حققت الكاتبة التركية أليف شافاك نجاحاً قلّ نظيره في روايتها «قواعد العشق الأربعون»، فقد بلغت المبيعات 600 ألف نسخة، وطبعت الرواية مرات، وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، فهي في هذه الحالة معلم روائي بارز لا يجوز للثقافة الأدبية أن تتجاهله، ولا بد من البحث في بنية هذه الرواية، والوقوف على ميزاتها الفنية وموضوعها، وتحديد موقعها من المسيرة الكبرى للرواية، وبخاصة الرواية الحديثة، فهي أثر لا يمكن تجاهله، بل بات من المقتضى إمعان النظر فيه لمعرفة موقعه وسبب نجاحه، والمحركات الفنية فيه، والجديد الذي جاءت به.
إنها دعوة لجميع الأدباء والنقاد والروائيين أن يبذلوا جهدهم في الإدلاء برأي في هذه الرواية واسعة الطيف، والتي اكتسبت سمعة عالمية كبيرة، وبخاصة لأن كاتبتها شرقية، وليس من السهل كما تعلمون أن يتاح لشرقي ما يتاح لزميله الغربي من تسهيلات. وبما أن الحديث عن الرواية لا بد أن يكون طويلاً جداً حتى يستوفي معظم جوانبها، إن لم نقل كلها، وبما أن المتاح محدود، فإننا نكتفي ببعض الملاحظات، التي نظن أنها مهمة، والتي ستكون قليلة جداً إذا قيست بالطيف الواسع الذي حققته هذه الرواية الكبيرة.
فجر الرواية الحديثة
في الربع الأول من القرن العشرين ظهرت رواية جيمس جويس «أوليس»، أو «عوليس» كما قدمتها الترجمة العربية. وباعتراف معظم نقاد الرواية اعتبرت فاتحة الرواية الحديثة، التي قضت على الرومانسية التي ظلت تلازم الأدب حتى أواخر القرن التاسع عشر. وقد حققت شهرة بين الروائيين والنقاد، لا يكاد يضاهيها أثر آخر في تاريخ الرواية. إنها تشكل فجر الرواية الحديثة، بل إنها «البارادغما» الروائي لكل كتاب أوروبا، ومن اتبع التقاليد الأوروبية. ونقول هذا مع الإشارة إلى أن أثر «عوليس» ضئيل جداً في موطن «الواقعية السحرية» أي في بلدان أميركا اللاتينية. يبدو أن لديهم من تراث السكان الأصليين الشيء الكثير، وبخاصة التراث الأسطوري.
كان جيمس جويس صديقاً لكارل غوستاف يونغ، مقتنعاً بأطروحاته النفسية والفلسفية، أي إنه يؤمن بالأنماط الأولية التي لا يمكن التخلص منها، ولكنها من باب آخر قابلة لـ «الانزياح» أو قل التعديل، أي بعض الحذف هنا، وبعض الإضافة هناك. وما يفرض هذا «الانزياح» تغيّر ظروف البشر، فالنمط الأولي يتطور، ولكنه لا يتغيّر، أو يتغيّر منه الجانب الزمني، أي المتعلق بالظروف الطارئة. وحتى يؤكد جميس جويس أنماط صديقه العزيز جداً، اعتبر أن شخصيات ملحمة الأوديسة أنماط أولية، فأخذها بقضها وقضيضها، وقام بتجربة تعتبر الأولى من نوعها، وهي أن ينقل هذه الشخصيات من القرون السحيقة إلى القرن العشرين. معنى ذلك أنه لا بد أن تتغيّر الأسماء، وتنقلب من أسماء يونانية قديمة إلى أسماء أوروبية حديثة، ولا بد أن تتغير الوسائل، فلا وجود للرمح والسيف والجواد، بل للبندقية والمسدس والدبابة... ولا بد أن تتغيّر العلاقات الاجتماعية... ولا بد أن تتغيّر طريقة الحوار... الخ. فلم يعد عوليس يمتطي ثبج البحار على طوّافة، بل لا بد أن يعود بسفينة، ولم يعد يخاف غائلة التيارات والأمواج البحرية الغاضبة... وبنيلوبي التي ظلت عشرين عاماً تنتظر عودة زوجها يصعب العثور عليها. ولذلك لا يدهش القارئ، والحالة هذه، أن تكون بنيلوبي الحديثة في ماخور تجمع المال، حسب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، ولا يدهش إذا لم يخرج تليماخوس باحثاً عن أبيه...
الخلاصة أن «عوليس» دعوة إلى أن تكون الرواية متفاعلة مع المتغيرات الزمنية، حتى لو تمسكت بالأنماط الأولية تمسكاً شديداً.
وهكذا راح جيمس جويس يكتب «الأوديسة الحديثة» إن صح التعبير، محتفظاً بكل شخوصها، ومتتبعاً أحداثها.
