا تعيش توازنا بين الاديان الثلاثة وتكاملا بين ابنائها وكان المسيحيون يقومون بفلاحة الارض وتخصص المسلمون ببناء المنازل وعمرانها وانشغل اليهود بالأمور المالية، لكن ما لبث هذا التوازن ان اختل في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، حين تمكن المسيحيون من اجتياح معظم الولايات والامارات الاسلامية ومع اعتلاء فرديناندو وايزابيلا سدة الحكم عام 1474 تحول الصراع إلى عنصرية دينية ذميمة هدفها اجتثاث المسلمين نهائيا وطرد اليهود، وتحول الجنود المسيحيون إلى “وحوش كاسرة” تجاه المسلمين، وزاد من هذا الامر تفرق وصراع الأمراء المسلمين في غرناطة وطليطله وغيرها.
تحت المراقبة
لم يكن طرد العرب والمسلمين كافيا بالنسبة لفرديناندو، لكنه راح يؤسس محاكم التفتيش، لمراقبة ايمان المسيحيين الجدد، اي المسلمين واليهود الذين تحولوا إلى المسيحية، وكانت المحاكم متعسفة بشكل لم تشهده اسبانيا من قبل وتم توجيه بعض الانتقادات لها من “المسيحيين القدامى” بسبب اجراءاتها التي لم تعرف بينهم من قبل، لكن فرديناندو راح يدافع عنها معتبرا إياها اجراء استثنائيا اضطر اليه، والمدهش في نظر المؤلف هو قبول الشعب لهذه الاجراءات والمساندة الشديدة للملك في إجراءاته تلك.
في عام 1486 أصدر الملك بيانا قال فيه انه فكر طويلا في العواقب السيئة المترتبة على انشاء محاكم التفتيش ولكن تبين له ان هذه المحاكم ضرورية لخدمة الله والدين، وأنه قرر التضحية بمصالحه الدنيوية كحاكم في سبيل تمجيد كلمة الرب.
كانت محاكم التفتيش تراقب اليهود والمسلمين المتحولين في حياتهم وصلواتهم بالكنائس وفي بيوتهم، كان المسلم يراقب في النظافة، وكان اليهودي يراقب في طعامه.
قسوة محاكم التفتيش أدت الى نتائج اخرى بالنسبة للمسيحية فقد حالت دون ظهور الاصلاح في اسبانيا، ولم يتمكن مارتن لوثر واتباعه من ان تمتد دعوتهم لاصلاح الكنيسة والمسيحية الى اسبانيا وكان من يشتبه في ميله نحو الاصلاح يحرق على الفور ولذا ظلت اسبانيا عصية على الاصلاح الديني والاخطر انها عاشت في عزلة تامة عن اوروبا وما يدور فيها.
تلك صفحة قاسية من التاريخ تنبئنا انه ليس هناك شعب متسامح أو متشدد بالفطرة، بل يمكن للشعب نفسه ان يكون هذا أو ذاك بفعل العوامل السياسية والثقافية وفي القلب منها الدينية.
الكتاب اعتمد على مصادر ومراجع اوروبية فقط، لم يذهب إلى مرجع عربي واحد عن تلك الفترة، ومن ثم فقد نقل لنا وجهة النظر الأوروبية كاملة وبها الكثير من التفاصيل التي تغيب عنا.