إبراهيم الملا
مضاء هذا الليل الذي أخذ أحمد راشد ثاني معه، ومبجّل هو اسمه، الليل الذي مرّ على حين غيمة، وصار يحتسي ماء الغياب، كلما هبّت الذكرى، وجاست خلال الديار، وظلّلت بيتاً من غبار، الذكرى التي شهق لها البحر، وغصّ بها الجبل.
يقول أحمد في إحدى قصائده الموغلة في البناء الوصفي المكتنز والمغاير:
«ومن يومها وأنا خارق في الجبال
أتدحرج من بئر إلى بئر
مكشوفاً للعراء السفلي
بينما تكسو أفكاري
غبرة الحرائق المجهضة»
هكذا.. في الذكرى الثامنة لرحيله، يعاود أحمد راشد ثاني تشكيل مداراته المستأنفة للفقد، مُفتّتاً «حصاة الصبر» بين أيدينا، ومشرعاً للوجع ألف باب، ها هو يقحمنا في الظن المُلتبَس، وفي الحدس الدائخ بين غياب وحضور، وبين تلاشٍ وإنوجاد، ضالعاً مثل «الغريق الشرس» – كما وصف نفسه مرّة - في تصدير الألفة الموحشة إلى أرواحنا الذاهلة، وحواسنا الملتاثة، وعيوننا المغلقة باتساع كبير على الشجن والوجد وغلَبَة الخسران وطغيانه.
لم ير أحمد راشد وجهه في طفولته، ولكن مرايا البحر أخذته إلى منتهاها، وأغوته الجبال بالرؤى الشاهقة، عانقته الليالي حتى صار عضيدها، وأصبح الطفل «الرغيد» المسترسل في الصعلكة، مطارداً بنات الجن في مزارع النخيل، وسكيك البيوت الطينية، قبل انبثاق الفجر، ويقظة النهار.
وحيداً في زحام الرغبة وضراوة الدهشة، اكتشف أحمد أنه صار شاعراً بالفطرة، وأن خروجه للعالم بات هوساً وجودياً لامتلاك الحياة، واحتسائها حتى الثمالة، بعيداً عن المراثي، والمآلات الفانية، نائياً بنفسه عن مخالب الكدر، ومندفعاً نحو مغامرة قصوى تفوق قدرة الجسد، مرتحلاً بذاته الأصيلة، وذواته الافتراضية إلى النشوة الفائضة، والخيالات الجذلى والمستحيلة.
في عزلته المتماوجة
في قرية «المديفي» التي كانت تحمل اسماً سابقاً هو «الفصيل»، رأى أحمد في صغره، وفي عزلته المتماوجة، وتحت ظلال العريش ملامح الخرافة كما لم يرها أحد من قبل، رآها وهي تنسج أصداءها وألوانها ومفاتنها في بصره وبصيرته، وتقوده إلى سدرة «الحوش» لتكون هي شقيقته ومفتتح حكايته مع العشق والتأمّل والهيام، أما البحر القريب فصار توأمه الروحي، ولم تخل قصائده وبحوثه وكتاباته المسرحية والنثرية من الاحتفال بالأزرق الكبير، ومن استحضاره، ومراودته، ومحاورته، والخضوع لأحواله، وتقلبات مزاجه، المتجسّد منه والضمنيّ، الظاهر منه والباطن، والجليّ منه والخفيّ.
أما الجبال المحيطة بقريته، فصارت أيقونة لشموخ متحالف مع الرهبة، مع إحالات مريبة يسوّرها الخوف ويطرّزها الفضول، إنها الجبال الفاصلة بين الواضح والمبهم، والمكشوف والمستتر، والمرئي والمسرف في نأيه وانغلاقه.
إنها البلاغة الناجزة للماء والحجر التي كوّنت الخريطة الذهنية والمعرفية لأحمد راشد ثاني بلغة تبدأ من الكثافة واللمح والإيجاز في الشعر، وتنتهي بالاسترسال والبحث والتقصّي في السرد، وفي الدراسة العميقة لجذور الذاكرة الشعبية.
