28 مارس 2009 02:37
ليس كإمام وخطيب أي مسجد، فهو يقف في ذات المكان الذي وقف فيه الرسول الكريم «صلى الله عليه وسلم»، عندما أمّ الأنبياء جميعاً في رحلة الإسراء والمعراج، وهو أيضاً من تقع على عاتقه مسؤولية حماية واحد من أقدس المقدسات الإسلامية والعربية، إنه الدكتور يوسف جمعة سلامة إمام وخطيب المسجد الأقصى، وأحد المرجعيات الدينية الكبرى في العالم الإسلامي.
حاورته «دنيا» الاتحاد حول العديد من القضايا التي يعيشها بحكم وجوده في معترك الحياة الفلسطينية، كمواطن فلسطيني، وشخصية بارزة لها حضورها في المجتمع الفلسطيني والدولي.
في البداية سألناه عن وجود أي بارقة أمل توحي بقرب انفراجة أمام هذا الشعب، في ظل ما نشهده من انقسام الأخوة، وتعنت الاحتلال.. فأكد فضيلته على أنه، مهما كانت الرؤية غير واضحة أمام البعض، وتداخلت الأمور، إلا أن ديننا الإسلامي علّمنا أن نكون متفائلين، وحرّم التشاؤم، واليأس وجعل البديل هو الأمل، و إذا ما كانت هناك ثمة خلافات وفرقة بين البعض، فذلك أمر عفوي وطبيعي، لأن خلافات الرأي تنشأ داخل أي تجمع بشري حتى داخل أبناء الأسرة الواحدة، ويجب أن نعود كفلسطينيين كتلة واحدة وصفاً واحداً، تحت قيادة واحدة إن شاء الله، هذا عن الوضع داخل البيت الفلسطيني، أما بالنسبة للموقف تجاه سلطات الاحتلال، فنحن الفلسطينيون أصحاب حق، وعنه ندافع، وبكل ذرة في تراب القدس متمسكون، رغم ضراوة الصراع، وما يتخذه العدو من إجراءات ترمي إلى سلب الحقوق من أصحابها، لعل آخرها، صدور قرار بهدم 1700 منزل في القدس عام 2009، ومنع المقدسيين من البناء، وسحب الهوية الزرقاء «والتي تمنحهم حق البقاء داخل الخط الأخضر»، وعدم الوصول للمسجد الأقصى لمن هم دون الخمسين عاماً، بالإضافة لإقامة عشرات الآلاف من الوحدات السكنية لتكون القدس عام 2020 مدينة يهودية بالمعنى الكامل، كما يخططون. سألت فضيلته عن الأصوات التي تعال
ت أثناء حرب غزة الأخيرة، مطالبين الأخوة داخل فلسطين المحتلة بأن يصعدوا من مقاومتهم للاحتلال، بغرض تخفيف الضغط، عن إخوانهم المكلومين في غزة.
فأجاب، أهلنا داخل الخط الأخضر أعلم بأحوالهم، وهم الذين يقدرون ظروفهم، وأنا هنا أسجل الشكر والعرفان لهم، لما يقومون به من جهد إغاثي لإخوانهم، ومساعداتهم في كافة المجالات الصحية والخيرية، وكفالة الأيتام، ورعاية الأسر الفقيرة، وأثمن دورهم الخاص في الحفاظ على المقدسات وعلى رأسها المسجد الأقصى، من خلال مجهودات كثيرة، لعل أبرزها «حملة البيارق» وهي عبارة عن قافلة يومية تنطلق بالسيارات من نواحي مدينة القدس وصولاً إلى المسجد الأقصى، ومن خلال هذه الجولة يقومون بحركة إنعاش تجارية للسوق هناك، ويعملون على التواجد في المسجد الأقصى وساحاته حتى لا يعطوا أي فرصة للمستوطنين من العبث بأي من مقدساته.
وعن دوره كرمز وقيمة دينية كبيرة في نزاع الفصائل الفلسطينية الحالي، شدد على أنه عمل مع غيره على تطويق هذه الخلافات، وتدخلت دول عربية كثيرة على رأسها مصر لمحاولة لم الشمل، والجميع يسعى لتذويب الجليد بين الطرفين، ولكن العملية تحتاج إلى جهد كبير وليست بالسهولة التي قد يتصورها البعض.