من جويس إلى شافاك
اقتدت شافاك برواية جويس، ولكنها غيّرت في طريقة العرض. في هذه المرة كانت تأتي بسيرة التبريزي في القرن الثالث عشر (الأوديسة القديمة) وتختلق سيرة لتبريزي جديد (وهو عزيز) في العصر الحديث. وبتيار متناوب تنقل القارئ من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وكل نبذة توردها من سيرة التبريزي تأتي بمثلها من سيرة عزيز، إلى أن تنتهي الرواية بمصرع البطلين، وإن كان ذلك بطريقتين مختلفتين. وقد أبدت قدرة في احترام الظروف الجديدة، فالخمارة صارت كباريه، والمبغى الذي كان محصوراً في أوديسة التبريزي صار متاحاً في كثير من الشوارع والكازينوهات والفنادق... وهكذا.
بالطبع هناك أسئلة كثيرة مشروعة يمكن أن يطرحها القارئ حول الشخصيات والأحداث، وكثير من الأمور الأخرى، ولكن لكل سؤال جواباً، فيمكن للكاتبة أن ترد على جميع الأسئلة، ولكن الحكم الأخير يكون لقواعد الرواية الفنية، وليس لقواعد العشق.
وبما أن أوديسة التبريزي تعتمد على كتابه «قواعد العشق الأربعون» فقد تتبعت هذه القواعد وبعين نافذة حاولت أن تصوّر مصيرها في العصر الحديث، الذي وسمته بالعصر المادي المعادي للنزوع الروحي الذي كان متوهجاً عند الصوفيين، كما أبرزته عند البسطامي وجلال الدين والتبريزي، وإلى حد ما عند سلطان ولد بن جلال الدين، الذي، واقعياً، له الفضل في إشاعة الطريقة المولوية في الرقص والوجد والتأمل والاندماج والتوحد.
إن الجديد الذي قدمته الكاتبة يكاد ينحصر في مصير التجربة الصوفية في العصر الحديث.
المجدلية «وردة الصحراء»
المجدلية نمط من الأنماط الأولية في الأدب، بعد أن انتقل الجنس من القداسة إلى الدناسة، غب انتقال السلطة من المرأة إلى الرجل في الثورة الزراعية، ولم تستطع الحركات الأمازونية أن توقف هذه الثورة، ولا أن تحافظ على العلاقات القديمة. وقد وحّد المسيحيون بين الزانية التي أنقذها المسيح من الرجم ومريم المجدلية الباذخة التي تخلت عن كل شيء وصارت من أتباعه، بعد أن أعلنت توبتها بغسل قدميه بالطيوب، مع أن الشخصيتين مختلفتان، حتى غدت المجدلية رمزاً للمهنة المدنسة، التي كانت من قبل أرقى المهن وأشرفها، حتى أن بنات الأباطرة والملوك لا يتزوجن إلا بعد قضاء فترة معينة في الهيكل، يمارسن ما كان يسمى «الزواج المقدس».
ابتكرت الكاتبة شخصية «وردة الصحراء» لتكون مجدليتها. وأعادت رواية المجدلية القديمة (ونقصد التي أخذت للرجم بتهمة الزنى)، ولكن هذه المرة لم تجعلها تؤخذ إلى الرجم، وإنما أدخلتها إلى المسجد متنكرة بزي الرجال، حيث يكتشف داعر يعرفها جيداً أنها «وردة الصحراء» وليست رجلاً، كما يوحي لباسها التنكري. واستعاضت عن الراجمين بجمهور المصلين الذين هاجموا هذه المرأة ولولا قليل لكانت لقيت مصرعها. وعلى الفور نجدها تتخلى عن مهنتها وتنتقل إلى نزل الرومي، ومعه أستاذه التبريزي.
أبدعت الكاتبة في خلق المسوّغات والظروف التي ساقت «وردة الصحراء» إلى الماخور، تذكرنا بالظروف العسيرة جداً لدى كثير من الكتاب الأوروبيين، أمثال «نانا» لإميل زولا، و«غادة الكاميليا» لألسكندر ديماس، بل زادت على ذلك أن «وردة الصحراء» لم تكن تعيل أحداً، ولا تمتهن هذه المهنة لإنقاذ حياة، أو الاحتفاظ بخليل تتوهم أنه سيصبح زوجها في المستقبل. وأبدعت أيضاً في إقناعنا أن الظروف الجديدة في المبغى كانت أشد إيلاماً لها من الظروف السابقة التي مرّت بها، بحيث تدفعها إلى الهرب نحو الصوفيين، تخلصاً من الظروف القاسية في المبغى، ولكنها لم تقنعنا في أن هذه المرأة البسيطة جداً والساذجة يمكن- ضمن الظروف التي دفعتها إليها- أن تكون قد اتجهت إلى الصوفية لأنها فهمت أو استوعبت الصوفية، فأبطال الصوفية ليسوا من البسطاء أبداً، بل كانوا من علماء الدين الكبار، وربما كان مولانا جلال الدين الرومي خير مثال على ذلك، فكلهم شعراء وفلاسفة وحكماء كالحلاج والسهروردي والجنيد والبسطامي ومحيي الدين بن العربي ورابعة العدوية... ولا يعرف القارئ متصوّفاً بمثل هذه السذاجة والبساطة.
