حراك شعبي كبير، وتفاعل منقطع النظير تشهده الدولة هذه الأيام؛ فالكل يتنافس على تقديم أجمل إبداعاته احتفالا بالذكرى الأربعين لقيام الاتحاد، وهو يوم عزيز على قلوب الصغار والكبار، صغار يعشقون تراب هذا البلد، وماءه ويتنفسون هواءه، يرسمون معالم حياتهم هنا، وهنا أيضا تتبلور شخصيتهم وتتكون ذاكرتهم، فما هو المردود المعنوي لهذه الاحتفالات على أنفس الصغار وتكوينهم الفكري؟ وما هي الإضافات التي تقدمها هذه المنافسات الإبداعية في حب الوطن والغناء بصوته على نماء الطفل الذهني والعاطفي؟
تقول الدكتورة علياء إبراهيم، خبيرة تنمية أسرية ومدربة مهارات حياتية، إن التربية على حب الوطن من خلال الاحتفالات الوطنية تغرس حب الأرض، وينعكس ذلك على سلوك مكوناته البشرية، ما يدفع الأفراد للعطاء بقوة، والتضحية في سبيله. وتذكر أن اتحاد الإمارات رمز كبير ونظرة ثاقبة استبقت عهدها في لم شمل أبناء الوطن تحت مظلة واحدة. وترى أن الإمارات بها عوامل جاذبة لمختلف الجنسيات، ولها إيجابيات كثيرة في حياة كل الشعوب، مشيرة إلى أن الاحتفالات الوطنية لحظات يحتاج فيها كل إنسان يقيم على أرضها إلى أن يعبر عن فرحته بذكرى ميلاد هذا الوطن وذكرى تأسيسه، ليشعر بالفخر والعزة ويتحفز لديه الشعور بالانتماء، وتضيف «هذا الشعور الذي يأخذ بأيدينا لتجديد العهد بالحفاظ على أوطاننا والمشاركة في بنائها وتقدمها والدفاع عنها، فتقوى جذورنا الممتدة التي تحفظ لنا هويتنا وتعزز شعورنا بالأمان».
فرحة عارمة
في سياق المناسبة، تقول إبراهيم إن الإمارات بجميع مكوناتها بدأت الاحتفالات الوطنية بالذكرى الأربعين للاتحاد، أفرادها ومؤسساتها وقيادتها، وأطفالها، وشبابها، وشيوخها، ومواطنوها، ووافدوها انخرطوا في الاحتفال بأربعينية الاتحاد، مستعيدين ذكرى تجربة فريدة في العالم خاضها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، تلك الشخصية التي احتلت مكانتها في قلوب الإماراتيين والعرب والأجانب لما تمتعت به من حكمة وتواضع ونظرة ثاقبة مهدت الطريق لميلاد دولة.
وتضيف «الاحتفالات تختلف من إمارة إلى أخرى ومن فئات عمرية إلى أخرى فتنتشر الأغاني والأناشيد والرسوم والألوان، وتتراقص ألوان العلم أمام أعيننا في الشوارع والمدارس، ومن خلال وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وتتوسع دائرة نشر الرسائل، التي نهنئ فيها أنفسنا وبعضنا البعض بما أنعم الله على هذه الدولة من أمن وأمان واستقرار أدى إلى جذب مختلف الجنسيات من مختلف أنحاء العالم شرقا وغربا إلى الوفود إليها والاستقرار بها».
وتفيد إبراهيم «لا شك أن هذه الاحتفالات وهذه الإبداعات المختلفة جعلت من المجتمع الإماراتي مجتمعا ذا تركيبة خاصة تتميز بالتعددية الثقافية التي أظهرت نوعا إيجابيا من التعايش بين هذه الجنسيات في ظل قانون «التأثير والتأثر بين الحضارات»، وفي هذا العصر الذي نعيش فيه انفتاحا وعولمة، نحن بحاجة إلى الحفاظ على الشعور بالانتماء، ولذلك سنجد أن هذا التعايش الإيجابي بين مختلف الجنسيات أوجد درجات متفاوتة من الانتماء للإمارات».
وتستدل إبراهيم بمثل عن خير المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم. وتقول «المثال الذي أسوقه هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يودع مكة المكرمة ليهاجر إلى المدينة المنورة بكى حزنا على فراق وطنه ومسقط رأسه، ولكنه دعا الله أن يحبب المدينة إلى قلوب الصحابة وآخى بين المهاجرين والأنصار، وأدى ذلك إلى تقوية الشعور بالانتماء لدى الجميع إلى المدينة، وكان نتاج ذلك أن أصبحت بفضل هؤلاء مركز إشعاع للحضارة الإسلامية».