كبر الطفل، وكبرت معه الحيرة، وناوشته الأسئلة، وأخذته الجهات كلها، لكنه لم يغادر صباه، ولم يغادره تراب الساحل الأثير، العالق في عروقه، أينما حلّ وارتحل، وفي ذلك يقول شعراً:
«الأمواج الشابة
التي ركضت خلفها وغرقتُ.
كما غرقتُ.
وأمواج أخرى أشعلت الحياة
على سواحلي المهجورة
وعندما أنقذت الجمرة في روحي
سحبت نفسها كالأفعى
ورجعت إلى البحر»
يكتب أحمد راشد شعراً يترقق ويسيل ويتهادى حتى يغدو كما الماء، لكنه الماء المخاتل الذي يخفي تحت كثافته: حرائق ولواعج وانكسارات، لا تبوح بقدر ما تضمر، ولا تتمظهر بقدر ما تنسلّ، إنه شعر يقدح من حسّ الرائي والراوي، شعر يلوذ بحكاية لا يسعفها الشرح بقدر ما تكفيها الإشارة، شعر يعتني بالحنين دون أن يخسر جسارته أو يفقد طزاجته وراهنيته.
احتفاء مغاير ومبتكر
في بواكير انتباهه للشعر، أصدر أحمد ديوانين باللهجة العامية، وهما: «سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه»، وديوان: «يا الماكل خنيزي، يا الخارف ذهب»، وفي كلا الديوانين يحتفي أحمد راشد بالمفردة الشعبية خارج سياق المتداول والمكرر والتقليدي، ليؤسس ابتكارات جديدة في الوصف والتوليف، والجمع بين الأضداد، وخلق المفارقة بين الشكل والمعنى، وذلك قبل أن يوجه بوصلته الشعرية وبشكل نهائي نحو قصيدة النثر والانتماء المطلق بالتالي للحساسية التعبيرية الجديدة التي لونت فضاء الشعر العربي من المحيط إلى الخليج.
في إحدى قصائده العامية الأولى والمبكرة، يقول أحمد راشد ثاني:
«آه يا عيوني، يا اللي ما ترفّ إلّا على طيور البلد»
وفي مقطع آخر يقول: «ما لقى غير الصخامة يكتب بها على اليدران عشقه»
وفي قصيدة يعبّر فيها عن صوت أمه التي لا تعرفه يقول:
«قوم يَحْمَدْ
قوم باكحل عيونك
باللي ما كحلت به حدّ
قوم
باغني لك للماقَطْ غنيته
غناتي انت
كبدي
يوم تتلف
منّي الكبد».
وكان على أحمد راشد أن يختزن كل هذا الإرث البصري والعاطفي الحار والحيوي والمتدفق ليصيغه في قالب شعري ضمن مختبر إبداعي مستقل وخاص جداً، مختبر لم يتوافر لشاعر آخر في الإمارات، لأنه يضم أرشيفاً هائلاً من الذاكرة والخيال والتفاصيل الشعرية والزخم الوجودي والحكايات الشخصية والتحولات الاجتماعية التي شكّلت هوية «مدينته الأزلية»: خورفكان، وصنعت مزيجاً بشرياً مختلفاً ومؤتلفاً في آن واحد، فكانت ميثولوجيا المكان المتراوح بين الماضوي والحديث، هي منشأ الرهان الشعري لأحمد راشد في تكوين معجمه الشعري، ومزاجه الفني والمسرحي، ومطاردته لمكامن الثقافة الشفاهية والتدوينية القديمة، والتي ترك غياب أحمد راشد فجوة كبيرة فيها، فهي ما زالت بحاجة لنبش واستقصاء ومتابعة، فالكثير من ملامح هذه الثقافة الشعبية التأسيسية ما زال مغيباً ومجهولاً وآيلاً للنسيان.