لعبت مجدلية شافاك دوراً كبيراً في انتشار روايتها، فكثير من القراء تضيع منهم منعرجات كثيرة وشخصيات كثيرة في هذه الرواية إلا «وردة الصحراء». إنهم يبدون تعاطفاً كبيراً معها، ربما لاعتماد الكاتبة على رواية الأناجيل لحادثة رجم الزانية وكيف أنقذها المسيح.
مجدليات سارتر والسيّاب
قلنا إن المجدلية نمط أولي، منذ الفترة التي انتقلت فيها السلطة إلى الذكر بعد أن كانت للأنثى. ونجد هذا النمط، بالإضافة إلى الكاتبين اللذين أشرنا إليهما، لدى الكثير من الكتاب أمثال أناتول فرانس في رواية «تاييس»، وألكسندر كوبرين في رواية «الحفرة»، وجان بول سارتر في مسرحية «المومس الفاضل»... وما أكثرها في روايات أميركا اللاتينية، بل إن الشعراء أدلوا بدلوهم في هذا النمط الأولي، فللشاعر بدر شاكر السياب قصيدة «المومس العمياء» التي كان لها وقع كبير في ساحة الشعر العربي... والحديث يطول في هذا الميدان، وبخاصة إذا عرجنا على الفن السينمائي في مصر، فهناك الكثير من هذا القبيل، حيث تتجلى المجدلية بانزياحات كثيرة ومتنوعة، وقد أبدع كتاب الأفلام في تقديم أشكال كثيرة جداً لهذا النمط الأولي.
على أن النمط الأكمل والأمثل والأروع والمستوفي لأصول الفن الروائي الإيجابي، أي الهادف إلى غاية نبيلة، نجده عند الكاتب الروسي دستويفسكي في شخصية «سونيا» بطلة رواية «الجريمة والعقاب» إذ قدمها بهدوء وروّية ودراسة عميقة، ومن دون أحداث «بوليسية» مثيرة، فقد التقطها من الوسط المعوز، ولم يجعلها فاقدة الأهل والأصدقاء، ثم جعلها تمارس المهنة ليس كرهاً بل طوعاً، من أجل حياة أهلها، ولا تتجلى صوفيتها بالهرب من واقعها أو الذهاب إلى كنيسة ينكشف فيها سرّها وينقذها الصوفيون أو أصحاب القلوب العسلية، بل من قناعتها بالمحبة الإنسانية عندما حاكت الثياب الصوفية لراسكولنيكوف ورافقته إلى منفاه في سيبيريا. وإذا كانت مجدلية ديماس «غادة الكاميليا» فازت بشعبية هائلة لدى عامة الكتاب والفنانين، فإن سونيا، مجدلية دستويفسكي فازت بأكبر شعبية بين النقاد الكبار والفنانين والشعراء والروائيين، حتى أن بعضهم أطلق عليها لقب «القديسة سونيا».
للقارئ كل الحرية في أن يقارن بين تلك المجدليات ومجدلية شافاك، ولكنه مجبر أن يعترف أن الجزء الأكبر من شعبية «قواعد العشق الأربعون» يعزى إلى «وردة الصحراء» حتى لو كانت له اعتراضات كثيرة جداً على تقديمها بهذه الصورة الصنعية التي وردت فيها.
رواية الأصوات المتعددة
لم تسلك شافاك طريقة السرد العادي في «أوديسة» التبريزي، بل عمدت إلى الأصوات المتعددة في رسم الشخصيات والبيئة والأحداث، وهي طريقة عرفها الأوروبيون ومارسها بعض الروائيين العرب، منذ كتاب جبران خليل جبران «يسوع ابن الإنسان». وللروائي نجيب محفوظ باع طويلة في هذا الباب، إلا أن الكاتبة لم تستخدم هذه الطريقة في «أوديسة» عزيز التي تجعل أحداثها معاصرة لنا. يبدو أنها مقتنعة أن هذه الطريقة لا تصلح للعصر الحديث، مع أن هذه الطريقة ظهرت في العصور الحديثة وليس في العصور القديمة.
قلنا إن «وردة الصحراء» عامل أساسي في انتشار هذه الرواية الضخمة، ولكن علينا أيضاً أن نقرّ أن نفور البشر من أساليب الإدارة والتضييق على الإنسان وخلق ظروف قهرية من صنع التطورات العصرية، وقلق الإنسان على مصيره في ظل هذه الأنظمة «الحرة»... يدفع القراء إلى الإعجاب بهذا الصفاء الروحي الذي عرضته الكاتبة الروائية أليف شافاك.
وما نرمي إليه في هذه الكلمة الموجزة جداً حثّ الكتاب إلى استجلاء، ليس فقط فن الرواية الحديثة، وما قدمت وما أخرت، بل أيضاً حثّ الباحثين إلى استجلاء الأوضاع القهرية القائمة في العالم الحديث.