منصب سياسي
وحول سؤال عن عمل رجل الدين في منصب سياسي كوزير.. هل يتطلب منه تنازلات، خاصة وأن السياسة ومتطلباتها، تستدعي من صاحب المسؤولية كثيراً من المرونة التي قد لا تتفق مع صراحة رجل الدين ووضوحه، أجاب، في الإسلام لا يوجد رجل دين، وإنما «رجل علم»، لأن المسلمين جميعاً مؤمنون متدينون بطبيعتهم، ولكن يوجد علماء وطلاب علم شرعي، مثل سائر العلماء في المجالات الأخرى، ولهم دور في نشر الدين وتعريف الناس بأصوله، وأيضاً نشر الحب والإخاء بين الشعوب.
وعمل رجل الدين في السياسة ليس به أي مخالفة شرعية، لأن الدين يعالج جميع مناحي الحياة، اقتصادية، واجتماعية وسياسية، والرسول الكريم «صلى الله عليه وسلم» كان يقوم بدور الحاكم، و القاضي، والمفتي و غيرها من الأدوار التي يشرف أي عالم بالقيام بها، ولذلك فطلاب العلم والعلماء لهم دور في شتى المجالات، وعملهم في أي موقع لا يلزمهم مطلقاً أن يتنازلوا عن شرع الله.
واستطرد فضيلته: عملت في السياسة فترة طويلة ولم أخالف شرع الله في أي قرار اتخذته، وانما كنت متمسكاً بديني وأعمل على خدمة وطني وقضيته.
وعن المضايقات التي يتعرض لها من سلطات الاحتلال باعتباره رمزاً إسلامياً وفلسطينياً كبيراً، أوضح، أن ذلك شيء طبيعي، وهو يشترك في ذلك مع كافة الفلسطينيين، كل حسب موقعه، فقد تم اعتقاله من قبل، وكذلك علماء الدين المسيحي يتعرضون لهذه المضايقات، والساسة أيضاً، فإغلاق بيت الشرق ليس ببعيد، والآن نرى منع الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة الإسلامية، وقاموا بإبعاد الشيخ عبد الحميد السايح من قبل، ونفوا رجل الدين المسيحي كابوتشي، و حتى الغرفة التجارية أغلقوها، فهم لا يستثنون أحداً من أي إجراء.
عاصمة للثقافة الإسلامية
وبالنسبة لمنع الاحتلال لأي مظاهر للاحتفال بالقدس كعاصمة للثقافة الإسلامية أوضح فضيلته، أن هذا ولا شك إجراء ظالم، ويتنافى مع أبسط حقوق المواطنين المقدسيين، لأنها مدينة عربية إسلامية، وهذا ليس بقرار عربي دولي، وإنما قرار إلهي، فالقدس آية من القرآن الكريم، كما قال تعالى «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ»، فهذا القرار الرباني لن يبطله أي قرار من هنا أو من هناك، والاحتفال بالقدس كعاصمة للثقافة الإسلامية هو تقليد حضاري، وارتباطنا به كمسلمين، هو ارتباط عقدي وحضاري وثقافي، بما تحويه من منازل وآثار تمتد لأكثر من 3500 عام قبل الميلاد، فمنذ اليبوسيين والجذور الفلسطينية واضحة في هذه البلاد، وكل حجر وكل أثر يحمل معلم من معالم الوجود والحضارة الفلسطينية في هذه المدينة المقدسة.
أما عن الاستعداد لأي إجراء عدائي مباغت على المسجد الأقصى، شدد على أن بيت المقدس هي بيت لكل مواطن يسكن على أرضها، وأي اعتداء على أي من مقدساتها، سيقابله دفاع تلقائي من كل فرد يعيش على هذه الأرض، مسلم أو مسيحي. وحول سؤال عن وجود وثائق خاصة بالمسجد الأقصى أو القدس تحتاج إلى حماية كأن يتم وضعها في دولة عربية، لتكون بعيدة عن أيدي قوات الاحتلال، خاصة وأن إسرائيل حين دخلت لبنان حاولت وضع يدها على مركز الوثائق الفلسطينية هناك، قال: يجب أن نكون على ثقة تامة كعرب ومسلمين، بأننا نحن أبناء الشعب الفلسطيني وحذرين من ذلك، وأن جميع الوثائق المتعلقة بفلسطين من مقدسات وغيرها، تم حفظها في عدة نسخ، وعلى أجهزة ميكروفيلم، وموجودة في أماكن متعددة، علماً بأن تاريخ فلسطين لا يستطيع أحد أن يزايد عليه، لأنه موجود في القرآن والسنة.
