25 نوفمبر 2011 00:15
اختيار الصديق يأتي بمطلق إرادة الإنسان وحريته، ولك أن تعجب من شأن ومنزلة حسن هذا الاختيار عندما تدنو الشمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة، فيقول الصالحون: يا رب الانصراف ولو إلى النار، ويقول الأنبياء: اللهم سلم سلم. هنا يتجلى الله برحمته على عباده فيقول سبحانه: يا عبادي إني اختصصت من بينكم عباداً اليوم، أظلهم في ظلي حيث لا ظل إلا ظلي فيعدد سبحانه وتعالى منهم (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)، ومن ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو داوود(إن من عباد الله أناسا ما هم بأنبياء، ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله .
«قالوا يا رسول الله خبرنا من هم؟ قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لايخافون إذا خاف الناس، ولايحزنون إذا حزن الناس»، فالحب في الله هو بداية الطريق في اختيار الصديق، الذي يجد الإنسان ثمرة صداقته وقت الضيق، وهو في الوقت ذاته عنوان لعلاقة قامت في حقيقتها لله.
الحب في الله
والحب في الله لايزعمه كل إنسان، ولا يصدق فيه أي أحد، إذ لابد أن يعرف الإنسان ربه أولا، حتى ترجح هذه المعرفة في نفسه كل ما عداها عندئذ، يصدق على المرء إذا أحب أو كره أنه أحب لله وكره لله.
والمحبة في الله لايقف الإسلام بها عند إطارها النظري، إنما تصورها غرسا مباركا، يثمر بين الأخلاء وفق أسس منطقية ودعائم منهجية، فأثر الصديق في صديقه عميق، ومن ثم كان لزاما على المرء أن ينتقي أصحابه، وأن يختبر حقائقهم لينظر إلى أي معدن ينتمون، فإن كانوا رجالاً أسوياء أخذوا بناصيته إلى الفضيلة، وسبلها فهم صحبة الخير، الذين يجب أن يشتري الإنسان مودتهم بالنفيس والثمين، وإلا فهم جنود الشيطان، الذين لا تطيب لهم نفس إلا بأخذه إلى الغواية والضلال.
فالصديق الصالح، هو الذي يقود صاحبه إلى النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، أما الصديق السيىء، فهو شؤم على صاحبه.
يقول سبحانه«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ».
ويقول النبى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي«المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»، ويضرب النبي صلى الله عليه وسلم للأمة مثلاً بالجليس الصالح والجليس السوء، فيقول في الحديث الشريف«إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك منه، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة».
المجالس النافعة
ومن ثم أخذ ابن حجر من هذا الحديث، النهي عن مجالسة من يتأذى الإنسان بمجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما.
وذكر التربيون أصنافاً من الناس يجب على المرء أن يحذر صحبتهم، منهم الفاسق، والبخيل، والكذاب، والأحمق وقاطع رحمه، وعللوا ذلك بأن الفاسق إنسان لا ذمة ولا عهد له، فمن الممكن أن يأخذ صاحبه إلى فسقه وضلاله . أما البخيل، فعللوا عدم صحبته، بأن طبع البخل فيه يجعله يتخلى عن صديقه وقت الاحتياج إليه، ويتنحى عنه وقت شدته، والصديق الحق من واساك في شدتك ومحنتك.
أما الكذاب فإنه يقرب لجليسه البعيد، ويبعد عنه القريب كما أنه غير مؤتمن في نصح أو مشورة ولهذا قال أبو عثمان المغربي«لا تصحب إلا أميناً ومعينا، فإن الأمين يحملك على الصدق، والمعين يعينك على الطاعة».
صحبة الأحمق
أما التحذير من صحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفع صاحبه، فينقلب نفعه إلى ضر نظراً لضعف عقله وعدم رجحان رأيه، ولذلك يقول صالح بن عبد القدوس في حكمه«ولئن تعادى عاقلاً خير من أن يكون لك صديق أحمق».
أما قاطع الرحم فعللوا لاجتناب صحبته بأنه إنسان لعنه الله في كتابه، وكفى بذلك سبباً لاجتناب مخالطته، والنفور من محبته، يقول سبحانه«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ»، من أجل ذلك اعتنى سلفنا الصالح بالصحبة الخيرة التي تأخذ بالنواصي إلى الجنة وبمجامع القلوب إلى طريق الله، حتى قال أحدهم «صحبة أهل الصلاح تورث في القلب الصلاح ، وصحبة أهل الفساد تورث فيه الفساد».
وقال الآخر يوصي ولده: يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتنسب إليهم وإن لم تكن منهم ، واعلم أن لكل شيء غاية، وغاية المرء حسن الخلق .
تعارف الأرواح
ولذلك كان تعارف الأرواح واختلافها أمارة لخير الصحبة وشرها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم«الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، يقول شراح الحديث وفي ذلك إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر، والصلاح والفساد، فالخير من الناس يحن إلى من يشاكله، والشرير يميل إلى نظيره، وتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع وما جبلت عليه من خير أو شر فإن اتفقت تعارفت، وإن اختلفت تناكرت.
د. محمد عبد الرحيم البيومي
كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات