وطني فيك الحلم يتقدُ ويكبر، وتكبرُ جل هامات الرجال، وتكبرُ أنت حتى صرت يا وطني نعيماً في السماوات وفي الأرض لجيناً.. وطني جاز للأحفاد أن يجنوا ثمار وجد وأن يحنوا على وطن، لا يغيب الحب عن بستانه، والطير يشدو بانتشاء كلما لاح على الأغصان نور من ضياء الوقت ومن سنا الأجداد.
وطني، أراك ولا أرى غيرك في السماء، نجماً يخضب كف أنثى ويغسلها بالبَرَدْ، ويكتب عن جذور في سطور، جاوزت حد المدى، وأناخ الليل مستلهماً من نورك الشعاع، وطني لا سواك كوكب وموكب ومنكب، يعلو ويعلو، وتعلو به الهامات مشتعلة، تعلو به الرايات مستبسلة، وطني لا سواك في الورى، حلم يبدد عتمة ويضيء.. ويضيء حتى صارت الأرض ضياء، واشتهاء واحتواء وانضواء.. صارت الأرض بساطاً من عشب خصب وصخب وصحب، وبدا للفجر بدءاً لا نهاية، والحكاية أنك وطني، نسج من حرير الأمنيات، وعناقيد الفرح..
كل شيء فيك يا وطني راجح، كل شيء فيك يا وطني لشدة الله، مشدودة للخلق والإبداع، ويراعك نث من هطول السابحات سبحاً والمدبرات أمراً، الجاريات في عروق الوقت، جهراً ولا سراً..
وطني، ما الحب إلا لغة على لسان الطير، وبراءة الأعشاش، ورقة البحر المؤزر بالهوى والتضاريس.
وطني، هذي جزالة حي بن يقظان، وابن طفيل المطوق بأشواق، وما جرى في حلم التصوف من نقاء، وصفاء، وسخاء، وثراء، ونماء، واكتواء، وبهاء التأمل في غضون وسجون وشؤون، وجنون العاشقين..
وطني، لم يكتب مثلك شاعر، ولم يسهب نهر ما بدا منك من مداد، وسداد.
القلب والمهج
وطني، وحدك القابض في الهوى، على نار وثلج، وحدك الناهض في القلب والمهج، وحدك الراكض طفلاً في حنايا الشوق، غنى للمدى، كيف يحلو الحب والعشاق، أوراق خضها الشوق على أغصان الشجر.
وطني، وحدك جذل وغزل، وغزالات وجدك، راعيات في تجاويف الكرى، خنجر أنت ودرع، مطر أنت ونبع، قدر أنت وما بعد القدر، وبحر ونهر وأشياء أُخر.
وطني، وحدك في القلب مدار وحشر.
وطني، وحدك في الروح، التياع وانصياع ويراع، وابتداء لا انتهاء.
وطني، وحدك تزرع العشب، وتروي شجيرات الأمل، راية أنت وحكاية، ورواية بدء لا انتهاء.
وطني، وحدك تسرد الموال نشيداً، وترتل ما بدا في التاريخ من قصائد وفرائد، وتجزل، وتهطل، كجناح النورس الفضي على قلبي وتدوزن في الهوى عشقاً ونسقاً.
وطني، نحرٌ وصدرٌ وفكرٌ وأمرُ، وجذرٌ وخِدرُ.
وطني، وحدك في الكون مسار وطور، وحدك في العلياء تهز غصون المجد، بجد وكد، وتعد لأيام أزهى وأبهى، وتعد لأحلام ما خبت يوماً وما غشت العين غيمة.. وطني، وحدك النغمة والناي قلوب العاشقين.. وطني، وحدك لهة الطير على الغصن الرصين.. وطني وحدك من كلَّم الغيض سراً، وجهراً، فأفاض واستفاض في صراط مستقيم، يملأ الدنيا نشيداً ويغني.. وطني، وحدك في النهر المجلل ترتدي ثوب الفرح، يرقص الطير لأجلك، والغصن يشدو طرباً.. وطني، وحدك في المقام هيام وغرام، وانسجام وانسكاب الموج سُحراً وانسحاب على الجيد جياداً، ساحرات مبهرات مذهلات، مجزلات الكحل، ناهضات عاكفات في الهوى ردحاً، قاطفات من نجوم وغيوم.
وطني، وحدك المقيم المهيمن، الساكن واليقين، إذ لا يقين إللاك والذي سوّاك، فأنت اليقين وأنت الحنين والسنين، وأنت اللجين والحاجبين، أنت اللجة ودرة الغائصين، أنت الحجة ووجهة العالمين، أنت الفكرة المتأججة، ومقلة الراهبين، أنت القُبلة والقِبلة، وأنت يا وطني المسافة ما بين العين والعين، وأنت النخلة النبيلة، وغصن الياسمين، أنت الغافة النجيبة، وطور سنين، أنت عدالة الأيام، يا وطني وأنت الخافق والمرفق، أنت الشوق والعنق والحدق، أنت رضاب الساحل، وشفة الأفق.. أنت.. أنت يا وطني، القلب والشريان والدفق، وأنت الطوق والنسق، أنت القصيدة الوصماء، والوزن والقافية، وباحت به النوق وأنت الرمق.
وطني، وحدك في النعيم آمناً مجللاً، على الأكف محفوف مدللاً، وطني وحدك في القلوب عصفور معللاً، فإن قلت في حبك نثراً، تنثر في الكلمات وجداً مزلزلاً، لا هواك عني بعيد، ولا يضاهيك في المنازل منزل، بل أنت الخطاب والكتاب المنزَّل.