جهد موسوعي شعراً ونثراً
شاعرنا أحمد راشد ثاني هو ابن بيئته بامتياز، لأنها البيئة المتخمة بواقعيتها السحرية، وطبيعتها الأسطورية، المتداخلة مع عنف التاريخ الاستعماري، ووداعة الجغرافيا والطقس الريفي الجامع بين المزارعين والرعاة والبحارة والصيادين.
وولد راشد في مدينة خورفكان، وتحديداً في قرية المديفي في العام 1962، صانعاً من مكان ولادته أرضاً للفراديس المجنّحة والذكريات الجامحة، ولذلك لم يكن غريباً بعد ذلك أن يصبح مفتوناً بلذة القراءة والتهام الكتب، لأنه قرأ أبجدية المكان مبكراً، وراودته تفاصيل الطبيعة وروت وعيه الظمآن، قبل أن تكون هناك أواصر وعلائق مع البشر، ومع الآخرين المحاطين بجحيمهم، ومغالطاتهم، وأحكامهم القاسية.
ويعد الجهد الموسوعي الذي بذله أحمد راشد ثاني، شعراً ونثراً وسرداً وتحقيقاً هو جهد موصول أيضاً بشغف لا تنطفئ جذوته حتى مع القطع والغياب والركون إلى الهدأة الأبدية، ذلك أن المنجز الإبداعي الفاره والعارم الذي توّج به أحمد راشد المشهد الثقافي المحلي والعربي، سيظل منجزاً متوقداً في اللاوعي الجمعي، وسيظل دوره التحريضي الإيجابي ماثلاً أمام أشباهه ومريديه، من أجل الإنصات طويلاً لصوت الذات المبدعة في أصلها، ولصوت الأرض التي أنجبت هذا الإبداع، وصنعت منه وهجاً لا يذوي وروحاً لا تغيب.
دواوين ومدونات
أصدر أحمد راشد العديد من الدواوين الشعرية ومدونات السيرة الذاتية والانطباعات المتعلقة بأسفاره ورحلاته في الأزمنة والأمكنة المختلفة، وكذلك البحوث المتعلقة بالسرد الشفاهي، فمن دواوينه الشعرية المنتمية لقصيدة النثر: «دم الشمعة»، و«حافة الغرف»، و«يأتي الليل ويأخذني»، و«هنا اللذة»، و«ها يداي فارغتان»، و«الفراشة ماء مجفف»، و«الغيوم في البيت»، و«حديثي عن الآبار يشرب»، وهي دواوين عزف فيها على تقاسيم التعب والنشوة والاستعادات الفائضة بالنوستالجيا في تحقّقها العالي والمرهف، وكتب قصائد الدواوين تلك في الفترة من العام 1985 إلى العام 2009، وقدم للأرشيف البحثي التراثي مجموعة من الدراسات الفارقة منها: «رحلة إلى الصير»، و«بين المشافهة والكتابة.. حالة الإمارات»، وتحقيق وتعليق على كتاب «الشعر الشعبي في دولة الإمارات» لأحمد أمين المدني، وتحقيق ديوان «محمد بن صالح المنتفقي».
كما أصدر ثلاثة كتب مهمة عن السرد الشفاهي، وهي: «حصاة الصبر» و«دردميس» و«إلاّ جمل حمدان في الظل بارك»، وهي السلسلة التي شددت على الدور الأساسي والمهم للسرد في المرحلة الشفاهية من حياة المجتمعات، سواء كانت هذه الحكايات خرافية أو تدور حول أبطال شعبيين- كما يذكر أحمد راشد في مقدمة الجزء الثالث والأخير من السلسلة – مضيفاً أن مظاهر وأشكال السرد الشفاهي تؤدي أدواراً مهمة وعضوية في المجتمعات التي لم تترسخ فيها الكتابة، ذلك أنها حكايات تنقل خبرات الإنسان وأحلامه، وكانت شغل مخيلته وشاغلها، وهي تعبر عن مخاوفه الشعورية واللاشعورية، كما أنها وبقدر ما تحمل من سمات خاصة بكل تجمع بشري، فإنها كذلك تتصل بالعمق الحكائي في الداخل من الكائن البشري عموماً.