دعوة نبوية للأمة
وسألنا الدكتور يوسف، هل من حل جذري، يجنب مدينة القدس كل ما يحاك ضدها من مخططات ترمي لطمس هويتها..
فأكد على أن قيام الأمة بدورها في الحفاظ على المقدسات ومساعدة سكان القدس على ذلك، سيكون رافعة كبيرة للحفاظ على عروبة وإسلامية القدس، وهذا ليس رداً من عندي، وإنما من عند رسول الله «صلى الله عليه وسلم» حين سألته ميمونة بنت سعد، يا نبي الله، أفتنا في بيت المقدس، قال:» أرض المحشر والمنشر، أتوه فصلوا فيه، إن كل صلاة كألف صلاة في غيره» .. قالت يا رسول الله: ومن لم يستطع.. فأجاب: «فيبعث بزيت يسرج في قناديله، فمن فعل ذلك، كمن أتاه»
هذه دعوة نبوية للأمة بضرورة القيام بواجبها في مساندة المرابطين في المسجد وحول المسجد الأقصى الذين يدافعون عن مسرى الرسول «صلى الله عليه وسلم»، لأن ارتباط المسلمين بالقدس ليس عابراً، يرتبط بمحاولات بعينها للنيل من قدسيته، بل هو ارتباط عقدي، وكذلك ارتباط المسيحيين بها أيضاً ارتباط عقدي، ويجب أن يكون هناك تفعيل كل ما من شأنه الحفاظ على الهوية المقدسية، من خلال أساليب عديدة، مثل إنشاء توأمة بين المؤسسات العاملة هناك ومثيلاتها في الدول العربية، على سبيل المثال.. مستشفى المقاصد في القدس يكون هناك توأمة مع مستشفى آخر، الغرفة التجارية في القدس مع غرفة تجارية أخرى، وكذلك المساهمة في إقامة المشاريع السكنية هناك، مما يدعم أهلها المرابطين هناك، وييسر لهم وسائل الحفاظ على هوية القدس العربية والإسلامية، ويجب على وزارات التربية والتعليم والجامعات في البلدان العربية والإسلامية، أن تقيم الندوات وحلقات البحث، كي يعرف النشء عن هذه المدينة المقدسة وتربطهم بها.
دعم القدس
وهنا ينبغى التذكير بأن معظم كافة الدول العربية والإسلامية لا تألو جهداً في الدفاع عن عروبة القدس، كل حسب إمكانياته وجهوده، فدولة الإمارات تقيم مشروعات سكنية ضخمة هناك، ولن ننسى أبداً مبادرة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بإعمار مسجد عمر بن الخطاب «رضي الله عنه»، وكنيسة المهد حين تعرضا للقصف في لوحة تعبر عن روح التسامح التي يتحلى بها شعب الإمارات، وهناك لجنة القدس من المملكة المغربية، التي تقوم بشراء الكثير من المنازل في القدس، من أجل دعم المقدسيين هناك، ويكفي أيضاً أن نذكر أن الذهب الذي طُليت به قبة مسجد الصخرة، مثّل خراج مصر لمدة سبع سنوات، وكذلك المملكة العربية السعودية والكويت وسائر الدول العربية والإسلامية التي لا يتسع المجال لذكرها، فالكل يسعى جاهداً من أجل دعم القدس وأهلها، ولكن ما نرجوه أن تكون هذه الجهود ضمن خطة معينة بين الأشقاء، فهذا بالطبع سيعطيها زخماً أكبر وقدراً من الفاعلية والنجاح، وهذا سيكون نواة للعمل على تحرير هذه المقدسات بعد ذلك إن شاء الله
المصدر: أبوظبي