(دبي) - منذ بداياته، وضع الفنان والخطاط خالد الجلاف نصب عينيه مشروع الالتزام بالإسهام في تطوير فن الخط العربي الإسلامي، وهو مشروع تطلب منه المرور بمحطات مختلفة في مسيرته الفنية التي تقترب من الثلاثين سنة، بدءا بمرحلة التقليد ومن ثم المحاكاة والتعلم في مجال الخط التقليدي، حتى وجد نفسه في مرحلة المشاركات في المعارض الفنية المختلفة التي بدأت من عام 1990، لتبدأ بعدها مرحلة البحث عن الذات والأسلوب المختلف، ليجمع بين تجربتين متداخلتين في فن الخط والحروفية، من خلال التعمق أكثر في مجالات الفنون المختلفة، بهدف زيادة المخزون المعرفي، وتعلم تقنيات الرسم المختلفة وإتقانها بالممارسة، وكذلك ومن خلال الاطلاع على التجارب الرائدة في مجال الحروفية العالمية والتجارب الحروفية العربية.
تجربة الفنان تستحق وقفات معمقة، وكان معرضه الرابع الذي يقام حاليا في مجلس غاليري لتناول هذه التجربة من جوانب عدة، إذ يقول “بعد الكثير من الجهد والتجريب، كان لا بد من الوصول إلى إيجاد أسلوب خاص بي أمزج فيه ما بين اللون والخط العربي والعمارة الإسلامية والعربية والمحلية، أسلوب أرى أنه منفرد اليوم من حيث كونه يرتكز في المقام الأول على ما أسميه “المعشوق الأول” وهو الخط العربي، ومن ثم على الإطار والفكرة والمحسنات الجمالية المصاحبة للخط العربي من حيث شفافية اللون واختيارات التنسيق والتكامل بين الألوان وفكرة العمل المنفذ والعمارة الإسلامية التي تتناسب ومضمون اللوحة الخطية”.
وحول الهاجس والمشروع الأساسي الذي يعمل عليه يقول الجلاف “منذ بداياتي كان مشروعي إظهار مدى ما وصل إليه الفنان المسلم والعربي منذ البعثة النبوية وحتى الآن في التأصيل لفن الجمال، وإمكانيات وقدرات هذا الفنان ابن البيئة العربية والإسلامية على أن يبتكر مصادر جديدة للفن لم تكن جربت أو قدمت بشكل متكامل كما هو الحال في فن الخط العربي والزخرفة الإسلامية، وإظهار مدى ما وصل إليه المعماري المسلم أيضا من عظمة من خلال ربط اللوحة الخطية برسم رموز الفن المعماري الإسلامي على مر التاريخ”.
توازن اللوحة
وبالنظر إلى ما يجمع الفنان في لوحته من عناصر أساسية: الحرف، التكوين، الكتل، واللون، نقف أمام هذه اللوحة لنرى كيف يقيم التوازن بين هذه العناصر، فيقول “التوازن بين عناصر اللوحة عندي يقوم على أن النص والمعنى يلعبان دورا أساسيا في اختيار التكوين والكتل واللون، وكذلك البيئة التي نشأت فيها وهي بيئة الإمارات، فالتوازن يتعلق باختيار النص المناسب، وعادة ما يكون نصا قرآنيا أو حديثا نبويا أو حكمة عربية أو أبياتا شعرية من عيون الشعر العربي الفصيح أو النبطي، وعادة ما تكون رموز العمارة ظاهرة في التكامل الشكلي والمضمون والألوان تتأثر بالمخزون اللوني الذي تشبع بألوان البيئة الإماراتية”.