استقرار وأمان
تشير إبراهيم إلى أن هناك سهولة كبيرة في انتماء الإنسان العربي لدولة عربية أخرى أكثر من شعوره بالانتماء لدولة أجنبية لا تجمعه بها عوامل وحدة. وتوضح «يجمع العرب عوامل وحدة مشتركة متعددة، تتمثل في دين ولغة وعادات وتقاليد، لكن هذا لا يمنع من أنه حتى الأجانب الذين أتوا من الثقافات الأخرى يعيشون شعور الانتماء عندما يشعرون بنوع من الاستقرار والأمن والأمان في الأوطان الأخرى، وهذا ما يشهد به الجميع لدولة الإمارات التي أصبحت جاذبة للجنسيات الأخرى، ولذلك في أوقات الاحتفالات باليوم الوطني على المؤسسات التربوية والتعليمية أن تجعل الاحتفالات تضم المواطن والوافد ليشعر الجميع بالانتماء. وتضيف «الانتماء عندما يسمو يتحول إلى درجة من الولاء وهنا يفعل المنتمي كل ما بوسعه من أجل إعلاء من شأن الوحدة الانتمائية، وهذا على مستوى المؤسسات فما بالنا بالوطن، إننا بحاجة إلى تقوية عضلة الانتماء لدى كل من يعيش على أرض هذا الوطن والبدء بالطفل في مراحله الأولى حتى لا يخرق شاب سواء كان مواطنا أو مقيما القوانين».
وتقول إبراهيم إن كل فرد في المجتمع لا يمكن أن يكون عابر سبيل في الأرض التي يحيا عليها، ولا يمكن إلا أن يتأثر بثقافات هذا الوطن ويؤثر فيها، ويشارك في صياغة أحداثه الاجتماعية والثقافية، ويسهم في بنائه، وهذا هو التعايش الإيجابي. وتضيف «لابد من ترسيخ هذه الثقافة في المراحل المبكرة من حياة الأطفال، وحتى في مجال التعليم الجامعي، ولعل المؤسسة التي تقع عليها المسؤولية الكبيرة في ظل عصر سيطرة الثقافة الإعلامية، هي المؤسسة الإعلامية التي لابد وأن تنمي هذا الشعور، وتسهم في نشر هذه الثقافة السمحة التي تعود بالنفع على مكونات هذا الوطن الكبير».
تجديد العهد
ترى إبراهيم أن الاحتفالات ومظاهرها في مختلف أنحاء البلاد، وممارستها من كل مكوناتها تتعدى أن تكون احتفالات بذكرى، بقدر ما هي تجديد للعهد لتصل إلى درجة الولاء. وتضيف «لا تدخل هذه الاحتفالات ضمن الطقوس التقليدية من أغان وأناشيد واحتفالات على مستوى الأفراد والمؤسسات، بل هي تجسيد لشعور معنوي كبير وهو الانتماء، وحب الوطن في ذكرى يوم تأسيسه واستعادة الذكريات». وتتابع «الاحتفالات تعكس الحب لهذا الوطن، وهي نوع من الإعلان عن تجديد العهد بالحفاظ على الوطن وتقدمه، حيث يرى عدد من المختصين في مجال التنمية البشرية أن هذه الاحتفالات بمثابة تجديد الدماء في عروق أبناء الوطن، ويبقى أن الأمل في أن تتحول هذه الاحتفالات اللحظية إلى مشروعات طويلة الأجل تتناسب مع مفردات هذا العصر، وترتبط بذكرى التأسيس والاتحاد، فمدلولها أعمق بكثير».
وتضيف إبراهيم «الانتماء للوحدة يتولد بالحب، والحب للمكان هو الذي يدفع للتضحية، وعندما نشعر بحب هذا البلد فتلقائيا يقوى حب الانتماء للوطن العربي وللعالم الإسلامي، ويشكل ذلك صمام أمان كبير لعالمنا»، مشيرة إلى أن هذه الاحتفالات رمزية، معانيها كبيرة في انتماء لعالم أوسع، وهي دروس في حوار الحضارات.
وتوضح إبراهيم أن المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله استبق عصره ووحد الإمارات وهذا العمل يصعب اليوم في ظل المتغيرات، وانطلق من خلال ذلك تدريجيا في توحيد الدول العربية، بحيث بدأ بدول مجلس التعاون، وكانت رغبته أكيدة في توسيع الدائرة لتشمل كل الدول العربية، وهذه الخطى يسير عليها خلفه الصالح.
احتفالات بلغة عصرية
تختلف الاحتفالات من مدرسة لأخرى، ومن جهة لجهة، لكن تصب كلها في اتجاه التنافسية، في هذا الصدد، تقترح الدكتورة علياء إبراهيم، خبيرة تنمية أسرية ومدربة مهارات حياتية إنتاج أفلام تسجيلية عن علاقة الإمارات بالدول العربية والأجنبية، وإقامة مسابقات في كافة المراحل التعليمية يشارك فيها جميع الجنسيات ليعبروا بالرسم والقصة والشعر والموسيقى والأفكار الابداعية عن حبهم لبلدهم تحت شعار «أحبك وطني» لتعزيز حب الوطن في قلوبهم. وتضيف «إننا بحاجة إلى أن نحتفل باليوم الوطني بالطقوس التقليدية وبلغة عصرية يستطيع أن يتفهمها هذا الجيل الذي سيحمل الأمانة وتقع عليه مسؤولية النهوض بهذا الوطن، لتحقيق انتماء أعمق».