طني وحدك الصبوة والنخوة، ووحدك تسرج في الصدر جياداً، ووداداً، وسعاداً، ووحدك في المجاز امتياز، وانحياز للمعاني والأماني، ووحدك قطب تسابقت من أجله الأقطاب اجتيازاً، ووحدك ناول الدنيا رغيف المنى، وأسهب في العطاء مفازاً..
وطني وحدك ووحدك، جائز في الشعر ما جاز لغيره، لأنك في القوافي حروف بلا سقوف ولأنك في السواقي ناهلات من كؤوس النخب ومجليات للهموم..
وطني وحدك في النشيد عَلَم وقَلَم، وسهم ونجم.. وأنت.. أنت المسهب عشقاً، الحادب في ثنايا الروح، وأنت السؤال المبجل..
وطني وحدك في مسام الأرض عشباً ونخباً، ونجباً وسهباً، وأنت في الخطوات حث ونث وبث، وأنت النهج المؤدلج بالهوى، وما طرأ على بال يوسف في الأمانة، وما أسخت به عصا موسى من قدرة فائقة، أنت النبرة المتألقة، والندى والخفقات الدافقة، أنت وجد السابحات في أتون السماء، وأنت رفرفة النجم على خد حواء، بل أنت آدم، وقبل آدم، قبل السكون، وقبل الجنون، قبل المتون وقبل الفنون، قبل فكرة الأوطان، يا وطني أنت الوطن وأنت الشجن وأنت الفنن.
الريادة والسيادة
وحدك يا وطني في الريادة وطناً، وفي السيادة حضناً، وفي الفرادة فناً، وفي النجابة وزناً وشجناً..
وحدك يا وطني، من خيوط الشمس أسست بناءً، ونسجت من حرير الجهد فِناءً، وفي الصحراء كان للنخلة قص وحكاية، مدت الفصل فصولاً لا نهاية، واستوى الجودي مآلاً ومنالاً، واكتسى البحر حبلاً من وصال، صار للموجة لوناً ومواويل طوال..
وحدك يا وطني من نسل السجايا، وارفات، ثريات يطوين الهوى، سجلاً ويحملن في الأعطاف معاني الحياة..
وحدك يا وطني في نهر الكلمات، حروف يانعات يافعات، راويات عن تواريخ قديمة، وعن مجد جديد، عن ثرى يخلد أمناً، بعدما صار الأمان امتحاناً، وصار الأمان مكاناً، لمن طوق الأرض بالحنان.
وحدك يا وطني، تصخب وتخصب من بديعات الأماني، تملأ القلب بأعشاب الحياة، تملأ الدنيا بوميض يحتذى، والشفاه كل الشفاه، تلهج دوماً باسم من جلى وعلا، واعتلى بالحب نهجاً شامخاً، راسخاً في عمق الجباه..
وحدك يا وطني، تقتفي أثر الناس وتمضي في الهوى وجداً، عاشق أنت كطير النورس الفضي.. عاشق تطلق الحب جناحاً، وبراحاً، وسراحاً، وجماحاً، وانشراحاً، تطلق الحب مناراً، وسواراً، وحواراً، وجواراً، ونهاراً، ومداراً، تطلق الحب حقولاً في عيون العاشقين، تطلق الحب فصولاً، في جنون المدنفين، تطلق الحب هطولاً في شجون المخلصين، تطلق الحب سدولاً في محاريب الثملين، تطلق الحب جلولاً في تلافيف المغرمين، تطلق الحب مثالاً في تضاريس العالمين.
أنا هنا يا وطني، أمشي خلفك وأمامك، وعند غصونك وعند جنونك الجميل، عند خاصرة الزمن النبيل، أنا هنا يا وطني أقف والدهشة تملأني، إذ الطيور تلون الأغصان والبحار والمحار وتزخرف الكون بألحان النهوض الأصيل..
أنا هنا يا وطني، أنظر من نافذة الروح، لروحك المتجلية، أنظر من شرفة العقل أحدق بامتنان، لهذه الأيدي المخضبة بحناء الفرح، أنظر ولا أكتفي بالنظر، فأذوب كفراشة في حقل أفراحك.. أنظر يا وطني ولا يسعني النظر لأنك يا وطني أبعد من النظر وأوسع، من حدقات الكون، وأعم شموخاً من النجوم والأقمار.
أنا هنا يا وطني، عند ناصية الافتتان، أغسل يدي بالاخضرار وأثمد العين هذا الفضاء، الملون بالبهجة، ورق الأواصر، أنا هنا يا وطني، في هذا الكل من الرفح، أستمع إلى نشيد الطير، وموال الموجة العارمة، أصيغ السمع يا وطني، وأرسم صورتي في مرآة الذاهبين إلى العلا المنتمين إليك، العازفين لحن الخلود والمجد يا وطني يرتل آياته، مبجلاً نخوتك وصبوتك، وصهوتك، ونشوتك المجللة بقلائد الظفر.
أنا هنا يا وطني، أخلد إلى وسادة عطائك، وأحتسي من نخب امتيازك المبلل من عرق الباذخين في العطاء، المترفين في السخاء، المتمادين دوماً في عصيان الكلل..
أنا هنا يا وطني أغسلني بطهرك، وأنظف رايتي ببياضك..
أنا هنا يا وطني مثل الورقة في غصنك الرطيب.