الخط والحروفية
وبخصوص ما يلمسه المشاهد من العلاقة بين فن الخط والحروفية، وكون أن لوحته تقع على مسافة واحدة من الحقلين المتداخلين، سألناه عما يقدمه كل من هذين الحقلين في بناء اللوحة، فقال “ الخط العربي فن قائم بذاته أبدع فيه الفنان المسلم حتى اكتسب احترام كافة متذوقي الفن وممارسيه كونه تتمثل فيه كافة عناصر اللوحة الفنية المتكاملة، من خلال استخدام الحرف والجملة وكتابتها على القاعدة السليمة، ومن خلال تراكيب ذات مقاييس جمالية جميلة وموزونة ولهذا الفن متذوقوه ومحبوه ومقتنوه، كذلك له مزاداته ومسابقاته أي أنه عالم بنفسه، أما الحروفية فهي إطار فني جديد طرأ على الساحة العربية متأثرا بالتغريب في الفن والتقليد لما هو غربي أو ربما شرقي ليس عربيا، فبدأت المحاولات بإقحام الحرف العربي بما يتميز به من جمال وتكوين أخاذ من خلال بعض الفنانين التشكيليين الغربيين ممن سحرهم الحرف العربي، وأنا لا ألومهم على ذلك فحرفنا العربي كون لديهم بديلا لعناصر رئيسية في لوحتهم التشكيلية كأهم مفرداتها، ثم بدأ الفنانون العرب يقلدون أقرانهم من الغربيين من دون بحث ودراسة ومن دون الرجوع إلى ثقافتهم العربية التي تضم ضمن مكوناتها الفن العربي الخالد (الخط العربي)، فكان الناتج عند البعض مسخا تشكيليا لا يمت إلينا بصلة وكان أشبه بمن تصنع الحديث بلغة غيره. أما التوظيف الصحيح للحرف العربي من وجهة نظري المتواضعة في اللوحة الحروفية فينبغي أن يكون مدروسا بشكل متعمق ومستخدما الحرف بعد تعلم كتابته لا رسمه فقط، لأن ذلك يبقي لهذا الحرف هيبته وقيمته التاريخية والفنية. أما عندي فأنا أقف على مقربة من كلتا المدرستين، خطاط تقليدي بأسلوب حروفي أصيل يمزج الحرف القاعدي في إطار من الحداثة إرضاء للذائقة الفنية الشخصية ومواكبة لروح المعاصرة التي نعيش فيها”.
ويعتقد الفنان بوجود تيارات عدة في فن الخط العربي، لذلك تحدث عن أبرز هذه التيارات، وعن انتمائه هو قائلا “كما ذكرت فإن في الخط تيارين الأول قاعدي وأصولي يبحث في الإرث التاريخي لهذا الفن ومدارسه المختلفة، ولا يكاد يحيد عنه قيد أنملة، والتيار الآخر مفرط في الحداثة التي أفقدت الفن العظيم هيبته من خلال التقليد الأعمى غير المدروس. وفيما يخصني فأنا أحاول التقريب بين كلتا المدرستين، وإن كان قد سبقني إلى ذلك فنانون متألقون حول العالم أذكر منه أستاذي حسن المسعود ومن قبله الفنان التركي أمين بارن والفنان المصري احمد مصطفى والفنان العراقي وسام شوكت وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة لذكرهم”.
وأخيرا، تناول الحديث تجربة فن الخط في الإمارات عموما، وخصوصا أنه كان لهذا الجيل من الخطاطين دور الريادة والتأسيس، فماذا عن هذه التجربة اليوم، فيقول الجلاف: فن الخط في الإمارات اليوم يعيش عصره الذهبي حيث الاهتمام به على أعلى المستويات، فدولة الإمارات تحتضن المجلة الوحيدة لفن الخط العربي في العالم وأعني مجلة “حروف عربية” التي أتشرف بإدارة تحريرها، كما أن مؤسسات كوزارة الثقافة وهيئة الثقافة بدبي ودائرة الثقافة بالشارقة وندوة الثقافة والعلوم بدبي كلها مؤسسات رائدة لها بصمات مقدرة وجليلة في خدمة هذا الفن الجميل، من رعاية لمعارض وبيناليات متخصصة لفن الخط، إلى رعاية معاهد لتعليم هذا الفن ورعاية الموهوبين وتنظيم المعارض لهم وورش خطية في دول العالم المختلفة. كل هذا وأكثر تقدمه دولتنا لفناني ومتذوقي هذا الفن حتى أصبحت ولله الحمد قبلة الخطاطين حول العالم وقبلة المحبين له، ولو رجعنا إلى المرحلة الزمنية التي بدأت فيها مع هذا الفن لوجدنا الفرق الكبير ما بين مرحلة النسيان والتنكر لهذا الفن وما بين الاهتمام مرة أخرى، لتكون الإمارات بحق عاصمة هذا الفن كما كانت بغداد واسطنبول والقاهرة والقيروان في يوم من الايام عاصمة له”.